الفرح هو النغمة المفقودة في سيمفونية هذا العالم المضطرب، وهو الضالة المنشودة التي يسعى إليها كل فرد في هذا الوجود.

وقديمًا قام الملك سليمان بمحاولات جبّارة في طريق بحثه عن الفرح فبنى لنفسه بيوتًا، وغرس لنفسه كرومًا. وعمل لنفسه جنّات وفراديس، وغرس فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. وعمل لنفسه برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر. واقتنى عبيدًا وجواري. واقتنى الكثير من الأبقار والأغنام. وجمع لنفسه فضة وذهبًا. واتّخذ لنفسه مغنّين ومغنّيات. وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من السراري. ومهما اشتهته عيناه لم يمسكه عنهما. ولكنه في النهاية اعترف بفشل محاولاته في البحث عن الفرح بهذه الوسائل المادية فكتب قائلاً: «ثم التفتّ أنا إلى كل أعمالي التي عملَتْها يداي، وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس.»
ضاعت محاولات الملك الحكيم أدراج الرياح، فسجل مرثاته الأليمة بالكلمات: «فكرهتُ الحياة، لأنه رديء عندي، العمل الذي عُمل تحت الشمس، لأن الكل باطل وقبض الريح.» هل يعني هذا أن نكفّ عن البحث عن الفرح؟! هل يعني أن نلفّ أنفسنا برداء اليأس، ونرتمي في وادي الألم، وقد رفعنا راية التسليم للقلق والاضطراب والضياع؟
كلّا أيها الأصدقاء الأعزاء، فما زالت هناك ينابيع فيّاضة للفرح، أريد أن نمرّ عليها لنرتشف معًا من مياهها العذبة فنختبر الفرح الحقيقي الذي قال عنه بولس الرسول: “افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا.” (فيلبي 4:4) وينابيع الفرح هي:

1- ينبوع قبول المسيح في القلب
عاش في أيام المسيح رجل اسمه زكّا كان رئيسًا لمحصِّلي الضرائب وكان غنيًّا، وقد جمع أمواله بالظلم والوشاية، ولم يستطع المال الوفير أن يهبه فرح الحياة. وبغير شك أن المال ليس ينبوعًا من ينابيع الفرح الحقيقي، ولذا قال بولس الرسول: «فإن كان لنا قوت وكسوة، فلنكتفِ بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء، فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبيّة ومضرّة، تغرق الناس في العطب والهلاك. لأنّ محبّة المال أصلٌ لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.» (1تيموثاوس 8:6-9)
لم يجد زكّا فرحًا ثابتًا في المال الوفير، لكنه سمع أن المسيح سيجتاز مدينة أريحا حيث كان يسكن، واشتاق أن يرى يسوع ولم يقدر من الجمع لأنه كان قصير القامة. وكم من مرات حجبت جماهير المسيحيِّين الاسميِّين شخص المسيح الكريم عن طالبيه.
لكن الشوق الذي كان في قلب زكّا دفعه أن يركض ويتسلَّق جمَّيزة عالية لكي يرى المسيح، ويملّي نظره بمحيّاه البسّام. وعندما وصل المسيح إلى الجمّيزة “نظر إلى فوق فرآه، وقال له: “يا زكّا، أسرعْ وانزلْ، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك.” عرف المسيح اسم زكّا دون أن يخبره أحد - لأنه هو العالِم بما في الصدور - ولم يتوانَ زكّا بل أسرع ونزل وقبِله فرحًا.
لقد دخل الفرح الحقيقي إلى قلب زكّا عندما دخل المسيح الكريم هذا القلب. وكل شخص يقبل المسيح مخلصًا شخصيًا لنفسه لا بدّ أن يغمر الفرح قلبه، وتملأ السعادة نفسه.
وعندما قَبِل زكّا المسيح تغيّر إلى إنسان جديد كما قال بولس الرسول: “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.”
استمع إلى زكّا بعد أن غمر فرح المسيح قلبه، فأصبحت الماديّات رخيصة في عينيه وهو يقول للمسيح: “هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ.” لقد وجد ينبوع الفرح الأصيل فهانت في عينيه كلّ ممتلكات الأرض.
فإذا أردت أن ترتوي من ينبوع الفرح فاقبل المسيح في قلبك، واختبر كلماته التي قالها للمرأة السامرية: “كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ.”

