الدكتور القس إبراهيم سعيدملائكة السماء! أنشدي اليوم نشيد العيد، وأعيدي
فالعالم اليوم في اضطراب، وحرب واحتدام
لا يقوى على سمع أنشودة ميلاد رب السلام!

فكلما وجدتِ أبناء الأرض لاهين عن سمع نشيد العيد
ارفعي صوتك يا ملائكة العيد، وأشيدي بأعذب النشيد
فقد سئم أبناء الأرض لغة أهل الأرض
وأضحوا يحنون إلى سمع لغة السماء من جند السماء.
ويا سماء الملائكة! اصفحي عن جهل البشر واغفري لهم ما هم عليه من خصام وشر.
لأن قلوبهم مستعرة بنفس تلك النيران التي تضطرم في قلب أمهم الأرض.
لا فرق بينها وبينهم، سوى أنها هي تدور حول نفسها مرة كل يوم
وهم يدورون حول بعضهم البعض في كل لحظة مرات.
هي تدور في فلك النور، في كل عام مرة
وهم يدورون في فلك الظلام ربوات المرات في كل عام.
هي تفرج عن نفسها بما تقذفه من جوفها من اللهب والحمم
وهم يثقلون كواهلهم بما يقذفون به بعضهم البعض من قذائف الفناء والعدم.
هي تحرثها دبابات من لحم ودم
وهم يحصدون بعضهم البعض بدبابات من حديد ونار.
رفقًا بنفسك أيتها البشرية الجريحة ولكن بأيدي بنيها!
لقد استعذبت العذاب، فاستطاب لك الشقاء كل أيام العام
أهو كثير عليك أن تستمعي يومًا لنشيد ميلاد ابن الإنسان؟
لقد اضطربت كل أيام السنة، في وادي الدموع والأحزان
فمن حقك أن تطربي يومًا بنشيد الفرح والرجاء.
منذ ألفي عام، رن في أذنيك صوت نشيد هذا العيد
فهل أنت اليوم أفضل منك منذ ألفي عام؟
يوم ميلاد فادي الورى، كنت تائهة في فيافي الفلسفة، والأوهام والآثام
فشغلتك "شُعَبُ" الفلسفة عن "الطريق"
وألهتك الأوهام عن "الحق"
وقتلتك الآثام، فحالت بينك وبين "الحياة"
فهل تقدِّرين اليوم رسالة "الطريق والحق والحياة؟"
منذ عشرين قرنًا، وُلد فادي البشر فعزّ عليك أن تقدمي له مضجعًا في ذلك النزل المحتقر
فسبقك الحيوان في هذا الميدان، إذ ولد ابن الإنسان في مذود للبقر.
في ليلة مجيئه لم تسهري لحظة لتستقبلي ذلك الضيف العزيز المقتدر
فسبقتك الأفلاك في هذا الميدان إذ سهرت عليه نجوم الليل والقمر.
في ساعة مجيئه لم تنبسي ببنت شفة إيذانًا بمقدمة الميمون
فسبقتك الأملاك في هذا الميدان، فانشد نشيد عيده جند السماء.
نعم عرفتِ أيتها البشرية أن تستقبلي جزَّازيك وفاتحيك
حين استقبلت "النسر" و "فرخ النسر" كما استقبلت قبلهما شرلمان وقيصر، والإسكندر
لكنك لم تستقبلي رافع آثامك، وحامل أوزارك، ومطهر أدرانك.
لا، لقد استقبلته – ولكن بالإعراض والإحجام يوم ميلاده
وبورقة الاتهام وصليب الإعدام يوم وفاته.
فهل أنت اليوم أيتها البشرية أحسن منك حالاً قبل ألفي عام؟
حنانيك أيتها البشرية المظلومة – ولكن من بنيك!
نعم، فيك اليوم حرب تحتدم نيرانها وتضطرم.
لكن ضمير الأمم لم يستيقظ ويتغيظ ضدّ الحرب مثلما نراه اليوم.
كم من مرة أشهر القوي على الضعيف حربًا عوانًا، فأصلاه نارًا حامية
فوقف العالم بجانب القوي مهلّلاً ومكبّرًا.
ولكننا نرى اليوم جلّ العالم يقف بجانب الضعيف كالندّ حاميًا.
