"تسرّعٌ في البحث، تقوى في الإيمان، أمان في البشارة، وبركات أبديّة في معرفة الثالوث." هكذا وصف توماس آدمز ما يحدث عند دراسة موضوع الثالوث. فما كُتب عن الثالوث كثير جدًا، لكن مفهوم الثالوث يبقى من المواضيع الأصعب لأسباب قديمة ومتنوّعة.

أوّل هذه الأسباب وأهمّها هو الهجوم المركّز والمستمرّ من البدع والهرطقات على ألوهية المسيح يسوع. ذلك لأن الاعتراف بيسوع المسيح كرَبٍّ معبود سيقود حتمًا إلى عقيدة الثالوث بشكلٍ عام. فمن لا يقبل ألوهية يسوع لا يمكن أن يقبل الثالوث.
إن الهجوم على مفهوم الثالوث هو الأسهل والأقرب إلى الإنسان البعيد عن الإعلان الإلهي. بالإضافة إلى أنه الأكثر شعبيَّة من الهجوم المباشر على المسيح. فعلى الرغم من وجود من يؤمن بألوهية المسيح ولا يتبنّى مفهوم الثالوث، إلا أنه تاريخيًّا، كانت عقيدة الثالوث تتقدّم للدفاع عن ألوهيّة المسيح وتؤكّد مساواته الكاملة مع الآب.
هذه العقيدة ليست توضيحًا لإعلانات كتابيّة ومفاهيم معقّدة عن جوهر الله وطبيعته فقط، بل هي مهمة جدًا للاختبار المسيحي الكامل. يقول اللاهوتي الپـيوريتاني الكبير جون أون إن عقيدة الثالوث تنظِّم العبادة لله. إذا أردنا أن نُسِرَّ قلب الله في عبادتنا، علينا أن نعبده بأمانة بحسب إعلانه عن نفسه. العبادة الروحية لله هي شركة مع الآب والابن والروح القدس. "لأن به (أي بالمسيح) لنا كلينا قُدومًا في روحٍ واحدٍ إلى الآب." (أفسس 18:2) إذًا، عقيدة الثالوث تنظّم العبادة، وهي التعريف الوحيد للاختبار الإنجيلي الروحي. فإذا تأمّلنا بدور المسيح التشفّعي نرى أنه يُظهر الثالوث. فالروحانية من دون الثالوث هي روحانية من دون الإنجيل، أي ديانة طبيعيّة. عقيدة الثالوث تجعل من الروحانية عميقة العلاقة بالله، وتحمي الإيمان المسيحي من أن يصبح اختبارًا صوفيًّا مع إله غير شخصي.

إله واحد
من الأساس والبديهي أن الإيمان المسيحي هو إيمان موحِّدٌ: "الربّ إلهنا ربٌّ واحدٌ." (تثنية 4:6) "أنا الرب وليس آخر." (إشعياء 6:45) "والمجد الذي من الإله الواحد." (يوحنا 44:5) "لأن الله واحد." (رومية 30:3) "ولكن الله واحد." (غلاطية 20:3) "إلهٌ وآبٌ واحدٌ للكل." (أفسس 6:4) لكن بسبب عدم تحديد مضمون الإشكالية، تزداد الصعوبة لكثرة ما يدور من بحث ونقاش في الموضوع. فالخلاف ليس على وجود إله واحد أو ثلاثة آلهة، بل على كيفية وجود هذا الإله الواحد. هل هو كائن واحد في ثلاثة أشخاص، أو كائن واحد في شخص واحد؟ السؤال المهم هو: هل يوجد تعدُّديّة ضمن الوحدانية؟
إن الاتهامات الزائفة بأن الاعتقاد بمفهوم الثالوث هو إيمان بثلاثة آلهة، يكشف منذ البداية عن جهل مدَّعيه وعن عدم قدرته على مقاربة الموضوع بإخلاص وبشكل علمي ومنطقي وكتابي.
بما أنه لا يوجد إلا إله واحد وكائن واحد هو يهوه الرب الأزلي والأبدي وغير المحدود، ولا يوجد من يُشابهُهُ ولا من يستطيع أن يستوعبَهُ، لا يبقى أمامنا إلا أن نعتمد على صدقه في إعلانه لكي نفهم ما يكشفه لنا عن كينونته، وكيفيّة وجوده.

