"إنني لا أريد أن أكون بطلًا، إذ لا يزال والداي على قيد الحياة، وكذلك أطفالي، وزوجتي حامل في شهرها الأخير، والعديد من مرضاي يعانون في هذا العالم.

مع أن نزاهتي لا يمكن أن أستعيضَ عنها بصلاح الآخرين، وبالرغم من ضياعي وارتباكي، لكن عليَّ أن أقوم بواجبي على أي حال. مَنِ الذي سمح لي أن أختار بلدي، أو عائلتي؟ كم من الآلام ينبغي أن أجتاز؟ حين تنتهي هذه المعركة سأنظر إلى السماء بعيونٍ ملأى بالدموع تتساقط على وجنتيَّ كالمطر المنهمر.
"كلاّ لست أريد أن أكون بطلًا، لكنني كطبيب، لا أقدر على رؤية هذا الفيروس المجهول يفتك بمرضاي، بأصحابي، وخلاني، وبالكثيرين من الناس الأبرياء من حولي وأقف ساكتًا. مع أنهم يواجهون الموت المحتم، لكنهم ينظرون إليَّ نظرات الأمل والرجاء ويتوقَّعون مني أن أنقذهم وأخلّصهم. لكن، مَن كان يظن أنني سأصبحُ واحدًا منهم لا بل مثلهم ضحيةً لهذا الفيروس المجهول؟"
نعم، الجميع في الصين، يتكلمون عن الطبيبLi WenLiang الذي اكتشف فيروس كورونا Coronavirus، إذ كان هذا هو لسان حاله حالما اكتشف فيروس كورونا القاتل. لكنَّه وللأسف وفي صباح السابع من شهر شباط/فبراير الماضي وفي تمام الساعة الثانية وثمانٍ وخمسين دقيقة فجرًا انتقل Li الطبيب إلى الأمجاد السماوية وذهب إلى بيته الأبدي ليكون مع أبيه السماوي في السماء.
هذا الكلام كله ورد في صفحة الأسقف جوزيف كاستيو Joseph Castillo في وسائل التواصل الاجتماعي fb إذ كان بعدُ في مدينة Pasay في مطارNinoy Aquino العالمي ينتظرُ إقلاع طائرته التي ستُقلُّه من الفيليبين، بعد أن كان يقيم نهضاتٍ روحيةً كبيرة في المدينة، تقلُّه إلى مكان سكناه في شيكاغو، إلينوي وذلك لكونه أسقفًا كبيرًا ولديه خدمة معروفة في بلاد الصين وفيتنام والفيليبين والشرق.
وتابعَ جوزيف كاستيو رواية ما حدث مع هذا البطل الطبيب ليقول: "في شهر كانون الأول من العام الماضي 2019، أُلقي القبضُ على الطبيب Li WenLiang لأنَّه كان الرجلَ الأول الذي دقَّ ناقوس الخطر وأعلن عن التهابٍ رئوي سببُه فيروسٌ غامض. وهذا الإبلاغ أو الإعلان اعتبرتْه السلطات الصينية عندَ ذاك ترويجًا للإشاعات الكاذبة أو المغرِضة ليس إلا. وبناءً عليه احتجزتْه وزجَّته في السجن. وفي هذا الصباح بالذات، اكتشفنا أن Li الطبيب كان واحدًا من إخوتنا في المسيح. بالحق لقد تأثرنا جدًا على فقدانه لكنَّ أحشاءنا تحرّكت حين عرفنا الآن أنه لم يهتم بسمعته يوم أعلن عن الفيروس الخطير، وفضّل أن يكون أمينًا لمهنته وصادقًا مع مرضاه. وأُطلق سراحه من السجن بعد انتشار الفيروس وخوف السلطات من عدم التحكّم به. واعتذروا منه وطلبوا إليه أن يعاين المرضى بنفسه وهم على استعداد أن يقدّموا له كل مساعدة في هذا الشأن. وبقي Li يعتني بمرضاه إلى أن أصيب هو نفسُه بهذا الفيروس ومات بسببه. فعلًا، ما هذا الإرث الذي تركه وراءه هذا الطبيب الصيني المؤمن؟! لقد ترك ميراثًا عظيمًا في ماذا يعني أن نتمثَّل بالرب يسوع الذي تحنّن على الجموع المنطرحة في وقت ضعفهم وأزماتهم.