هذا دليل على أن البشرية بدأت تحارب الحرب، وتخاصم الخصام، وتصافح السلام!
هذا برهان على أن رسالة السلام بدأت تشقّ طريقها إلى قلوب الأنام.
هذه حجة على أن جل ليل الظلام قد ولّى وأدبر.
فصرنا قريبين من "كوكب الصبح" المنتظر الذي يطلع على بشرية جديدة تحب الخير وتكره الضرر.
عندئذ تنحني السماء لتعانق الأرض، وتتسامى الأرض لتلامس السماء
فيختلط نشيد البشر بنشيد السماء، حين يرتل الكل قائلين:
"المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة"
"على الأرض السلام!" ليست هذه لغة اليائس الذي ينعى الأرض، وإنما هي لغة الرجاء تحيّيها وتحيِيها!
فأنشدي إذًا يا ملائكة السماء نشيد العيد وأعيدي
لتحدّثي العالم من جديد، عن هذا المولود العجيبِ
الذي وهو طفل في مذود، قد هزّ عرش هيرودس.
وحول مهده الوضيع، جمع رعاة الأغنام إلى حكماء المجوس
فساوى الفقير بالغني، ووفق بين البسطاء والحكماء، وصالح اليهود بالأمم.
وُلد في عصر خاص، لكنه تخطى كل عصر، وسيطر على الزمن وصار علم التاريخ.
عاش في موطن خاص، لكنه أضحى مُلكًا مشاعًا لكل وطن.
لم يحمل معه زادًا، لكنه صار "خبز الحياة."
لم يحمل معه مصباحًا، لكنه أضحى "نور العالم."
لم يحمل سيفًا ولا عصا، لكنه صار ملك القلوب.
لم ينظم نشيدًا واحدًا، لكن أبدع الألحان تنشد يوم ذكراه.
لم يعمر على الأرض إلا جيلاً واحدًا لكنه فتح باب الحياة أمام كل جيل.
لم يبنِ لنفسه بيتًا، لكن أفخر القصور مهيّأة لسكناه.
لم يحفر لنفسه "عينًا" واحدة، لكن قلبه ينبوع عزاء لكل "عين" باكية وكل قلب كسير.
فقوته الظافرة مستمدة من محبته الغافرة.
منذ ألفي عام، وضع للبشرية "المثل الأعلى" بتعاليمه، وحياته، وتضحيته
وإلى اليوم لم تستطع البشرية أن تصل إلى هذا "المثل" أو تتخطاه
مع أنها منذ القدم تخطت فلسفة سقراط، وحطمت "قالب" تعاليم أفلاطون، وتعدّت حكمة بوذا.
لكن "المثل الأعلى" الذي وضعه الناصري، ما زال يرتقي فوق الأجيال متساميًا.
فلا هو بعيد عنها بعد الخيال، ولا هو متدان منها إلى حدّ الابتذال.
لكنه بعيد عنها إلى حدّ لا يمكنها أن تتخطاه، وقريب منها إلى حدّ يشجعها على الوصول إليه.
فلا هي تتركه، ولا هي تطرقه – هذا هو نعم المثال.
* * * * *
هذا هو المسيح الوديع الجبار المقتدر.
لقد ظفر بالحياة، إذ دخلها من باب لم يسبقه إليه بشر.
وظفر بالدنيا، إذ عاش فيها عيشة سامية لم يشق له فيها أثر.
وظفر بالموت، إذ كسر شوكته وأنار ظلمة القبر.
وظفر بالطبيعة، إذ أسكت العاصفة، وهدأ أمواج البحر.
وانتصر على البشرية، فصاغ من النجس الشرير، قديسًا تقيًا.
وصنع من الجبان الرعديد، جبارًا قويًا.
وأقام من الشحيح المقتر، كريمًا سخيّا.
فلا يعظم عليه أن يزيح عن البشرية الغاشية، فيحطم سيوفها، ويدفع عنها مدافعها.
عندئذ تصير أرضنا نعيمًا هنيًا، فيهتف الكل قائلين بكرة وعشيّا:
"المجد لله في الأعالي،
وعلى الأرض السلام،
وبالناس المسرّة."

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2019