بعد عدّةِ أيام قضيتها في التأمّل بالبشائر الأربعة ولا سيما في أصحاحات آلام المسيح، حملتني خواطري إلى يومِ صلب يسوع، فتوقفتُ طويلًا عند كلمات من ذهب:

"ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: [حقًا كان هذا الإنسان ابن الله.]" (مرقس 39:15)
وتوّلد في قلبي شوق لحوارٍ مفتوح مع قائد المئة الذي كان واقفًا مقابل يسوع فتخيّلت نفسي صحفيًا ومُحقّقًا، وذهبتُ يوم الجمعة المصادف الرابع عشر من نيسان إلى رابية الجلجثة والتقيتُ مع القائد ومعه المئة جندي، وهم مدججين بالسلاح وكانوا يحرسون يسوع وهو مُعلّق على الصليب لكيلا يقوم أحد أو مجموعة من الأبطال بإنزاله أو استبداله أو إنقاذه قبل أن يموت... وبادرته بالقول:
- لي كلام معك أيها القائد: لماذا أنت واقف مقابل يسوع تتفرّس به؟"
فكان جوابه: "إنّ أقوال هذا الإنسان تُحيي الأموات. عندما سمِعته أول مرةً معترفًا أمام بيلاطس بأنه ابن الله، ارتجفتُ وشعرتُ برهبة إلهيّة خاصة، ورأيت الحاكم بيلاطس بكل جبروته خائفًا وكأنه هو المحكوم عليه بالإعدام. ثم ارتعبتُ عندما سمعتُ تلك الرسالة القصيرة وكأنها موجهّة لي [إياك وذلك البار!] حقًا إنه البار لأنه لم يفعل أي خطيّة، وكنت قد سمعتُ قبلًا من صديقي قائد مئة أيضًا بأنّ يسوع شفى غلامًا له بكلمة، حقًا إنه صالح وصانع خيرات."
فسألته: هل عرفت سبب صلبه؟
فأجابني: نعم. ألا ترى علّة صلبه مُعلّقة فوق رأسه مكتوبة بثلاث لغات، [يسوع الناصري ملك اليهود]؟ قرأتها فتذكرتُ قول الحاكم: [أأصلب مَلِكَكم؟] وعندما صرخوا بوجوه متجهّمة: [نعم، أصلبه!] فهذا يدل على جهلهم وحسدهم.
ثم أردفتُ قائلًا: ماذا قال خلال ستة ساعات الصلب؟
قال: "سمعته يتكلم بسبعة عبارات وكلما كان ينطق بعبارة فوق الصليب، كنتُ أشعر بقوة حياة تسري في كياني، إلى أن قال: [قد أُكمِل] وصرخ بصوت عظيم تلك الصرخة المُدوّية، التي لا يزال صداها في أذنيّ وقلبي "قد أُكمِل، قد أُكمل!"
إنه ليس مجرد إنسان، إنه من السماء!
فسألته إذًا من هو هذا؟
فقال بثقة: [حقًا إنه ابن الله.]
فقاطعته بحدّة: [ابن الله!] يا قائد، كيف عرفت ذلك وأنت لم تقرأ كتب العهد القديم؟ ولست مثلي يفهم كتب العهد الجديد؟
فتطلع إلىّ وهو يبتسم قائلًا: هو قال بنفسه أنه ابن الله، وهو صادق، فلماذا أكذّبُه؟
ثم صمتّ قليلًا وفجأة تغيّرت ملامح وجهه بانزعاج، وقال: "هل تريدني أن أصدّق ما يردّده رجال دين يكرهوننا مثل حنّان وقيافا وينعتوننا بالنجس، ولأجل مصلحة سياسية ودينية ينافقون ويقولون: [ليس لنا ملك إلا قيصر!] وأصادقهم على شرورهم وأكاذيبهم وشتائمهم وبصقهم على يسوع؟ أي منطق هذا؟ أي دين هذا؟"
ثم أكمل قائلًا: "ورغم أنني لم أقرأ الكتاب، لكنني شعرت أنّ صوتًا داخليًا يقول لي: [استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك. أنا، أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها.]"
فاندهشت قائلًا له: "حقًا أيها القائد، عظيمة هي أقوال الله، هناك نبوّة تنطبق عليك، لقد أبصرت ما لم تُخبر به، وما لم تسمعه فهمته!"
ثم سألته عن الحربة، فأجاب: "لقد اخترقت تلك الحربة قلبه، فرّش دمه الكريم عليّ، فشعرت أني أبيض من الثلج."