2- ينبوع الامتلاء من الروح القدس
نقرأ في سفر أعمال الرسل الكلمات: “وأما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس.”
ونقرأ في الرسالة إلى أهل غلاطية: [وأما ثمر الروح فهو: محبة فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.» فالامتلاء من الروح القدس هو ينبوع فيّاض من ينابيع الفرح؛ ولذا يوصي بولس الرسول القديسين في أفسس: “ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح.” (أفسس 18:4)
ويعجب المرء حين يرى أن بولس الرسول يربط بين السكر بالخمر والامتلاء من الروح القدس، ويتساءل: ما علاقة السكر بالخمر والامتلاء بالروح القدس؟ ولكن العجب يزول حين ندرك أن الخمر قد تعطي للإنسان إحساسًا وهميًّا بالفرح بينما الامتلاء من الروح القدس يعطي للإنسان فرحًا حقيقيًّا، والإنسان السكران قد يقوم بأعمال تحتاج لكثير من الشجاعة، والممتلئ بالروح القدس يمتلئ أيضًا بالشجاعة. “ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا... إلى أقصى الأرض.”
إن صورة الكنيسة المحليّة الأولى في أورشليم بعد أن امتلأ أعضاؤها بالروح القدس ترينا: صورة الفرح الحقيقي، والشهادة الحيّة للمسيح، والسلام الذي يتحدّى الآلام، والقوّة الروحية التي هزمت قوى الإمبراطورية الرومانية.
إن أردت أن تفيض بالفرح فامتلئ بالروح، ولكي تمتلئ بالروح ينبغي أن تتفرّغ من كل ما يعيق هذا المِلء.
هل أتاكم خبر ذلك الأخ السوري الذي سمع عن الامتلاء من الروح القدس واشتاق أن يحصل على هذه البركة؟ كان يذهب إلى الاجتماع قبل الميعاد بنصف ساعة ويركع ويطلب من الله أن يملأه من الروح القدس. لكن ذلك الأخ السوري - وكان اسمه ميخائيل - كان يمتلك حصانًا وكان يحب ذلك الحصان محبة فائقة ملكت عليه كل مشاعره، وكلّما كان يصلّي طالبًا الامتلاء من الروح القدس كان الله يقول له: “يا ميخائيل، اذهب وبعْ الحصان فإنك منشغل بالحصان أكثر من مشغوليتك بي وأكثر من مشغوليتك بأموري.” ولكن ميخائيل كان يحبّ الحصان. ويومًا بعد الآخر استمرّ في صلاته واجتمع الإخوة وشاركوه الصلاة. وفي يومٍ ما وهو في قلب الصراع سمعوا ميخائيل يصرخ قائلاً: “سأبيع الحصان يا ربّ، سأبيع الحصان!” ولما نطق بهذه الكلمات فاضت ينابيع الفرح في قلبه، وامتلأ من الروح القدس!
هل هناك حصان في قلبك؟ هل هناك عائق يملأ حياتك يمنعك من أن تمتلئ بالروح القدس؟ هل هناك ما يشغلك عن حبّ الله وعن الأمور المقدسة؟ لا بدّ أن تتفرّغ لكي تمتلئ؟
اذكر أن كل مسيحي مولود من الله يسكن فيه الروح القدس كما قال بولس الرسول: “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ، إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ.» (رومية 9:8) بمعنى أنه إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس للمسيح. ولكن أذكر أن سكنى الروح القدس شيء والامتلاء من الروح القدس شيء آخر. والمسيحي الذي له الفرح الدائم هو المسيحي الممتلئ بالروح القدس. فلتكن صلاتك: يا رب، املأني بالروح القدس لكي أمتلئ بالفرح السماوي الفيّاض.

