وُلدت بالقاهرة، وفي المرحلة الإعدادية والثانوية اشتركت في كثير من المعسكرات الكشفية التي كانت تُقام في معسكر الكشافة بحلوان.

في المرحلة الثانوية نجحت في انتخابات اتحاد طلاب المدرسة، ومن خلالها اشتركت في مؤتمر اتحاد طلاب الجمهورية الذي عقد بالإسكندرية، ولأول مرة كنت أزور الإسكندرية وأرى البحر وأنا في سنّ 18 سنة، بعدها رُشّحت للاشتراك في منظمة الشباب الاشتراكي، التابعة للرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يعمل جاهدًا على تعليم الشباب الفكر الاشتراكي، ودرسنا معنى الديمقراطية (أنها هي حرية التعبير عن الرأي) والقومية العربية (أنها العمل على وحدة الدول العربية) وغيرها من المعاني الضخمة في قاموس السياسة، لكني لم أستمرّ في هذا الطريق.
اشتركت في الكثير من المظاهرات المؤيدة للرئيس جمال، وكنت سعيدًا برفع علم مصر عاليًا، والهتاف باسم ناصر زعيم الأمة العربية. ومن خلال نشاط الكشافة، واتحاد الطلاب، كان لي علاقة طيبة مع كل الطلبة من مسلمين ومسيحيين، جميعهم أصدقائي.
رغم هذا لم أنسَ يومًا ما حدث عندما كنت صغيرًا في المرحلة الابتدائية، في الصف الرابع الابتدائي، حين سألني مدرس اللغة العربية في حصة الدين الإسلامي عن آية قرآنية لم أعرفها، فضربني وشتمني وطردني من الفصل لأنني مسيحي وموجود في حصة الدين الإسلامي، وقد تألّمت كثيرًا وقتئذٍ، ولم أكن حينها أعرف الفرق بين مسلم ومسيحي، لذا تعجّبت من تصرف المدرّس معي بهذا الشكل.
كانت فترة المرحلة الثانوية، هي فترة البحث والتساؤل المستمر عن كل شيء، عن الله والحياة؛ عن الألم والفقر؛ عن الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية. أين الصواب وأين الخطأ، وبسبب عدم حصولي على إجابات واضحة لأسئلتي الكثيرة، ورفض الكثيرين الاستماع إلى أسئلتي، اتجهت إلى قراءة فكر الإلحاد، وساعدني على ذلك كثرة الكتب المتداولة في تلك الأيام والمطروحة بالسوق بوفرة وبأرخص الأسعار (كتب سيمون دي بوفوار وسارتر)، والتي تتحدث عن كل أفكار الإلحاد، وخصوصًا إنكار وجود الله، والدعوة إلى الحرية المطلقة، ورفض كل القيود العائلية والمدرسية والكنسية، مما دفعني للحوار مع أصدقائي الشباب في الكنيسة عن كل هذه الأفكار، وبسبب عدم الحصول على إجابات مقنعة ازدادت الفجوة بيني وبينهم!
أحببت القراءة، وخصوصًا القصص البوليسية، والروايات الصغيرة عن شارلوك هولمز؛ آرسين لوبين؛ وروايات آجاثا كريستي، كما أدمنت على مشاهدة الكثير من أفلام المغامرات والبطولة، مثل فيلم نضال الأبطال؛ سبارتكوس؛ وهرقل وغيرهم. كما قرأت بعض المسرحيات العالمية المترجمة مثل البؤساء؛ الأرانب؛ والإنسان الآلي؛ والمستجيرات؛ وبعض روايات الكاتب الروسي تولستوي. رغم ضعف إمكانياتي المادية، لكني كنت أجد في هذه الكتب لذة ومتعة كبيرة، ومعلومات كثيرة فتحت آفاق المعرفة أمامي.
أيضًا قرأت الإنجيل، وأحببت شخصية يسوع، وقرأت بعض كتب العهد الجديد، ونتيجة لما قرأت وشاهدت ولطبيعة سن المراهقة، بدأت رحلة البحث عن الله، أريد أن أعرفه من هو، وأين هو. وإن كان الله هو الذي خلق الكون فمن خلق الله؟! وتخبطت الأفكار في ذهني، حتى وصلت لمرحلة الشك في كل شيء، وفي وجود الله نفسه، وتأثّرت بنظرية داروِن عن نشوء المخلوقات وتطوّرها، ونتيجة لهذه الأفكار، تركت اجتماعات الكنيسة، ونحّيت الكتاب المقدس جانبًا، وتركت لنفسي العنان، فجمحت بفكري في كلّ اتجاه!
لكن مشاعر الحزن واليأس والقلق بدأت تزحف إلى حياتي، ولم أعدْ أرى أي معنىً للحياة، وخصوصًا بسبب الصراع الفكري، إضافة إلى المشاكل العائلية والظروف المادية الصعبة التي كنت أعيش فيها، وفكّرت في الانتحار.
