لا أنسى مشهدًا حُفر في ذاكرتي قبل أكثر من نصف قرن، إذ زارني شيخ لطيف لم ألتقِ به من قبل، وكان برفقته بعض من رجاله، وكانت المناسبة عيدًا من أعيادنا... يبدو أنه كان عيد القيامة!

المنطقة التي كنا نسكن فيها منطقة ريفية عشائرية غنية بالألفة والتقاليد الاجتماعية الطيبة والتواصل بين جميع طوائف الناس، فالكل يزورون بعضهم البعض في المناسبات المختلفة، يقومون بالواجب بلا تمييز بين هذا أو ذاك، والشيخ الجليل كان مفتي المنطقة آنذاك.
رحبت به ومن معه وتعارفنا، ودارت أحاديث ممتعة، ومن بينها مرّ الحديث عن أبينا إبراهيم وتقديم ولده إسحق كأضحية على المذبح في جبل المريّا في مدينة القدس، وكيف تدخّل الله وقال لإبراهيم: ارفعْ يدك عن الصبي، فجمد قلب إبراهيم وردّ السكين إلى غمده، ثم التفت حوله وإذ بكبشٍ مربوطٍ بجذع شجرة على مقربة منه لم يكن له وجود من قبل، فأخذ إبراهيم الكبش وقدّمه على المذبح بدل ابنه. فإسحق في هذه الحالة كان في حكم الموت، وقام، وتمتّع بالحياة من جديد! ثم رجع الاثنان بسلامة الله. لهذه العملية أبعاد روحية يدركها الباحثون عن الحقيقة.
خلال المباحثات أثناء الجلسة الطيبة سألت فضيلة الشيخ أستوضحه فقلت: يشير القرآن إلى كبش إبراهيم الذي افتدى ولده بأنه "ذبحٌ عظيم"، فالعظمة هناك كما ترى أُطلِقت على حيوان، ما تفسيرك لهذا؟!
فردّ الشيخ على الفور: "إن الكبش المُشار إليه لم يأخذه إبراهيم من قطعان أغنام الناس، بل نزل عليه من السماء ليفدي ولده، وكل ما ينزل من السماء فهو عظيم."
قلت: "هل تعلم يا شيخنا بأننا كمسيحيين نؤمن أن هذا الكبش العظيم يرمز للمسيح؟!
قال: "كيف؟"
قلت: "الكبش نزل من السماء ليفدي ولد إبراهيم، والمسيح نزل من السماء ليفدي البشرية. فهو لم يوجد من تزاوج رجل وامرأة، والدليل نزوله من السماء أنه بعد أن قام بالمهمة التي جاء من أجلها، عاد إلى مكان سكناه في السماء. وكما قام إسحق من المذبح الذي اضطجع فيه وتمتع بالحياة من جديد، هكذا المسيح، صُلب ومات واضطجع في قبره، وفي اليوم الثالث غلب الموت وقام، وهو من حينها حيّ... وها قبره اليوم ومنذ ألفي عام في كنيسة القيامة قبرًا فارغًا مفتوحًا مشرّع الأبواب من دون قبور الناس، لا عظام فيه ولا بقايا جثمان.
في لقاء لاحق مع الشيخ الجليل استأذن بالحصول على نسخة من الكتاب المقدس فقدّمته له. وبعد بضعة شهور التقاني في مناسبة أخرى، وشكر وعبّر عن إعجابه بما قرأه عن المسيح من مواقف ومواعظ وأعمال تبهر العقول.
واليوم أقولها لقارئي الكريم من أي خلفية كان، فنحن كمسيحيين عندما نتحدّث عن المسيح وعن صليبه وقيامته، لا نتحدث عن مجرّد معتقدات نحملها في قلوبنا ونرددها على ألسنتنا، بل نتحدّث عن حقائق ربانية موثّقة تسندها نبوات واضحة صريحة سبقت مجيء المسيح بقرون عديدة لا يشوبها إبهام، فأنبأت عنه بتفاصيل دقيقة لا تنطبق على غيره، وفي بعضها تذكره باسمه الصريح: المسيح!
لا توجد لدينا مشكلة في إثبات ما نؤمن به بخصوص هوية المسيح، أو صلبه، أو قيامته.
في الحديث عن القيامة لديّ الملاحظات التالية:

أولًا: الأناجيل الأربعة التي تشكّل كامل إنجيل المسيح، هي شهادات أربع تروي معًا قصة حياة المسيح من يوم مولده ونشأته وبدء خدمته وتعاليمه ومعجزاته وصلبه وقيامته، إلى يوم صعوده إلى السماء أمام أعين تلاميذه في وضح النهار.

ثانيًا: قيامة المسيح بعد صلب مؤكَّد وموت محقَّق، فذاك حدث مميز غرس في قلوبنا العزة بأننا ننتمي إلى مسيح حيّ لا مكان له بين الموتى ولا مقرّ له بين القبور، وصاحب القبر ليس فيه لأنه حيّ. فعندما نخاطبه في صلواتنا، يسمعنا ويستجيب لأدعيتنا لأنه حيّ.