وتابع كاستيو يقول: "لقد اختار هذا الطبيب أن يكون مثالًا لـ عمانوئيل، أي الله معنا، لشعبه في Wuhan مدينته التي نشأ فيها وتربَّى. هل يمكن لنا أن نتصوّر الفرح الذي اختبره حين وصل إلى أبواب الأبدية رفَّت في مسامعه هذه الكلمات: "نعمًّا أيها العبد الصالح والأمين!" لهذا نطلب من الجميع الصلاة من أجل عائلته، خاصة زوجته الحامل التي ثبت أنَّها هي الأخرى تحمل المرض نفسه، وهي على بعدِ أيام فقط من إنجاب الطفل الثاني لهما. صلّوا معنا من أجل أن يَمُنَّ الله القدير عليها بلمسةِ شفاء وبطريقةٍ معجزية - صلوا من أجل سلام وطمأنينة في هذا الوقت العصيب."
"لا لست أريد أن أكون بطلًا..." هذا بعض من ترجمة الشعر النثر الذي بدأت فيه مقالتي تُليَ على مسامع الناس في يوم خدمة الطبيب التذكارية. كتبَه أحد المؤمنين في رثائه، ليعبِّر تمامًا عن محنة الطبيب (لي Li) المميزة ومشاعره الدفينة وهو على فراش الموت باللغة الصينية، وترجمَها الأسقف جوزيف كاستيو إلى الإنكليزية. وكذا قمتُ أنا بدوري بترجمة ما ورد في التقرير ككل إلى العربية. هذه الكلمات دخلت إلى أعماق كلِّ من سمعها يوم مماته فهزَّته هزًّا. أما بقية الشعر النثر فهي كالآتي:
"لا، لا أريد أن أكون بطلًا، إذ مَن كان يظن أنني سأموت، وروحي تصبح في السماء، وأنا أنظر إلى سريري الأبيض، حيث كان جسدي الممدّد هناك، ووجهيَ المعهود. أين هما والداي، وزوجتي العزيزة، الفتاة التي أحببت وطالما تعبتُ من الركض وراءها حتى صارت شريكتي! أين هي؟ هناك بصيصُ نور في السماء، وفي نهايته تبدو لي السماء التي غالبًا ما يتكلم عنها الناس. لكن لا، ليس الآن، أُفضّل أن أبقى في مدينتي في Wuhan حيث بيتيَ الجديد، ودفعاتي الشهرية تنتظرُني، كيف لي أن أفقدَ الأمل؟ وكيف لأبي وأمي أن يعيشا من دون ابن؟ كم هو حزين هذا؟ أو كيف لحبيبتي أن تستمر بدوني وسط هذه التقلُّبات والتغييرات المستقبلية؟ كيف؟ فأنا لم أعدْ أوجد، أراهم يأخذونَ جسدي، ويضعونه في كيس، حيث العديد من أجساد الأبناء المائتة التي سبقَتني، وهكذا ما نلبثْ أن نُرمى جميعُنا في موقدٍ للنار كيما تُحرق أجسادُنا المصابة عند الفجر.