هنا ألحَّ على ذهني سؤال: "ماذا بعد الموت؟ ماذا سيحدث لي عندما أموت؟" وكنت كلما رأيت نعشًا لإنسان ميت، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: "هل هذا المشهد هو نهاية الحياة؟ هل هذا معقول؟ أين ذهب هذا الإنسان الذي مات؟ هل إلى العدم؟ هل إلى المجهول؟ وكنت في أعماقي أصرخ قائلاً: "مستحيل أن تكون هذه هي نهاية الإنسان! وإن كانت نهاية الحياة هي الموت، فلا معنى للحياة، ولا داعٍ لأن أحياها، لأنها لا تستحقّ، إذًا لا بد أن أبحث، لأعرف عن ماذا بعد الموت!" وقرأت عدة كتب، من بينها "لغز الموت" للكاتب مصطفى محمود، مما زاد في حيرتي، ثم كتاب "الموت والعبقرية"، كتاب فلسفي للكاتب عبد الرحمن بدوي، وغيرهما... لكن صوت الأبدية والخلود كان يرنّ في أعماقي، كما يقول الكتاب المقدس: "صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ." (الجامعة 11:3)
السؤال الثاني الذي شغل تفكيري، هو:
"كيف تعمل الساعة التي كنا نستخدمها في الستينات بالعقارب؟ الساعة التي كانت في يدي تتحرك بكل دقة وانضباط، من أين جاءت هذه الدقة؟ هل تطورت من قطع الحديد، وأصبحت مع الزمن والتطوّر مجموعة تروس تتنافس مع بعضها، وتتقارب لتصير بعد ملايين السنين، ساعة دقيقة، هل يقبل عقلي هذا؟ طبعًا لا وألف لا! ما هذا الغباء؟"
هذا ما قلته لنفسي! لا بد أن يكون وراء هذه الساعة، مصنع ضخم، ومهندسون عباقرة، وعمال مهرة، تمكنوا من صناعة هذه الساعة الدقيقة، وطوّروها مع الخبرة والسنين، حتى وصلت إلى هذه الصورة من الروعة والدقة والجمال.
من هنا بدأتُ أفكّر، لا بدّ أن أُمعن التأمّل في هذا الكون الشاسع، ملايين النجوم والكواكب والمجرّات، تسير في دقة متناهية، أنظر إلى هذه الطبيعة الجميلة، من خضرة وألوان الأشجار والزهور، وأنظر إلى عالم الحيوانات وعالم الطيور، ثم أنظر إلى الإنسان الرائع بكل الأجهزة الكثيرة التي تعمل في جسده بمنتهى الدقة والروعة. من خلق كل هذا؟ وصرخت مع نفسي قائلاً: "أنت الله الخالق العظيم، خلقت هذا الكون البديع، وخلقت الإنسان في أحسن تكوين، ساعدني يا رب لكي أعرفك، ساعدني يا رب أن أفهم نفسي، وأن أصل إليك."
إذن لا بد من البحث عن الخالق، عن الله، عن الإنسان، عن الأبدية، ورجعت مرة أخرى إلى الكتاب المقدس، في رحلة بحث عن الله، الذي خلقني فأبدع في خلقي، في محاولة للتعرف به، من خلال إعلاناته عن نفسه في كتابه، ورجعت إلى الكنيسة. ولكن كانت الكنيسة بالنسبة لي مجرد شلّة من الأصدقاء، نتقابل معًا في اجتماع الشباب مرة كل أسبوع، نرتّل مجموعة من التراتيل الجميلة، ثم نستمع إلى عظة لمدة نصف ساعة، لا أفهم منها الكثير، لكن الأهم هو ما بعد الاجتماع، حيث نقف معًا مجموعة من الأصدقاء، أو نخرج معًا إلى كورنيش النيل في الصيف، أو نلعب معًا في نادي الكنيسة ألعابًا كثيرة أهمها بالنسبة لي، الشطرنج وتنس الطاولة.
في 5 يونيو 1967 انهزمنا في الحرب مع إسرائيل، ولم أصدق ما حدث! كانت الهزيمة صدمة مريرة لي، واهتزت صورة الزعيم عبد الناصر في فكري، وضاع حلم القومية العربية، وصِرت أكره كلمة إسرائيل، حتى لو قرأتها في الكتاب المقدس. وازداد إحساسي بالغربة، وبالضياع الشخصي الذي أشعر به، وبالألم على ضياع بلدي، والجيل الذي أعيش فيه، ضاع الأمل والمعنى للحياة، والهدف الذي أعيش من أجله. لمن أذهب؟ وإلى أين أذهب؟
للموضوع بقية

المجموعة: أيار (مايو) 2019