ثالثًا: قيامة المسيح قدّمت لنا عربون الحياة بعد الموت، لأن المسيح مات وقام، فالموت ليس هو الفناء كما يتوهّم البعض. عندما مات المسيح ذهب إلى عالم الأموات، وصرف وقتًا كافيًا للتأكيد على موته، ثم قام. فقيامته أكّدت لنا حقيقة راسخة مفادها أن عبور هذا النفق المعتم الذي يسمّى الموت، هو عبور آمِن ينتهي إلى حياة أبدية في عالم الخلود. وهذا ما سبق وأشار إليه داود في مزاميره بالقول: "أيضًا إذا سرت في وادي ظلّ الموت، لا أخاف شرًّا لأنك أنت (يا الله) معي." أنت رفيقي في دربي تحملني إلى الشاطئ الآخر حيث النور الحقيقي والحياة الدائمة.

رابعًا: قيامة المسيح تحمل في طياتها معنى التحدّي في وجه الشيطان. الشيطان يرتعب من ذكر الصليب لأن الصليب هو مفتاح الحياة، والشيطان عدوّ الحياة. الصليب أنجز عملية المصالحة بين الله والإنسان، وبعدها جاءت القيامة لتؤكد على صدق رسالة الصليب بأنها رسالة حياة، والذين قبلوا هذه الحقيقة وعاشوها كُتبت أسماؤهم في سجل الخلود. وهذا ما ناله اللص المصلوب بجانب المسيح بعد أن طلب منه الرحمة حين قال نادمًا: " أذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك." فرد عليه المسيح قائلًا: "الحقّ أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس."

خامسًا: صُلب المسيح ودُفن في قبره، وحزن تلاميذه لموته وأصيبوا بحيرة إذ لم يدركوا بعد وضوح أبعاد ما جاء لأجله، مع أنه في حياته بينهم حدّثهم وأنبأهم عن موته وقيامته لخلاص الخطاة. فالروح القدس لم يكن قد حلّ عليهم بعد لتتكشّف لهم أبعاد الحقيقة التي جاء المسيح لأجلها.
في اليوم الثالث للصلب جاءت النسوة المؤمنات وبينهن مريم المجدلية حاملات الطيب لينشرنه على جسده. وكنّ في الطريق محتارات فيمن يدحرج لهن الحجر الكبير الذي يسدّ القبر. وعندما وصلن ساحة القبر ذُهلن إذ وجدنَ أن الحجر قد دُحرج وبدا القبر فارغًا في الداخل فزاد ذلك من حيرتهنّ، وفجأة ظهر لهن ملاك خاطبهن بالقول:
"لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟! ليس هو ههنا لكنه قام!" فازددن حيرة.
كلمات الملاك تلك لم تكن مجرّد سؤال، بل إعلان قرار. والقرار لم تستوعبه النسوة فور سماعه، فالموقف رهيب وتراكم الأحداث المتوالية خلال ذلك الأسبوع زادتهن حيرة كباقي التلاميذ. فرجعن ليخبرن تلاميذه بما سمعن وشاهدن. وهناك تلميذَي عمواس في إنجيل لوقا 22:24. نجد أيضًا ما يشير إلى الحيرة التي استبدّت بالجميع من تلاميذ ونسوة مؤمنات، فكلهم لم يكونوا بعد يدركون الأبعاد الروحية لعملية الصلب والقيامة إلى أن حلّ عليهم الروح القدس في يوم الخمسين وأنار قلوبهم وأدركوا الحقيقة كما هي وصاروا فيما بعد شهودًا لها.

سادسًا: المسيح قام! فهو حيٌّ إذن. والحيّ طليق حرّ يتحرّك ويتنقّل ويقوم بمهامه كما يريد. ولأنه حيّ، فبعد أربعين يومًا من قيامته أخذ قراره وغادر أرضنا على مرأى من تلاميذه في وضح النهار، فأخذته سحابة عن أعينهم وارتفع إلى السماء التي منها جاء. وبينما هم كذلك، وقف بهم ملاكان بلباس أبيض وقالا لهم: "أيها الرجال الجليليّون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟! إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي (ثانية) هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء."
وبعد أن اطمأنّوا أنه سيأتي ثانية رجعوا إلى أورشليم، وبدأت بعدها مسيرة الخدمة لينشروا الخبر لشعوب الأرض. لم يحملوا سيفًا ولا رمحًا، لكن نادوا بالكلمة وأخبروا بما رأوه وسمعوه.
المسيح قام وصعد إلى السماء، وهو آتٍ ثانية، ونحن بانتظار عودته بكل شوق، ونردد مع عروس سفر الرؤيا التر ترمز إلى الكنيسة: آمين! تعال أيها الرب يسوع، نحن بانتظارك بكل شوق.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2020