3- ينبوع رجاء المجيء الثاني للمسيح
يقول بولس الرسول للقديسين في روما: “فرحين في الرجاء.” (رومية 12:12) أي رجاء؟ «مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.»
إن عالمنا يسير في طريق غير سليم، وشرّ الإنسان قد كثر في الأرض. وفي موضع العدل هناك الظلم... هناك الإباحية... هناك العري... هناك التدهور الأخلاقي... هناك كل هذه الأشياء التي ترينا إلى أي مدى تدهور الشباب في الشر والخطية... ولن يعالج أمراض العالم سوى المسيح حين يأتي في مجده العظيم، والذين ينتظرون هذا المجيء بصبر واستعداد وسهر يمتلئون بالفرح الغامر الفياض.
فهل تشغلك توافه الحياة عن انتظار الرب أو أنك تنتظر من كل قلبك هذا المجيء؟
لما ظهر المسيح لرسوله يوحنا في جزيرة بطمس وأراه كل حوادث الضيقة العظيمة، وما سيأتي على عالمنا من ويلات، قال له: والآن يا يوحنا هأنذا أتركك “وها أنا آتي سريعًا وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله.” (رؤيا 12:22) وأمام هذا الوعد الإلهي الصريح هتف يوحنا مصلِّيًا: “آمين، تعال أيها الرب يسوع.”
ورجاء المجيء الثاني للمسيح وعودته ثانية إلى الأرض ليملك بالبرّ والسلام عليها، هذا ينبوع أكيد من ينابيع الفرح ومصدر لا ينقطع للسعادة في قلب المؤمن الحقيقي.

4- ينبوع الذهاب إلى بيت الله
مع أن داود كان ملكًا، وكان عنده من مشاغل الحياة ما كان يمكن أن يعتذر به عن عدم الذهاب إلى بيت الله، لكن ذلك الملك المكرّس لله أحبّ الذهاب إلى بيت الله ووجد فيه فرحه فكتب يقول: “فرحت بالقائلين لي: [إلى بيت الرب نذهب.]” (مزمور 1:122) والذهاب إلى بيت الرب ينبوع فرح. لأن في بيت الرب عزاء وغذاء وشفاء.
في بيت الرب عزاء في الأحزان والآلام.
وفي بيت الرب غذاء لأننا نستمع هناك إلى كلمة الرب المكتوب عنها: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله.»
وفي بيت الرب شفاء من مرض الخطية، بل من الأمراض النفسية، والعقلية، والجسدية إذ هناك يجد الإنسان راحته في حضرة المسيح الذي قال: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم.» إن سرّ حزن الكثيرين، واضطرابهم النفسي يعود إلى البعد عن الله، وعن بيت الله. عودوا إلى بيت الله... وعندئذ ستختبرون معنى الفرح الحقيقي في الحياة.
هل أتاكم خبر ذلك العضو الغني الذي أهمل حضور بيت الله لمدة شهور؟
ذهب الراعي ليفتقده ويعيده إلى شركته القديمة مع الله فسأله: «لماذا لا تحضر إلى بيت الله؟ أجاب العضو الغني: إنني أعبد الله وحدي وفي بيتي وكان الوقت شتاء، والفحم يلتهب في مدفأة الغني. لم يتكلم راعي الكنيسة، لكنه مدّ يده بالملقط وأخرج قطعة فحم ملتهبة ووضعها وحدها، وركّز عينيه عليها، وقليلاً قليلاً ذهب احمرارها ليحلّ محلّه السواد.
وأدرك عضو الكنيسة الغني معنى ما فعل راعي كنيسته وقال له: "يا جناب الراعي، سأواظب على الحضور في بيت الله. فمع إخوتي أجد الحرارة والالتهاب وبعيدًا عنهم أفقد حرارتي ويظهر سوادي."
لقد تعلّمت الدرس أن الفرح الحقيقي هو في بيت الله. فهل تشرب وترتوي من ينابيع الفرح؟ قال الله في سفر إشعياء: “وتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص.” وفي قبول المسيح في القلب، والامتلاء من الروح القدس، وفي رجاء المجيء الثاني للمسيح، والحضور بمواظبة في بيت الله، تجد الينابيع الدائمة للفرح! "الذي لا يُنطق به ومجيد!" وحين تختبر هذا الفرح السماوي ستردّد مع حبقوق قائلاً: [أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي.» (حبقوق 17:3-18)
أجل، فبينما كل الظروف الخارجية تشدُّك إلى اليأس فإن رب الخلاص يملأ حياتك بالفرح الحقيقي.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2020