ثم سألته: "ماذا عن ثلاث ساعات الظلمة، هل عرفت شيئًا؟"
فأجاب وهو يقرع على صدره: "بالتأكيد، لا يستطيع قلب بشري أن يُدرك ما كان يقاسي يسوع، ولكن عندما تُظلم الشمس في رابعة النهار وتتشقّق الصخور وكأنها أحنّ من قلوبنا التي هي كالصوان، أليس ذلك يوم دينونة وغضب؟"
فقلت مباشرة: "نعم، كانت تلك الساعات رهيبة احتمل فيها الابن الوحيد دينونة خطايانا وارتضى أن ينزل عليه غضب العدل الإلهي بدلًا عنا، وتم الكتاب القائل: [والرب وضع عليه إثم جميعنا]، لذلك صرخ من هول الدينونة التي وقعت عليه: "إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟"
ثم أكمل القائد حديثه معي قائلًا: يا صديقي، عندما تتأمل المصلوب يسوع تجد أنّ محبّته تجذبك حتى دون أن يقول لك: [أنا أحبّك] لأنّ المحبّة متجسّدة فيه بصورة كاملة. وأنا أعترف لكَ أني كُنتُ بين المستهزئين والمُجدّفين والجهّال في البداية، ولكن وقوفي أمام صليبه متفرّسًا فيه أدركتُ أنه يُحبّني رغم كل ما فعلتُ من شرور تجاهه. نعم، إنه يُحبّني وسمعته يصلي لأجلي قائلا: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. أنا شتمته ولكنه باركني وغفر لي، نعم، إنه يُحبّني."
وإذ غمر وجهي الفرح قلتُ له: "كلامك صحيح!" لأنه قال: "وأنا إن ارتفعت (على الصليب) أجذب إليّ الجميع." فتغيّرت ملامح وجهه بانزعاج وقال: "الجميع! وماذا عن هؤلاء المستهزئين؟"
فأوضحت له: "إن المستهزئين بجهل وكبرياء يضرّون ويحكمون على أنفسهم بالهلاك الأبدي. ولكن المقصود [بالجميع"، أي جميع المشتاقين لخلاص أنفسهم من الدينونة الذين ينجذبون إلى محبة المصلوب لينالوا الخلاص الأبدي. وأما من يقول سنخلص لأننا أفضل من الآخرين فهؤلاء جهلاء ولا يعلمون معنى رسالة الصليب، وهناك أعداء الصليب الذين يظنون إنهم بحفظهم للناموس سيخلصون."
فقال لي: "ما هو الناموس؟"
فأجبته باختصار: "إنه كتب موسى الخمسة والوصايا المتعلقة به؛ وحتى موسى كسر الوصايا في نهاية أيامه."
فأشار بيده نحو الصليب وقال لي: "انظر، ألا ترى يسوع المصلوب مضروبًا بخمسة جراحات: اثنين في يديه، واثنين في رجليه وواحدة في جنبه؟ ألا يعني هذا أنه مات لأجل الناموس؟"
فأجبته: "بالتأكيد! لأنّ هناك آية تقول بأن المسيح [افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من عُلق على خشبة.] نعم، يسوع إلهي وإلهك تحمّل لعنة خطايانا لكي يباركنا!
"أخيرًا أيها القائد ما هو اسمك؟"
فنظر إليّ بنظرة شفقة قائلًا: "ليس المهم أن تعرف اسمي لأنّ يسوع هو قائد إيماني المنتصر في الصليب، ولأنّ رسالتي هي أن يقف كل إنسان أمام الصليب وجهًا لوجه مع المصلوب يسوع، ويمتحن كل واحد نفسه بصدق القلب؛ هل قَبِل أن يُرَشّ دم يسوع عليه لكي يطهرُ بالإيمان؟ إن كان الجواب نعم، فليُحيِّ كل واحد القائد المنتصر الذي احتمل أهوال الصليب لكي ينجو هو من الدينونة، وإن كان لا، فليطلب بكل تواضع أن يرشّ يسوع دمه الدائم الأثر على قلبه فيطهر."
فقلت له: "كلامك منطقي، لأني أعرف أناسًا عندما أسألهم عن الخلاص يكون الجواب [أنا غير متأكد من خلاصي ولكني سأخلص بأعمالي فأنا أفضل من بقية الخطاة الأشرار، وهذا إهانة للكفارة التي صنعها يسوع على الصليب.]
- "لقد نسيتُ أن أسألك عن إكليل الشوك، ماذا رأيت فيه؟"
- "رأيتُ بالإيمان إكليل المجد على رأس مُخلصي فهو مليكي ولن أقبل بغيره أبدًا، أبدًا!
هم صرخوا بنفاق: [ليس لنا ملك إلا قيصر.]
وأنا أهتف أيضًا بصدق قلبي وأتمنى أن تهتف أنت معي هتاف الفرح:
"ليس ملكًا على قلبي وكياني إلا يسوع الذي أحبّني وصُلِبَ من أجلي."

المجموعة: نيسان (إبريل) 2020