وجود الابن الأزلي
من المؤكّد أن ابن الله تجسّد وعاش ومات وقام. وهو الآن عن يمين الآب يشفع فينا. إن تمايُز الابن ومساواته مع الآب منذ الأزل، أي قبل التجسّد، هما برهانان قاطعان لوجود الثالوث، وتأكيد وجود وحدانية تتخلّلها أكثر من شخصية. فليس من الممكن وجود من هو أزلي وسرمدي مع الله، ما لم يكن يشاطره الجوهر والكيان الواحد.
وحده الابن هو "بهاء مجده، (أي مجد الآب) ورسم جوهره، وحاملٌ كلَّ الأشياء بكلمة قدرته." (العبرانيين 3:1) ووحده هو أيضًا "صورة الله." (2كورنثوس 4:4) هو الله الذي ظهر في الجسد (1تيموثاوس 16:3). ومن يراه يرى الآب (يوحنا 9:14). فما من أحدٍ يشاركه هذا الوصف بتاتًا.
كتب الرسول بولس عن المسيح في رسالة فيلبي هذه الكلمات: "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خُلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس." (6:2-7) أولاً، يؤكد هذا النص على وجود المسيح الأزلي قبل التجسُّد. ثانيًا، يؤكد أن المسيح كان شخصًا إذ "أخلى"، و"تواضع"، و"لم يحسب"... من الواضح هنا أن المسيح كان يمتلك مقامه، من أجل ذلك أخلى نفسه إلى حين، وإلّا فلا معنى للإخلاء. إذن، هو لم يرتقِ إلى مرتبة الابن، بل كان ابنًا وحيدًا منذ الأزل كما يظهر أيضًا في إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله." (1:1) "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا." (يوحنا 14:1)
فوجود المسيح الأزلي مع الآب مُشارٌ إليه في أكثر من مكان: "يسوع وهو عالمٌ أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي." (يوحنا 3:13) "أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر." (رؤيا يوحنا 13:22) وفي خطاب المسيح الموجّه نحو الآب قال: "والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم." (يوحنا 5:17) إن المسيح هو صاحب المجد قبل وأثناء وبعد الصليب، فالله لا يعطي مجده لآخر.

ألوهية المسيح
كثيرة هي الآيات الكتابية التي تُظهر أن يسوع المسيح ابن الإنسان، هو أيضًا كامل الألوهة ويُدعى الله مباشرة. وهذه بعض الآيات التي تؤكّد لنا تلك الحقيقة: "منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح." (تيطس 13:2) "سمعان بطرس عبدُ يسوع المسيح ورسوله، إلى الذين نالوا معنا إيمانًا ثمينًا مساويًا لنا ببرّ إلهنا والمخلّص يسوع المسيح." (2بطرس 1:1) "ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد." (رومية 5:9) "أجاب توما: ربي وإلهي." (يوحنا 28:20)
ذكر يوحنا في إنجيله الأصحاح 12 أن إشعياء رأى مجد المسيح. وإذا ذهبنا إلى سفر إشعياء النبي الأصحاح 6 من حيث اقتبس يوحنا كلامه، نرى بوضوح أن النصّ يقول إن إشعياء رأى مجد الرب. خاطب كاتب الرسالة إلى العبرانيين المسيح في الأصحاح 1 على أنه الله، مُقتبِسًا من المزمور 45. وليس في وسع أحد أن يُنكر أن الابن قد دُعي الله في سفر العبرانيين في الآية المقتبسة من المزمور 45 إلّا إذا تجاهل القرينة الكاملة للسفر. وكذلك، من دون أن نخالف قواعد اللّغتين العبريّة (في المزامير) واليونانية (في الرسالة إلى العبرانيين)، وبدقّة لا جدل فيها نجد مكتوبًا: "وأما عن الابن: كُرسيّك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامةٍ قضيب ملكك." (عبرانيين 8:1)
إن المسيح يسوع هو الخالق (يوحنا 3:1)، وهو مصدر الحياة (يوحنا 4:1)، وهو الإله الحق (1يوحنا 20:5)، وهو الإله المبارك (رومية 5:9)، وهو الكائن (يوحنا 58:8)، والكل به وله (كولوسي 16:1)، وفيه يقوم الكلّ (كولوسي 17:1)، وهو الأول والآخر (رؤيا 17:1). هذه عيّنة صغيرة عن صفاته وألقابه، ولا مجال لذكر حتى أعماله الكثيرة التي بدورها تشهد عن طبيعته الإلهيّة.

الإنسان الكامل
ماذا عن قول المسيح: "أبي أعظم مني" ودعوته الآب "إلهي"، وغيرها مما يحاول الناس استخدامها للتشكيك في مساواته بالآب وبالتالي التشكيك في مفهوم الثالوث؟
علينا أن نجمع كلَّ الحقائق ولا نعزل أيَّ إعلان عن الآخر. كما علينا قبول الحقيقتين الكاملتين والمُتمثّلتين بأن المسيح هو الإله الكامل، كما سبق وبيّنّا، والإنسان الكامل، كما تُشير الآيات التالية. فهذه الأخيرة تُشير وبروعة إلى إخلائه نفسه أثناء التجسُّد، تواضعه، وتقواه، ودوره الوظيفي الخاضع كإنسان كامل أثناء الفداء، من دون المسّ بطبيعته الإلهية أبدًا. تقول الآية في كولوسي 9:2 "فإنه فيه يحلّ كل ملء اللاّهوت جسديًّا." لم يحتج التجسّد المَسّ بالألوهة، ولا يستطيع الله في أي وقت أو عند إتمام أي عمل أن يصبح "أقلّ من الله". يقول توزر: نحن لا نُنْزِل من مقام الله، لكن نرفِّع من مقام الإنسان، هذه روعة الفداء."
تُبنى أية حقيقة من خلال جمع كل الإعلانات المتراكمة والمتدرّجة، وليس باختيار جزءٍ منها فقط. فمَن كان موجودًا منذ الأزل وحاملاً كل الصفات الإلهية أصبح إنسانًا كاملاً وتمّم الفداء. لذا هو إله كامل وإنسان كامل، ولا مشكلة في أي كلام يدلّ على إنسانيّته.

يتبع في العدد القادم

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2019