"فإلى اللقاء يا أعزائي، وداعًا يا مدينتي "ووهان"، على أمل أن تنتهي هذه الكارثة الوبائية وعلّكِ يا مدينتي تتذكّرين أنَّه كان هناك مرةً إنسانٌ جاهد ليُطلِعَك على حقيقة الأمر حالما اكتشف خطورة فيروس كورونا. نعم، وبعد أن تنتهي الكارثة، ستعلمين أنه كان هناك شخصٌ أمين وصادق، مات وهو يعالجُ المرضى المتألمين. حقًا، "لقد جاهدتُ الجهادَ الحسن، أكملتُ السعي، حفظتُ الإيمان، وأخيرا قد وضع لي إكليلُ البر الذي يهبُه لي في ذلك اليوم الربُّ الديَّان العادل." (2تيموثاوس 7:4)
أجل، يا أصدقائي، لقد بدأ هذا المرض في الصين وحاولوا التكتُّم عنه، وقضى هذا الطبيب الأمين والنزيه وهو يحاول جاهدًا في إنقاذ المرضى والمصابين. وحتى كتابة هذا المقال كان قد أصيبَ أكثر من ثمانين ألف شخص بهذا الفيروس ولقي أكثر من ألفين وسبعمئة وخمسة عشر شخصًا حتفَهم. وأعلنت إيران أيضًا عن إصابة أكثر من مئتي شخص ووفاة أكثر من تسعة عشر شخصًا بسببه. وامتدّ الفيروس ليشمل بلدانًا جديدة كإيطاليا، وفرنسا، وسويسرا، وأمريكا، والبرازيل، والكويت، والعراق، والخليج، ولا يزال العدد في الارتفاع. ولا أحدَ يعلم بعد، إلى أين سيصل بنا المطاف أو متى سيجدون علاجًا ناجعًا لهذا الفيروس الوبائي الخطير. ويظل الناس في حيرة من أمرهم. وتقوم الحكومات في البلدان كافة بإجراءات عديدة وأخذ الاحتياطات اللازمة من حجْرٍ صحيٍّ للمصابين وإغلاق للمدارس والجامعات، وتعقيم وسائل النقل وما إلى ذلك من وسائل تُحدُّ من انتشار هذا الفيروس.
أما الأسقف جوزيف كاستيو فخَتم أخيرًا تقريره هذا على صفحة التواصل الاجتماعي وقال: يمكنُك أن تهرب يا صديقي، لكن لا يمكنك أن تختبئ إلا إذا كان مكانَ الاختباء السرّي هو (سترُ العليّ القدير) تمامًا كما قال المرنم في مزموره الحادي والتسعين: "الساكن في ستر العلي في ظلِّ القدير يبيت. أقول للرب ملجأي وحصني، إلهي فأتّكل عليه. لأنه ينجيك من فخّ الصياد ومن الوبأِ الخطر. بخوافيه يظلِّلك وتحت أجنحته تحتمي. ترس ومجنٌّ حقّه. لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار. ولا من وبأ يسلك في الدجى ولا من هلاك يفسد في الظهيرة. يسقط عن جانبك ألف، وربوات عن يمينك، إليك لا يقرب... لأنك قلت: أنت يا رب ملجأي، جعلت العلي مسكنك لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك."
وخلاصة الكلام في هذا المقام يا قرائي الأعزاء، هو الآتي: لطالما سكَنتَ صديقي في ستر العلي القدير، وحمَيْت نفسك تحت ظلِّ جناحيه، وتظلَّلت بخوافيه، ولطالما تفوَّهت وقلتَ للرب: "أنت ملجأي وحصني، إلهي فأتَّكل عليك،" فإنَّك بلا ريب ستنام مطمئنًا، ولسوف تشعرُ بالسلام والراحة في وسط عالم مضطرب معرّض لجميع أنواع المخاطر بما فيها الأوبئة. فهل سلَّمت دفةَ سفينة حياتك إلى الذي في يده السلطان، وهو المتحكِّم الأوحد بزمام الأمور! إذا فعلت فهنيئًا لك. وإذا لم تفعل بعد، فأدعوك اليوم لكي ترتاح في حضنه الدفيء وتأتي إلى العلي القدير بواسطة الرب يسوع المسيح الذي مات لأجلك على الصليب، وقام من بين الأموات منتصرًا على الموت وإبليس، لكي يمهّد لك الطريق وتعيش تحت ستر القدير دائمًا وأبدًا. عندها لن تخاف البتة بل تستسلم بين يديه بكل أمان واطمئنان. ومنا جميعًا ألفُ تحية لطبيبنا المؤمن والصادق Li WenLiang الذي اتَّبع خطى سيده العظيم وارتقى فيما بعد إلى السماء بانتصارٍ مجيد.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2020