توجَّهتُ بسيارتي منذُ أسابيع عديدة إلى الصيدلية في باسادينا كيما أجلبَ الدواء لزوجي. وبالطبع كنتُ أضع الكمّامة على وجهي،

والقفّازات في يدي. وما أنْ وصلتُ إلى مرآب السيارات حتى فوجئتُ بأنَّ قسمًا كبيرًا منه قد أصبح مشطورًا ومخفيًّا وراءَ غطاءٍ كبير أبيضَ اللون من النايلون يفصِلُه عن باقي المرآب حيثُ تتوقَّف السيّارات. تعجَّبتُ وقلتُ في نفسي: ما عسى أن يكونَ السبب؟ فالبناءُ الأساسي يحتوي على عيادات خاصة والصيدلية هي في الطابق السفلي منه، فما هو هذا الشيء المخفي وراء هذه الحواجز البيضاء المحكمة بشرائطَ سميكة من اللَّواصق؟
وحين مشيتُ متوجّهةً نحو المبنى الأساسي للعيادات في Kaiser استطعتُ أن أرى ما يحصل من وراء الكواليس. نعم، كانتِ الحواجز تُخفي عياداتٍ متنقّلةً عديدةً تنفصلُ هي الأخرى عن بعضها البعض بمزيد من الصفائحِ الورقية السميكة، وكان أمامَ كلِّ واحدة منها أجهزةٌ لفحصِ المرضى ومعاينتهم. وما أنْ خرجتُ من المرآب وقطعتُ الشارع حتى فوجئت بمنظرٍ أذهلَني أكثرَ من الذي سبقَه. فقد كانتْ هناك عدةُ ممرّضات يقفنَ أمام المدخل الرئيسي للمبنى وفي أيديهنَّ أجهزةٌ لقياسِ درجة حرارة كلِّ مَن يبغي الدخول. وبعد أن وجَّهَتْ لي إحداهُنَّ أسئلةً متعدِّدة فيما إذا كنتُ أعاني من أيَّةِ أعراضٍ كالحرارة أو السُّعال أو ألمٍ في الحنجرة والتي أجبتُ عليها بلا، طلبتْ أن تقيسَ درجة حرارتي وعندها سمحتْ لي بالدخول إلى الصيدلية. وهناك وجدت صفًّا طويلًا من الناس المصطفّين كلٍّ وراءَ خطٍّ أصفر لا يمكن تجاوزُه ويبعدُ عن سابقه بستةِ أقدامٍ حسبَ التعليماتِ المُعطاة. وكانت هناك موظفة تقودُ كُلًّا بمفرده إلى النافذة المتوفرة له. وما أن انتهيتُ من مهمّتي هذه، حتى داهمَني شعورٌ غريبٌ مَشوبٌ بالقلق والحذَر وبشيءٍ من الاكتئاب رافقَني طيلةَ طريقِ عودتي إلى المنزل إنْ لم أقُلْ طوال اليوم.
وبينما أنا في هذه الحال، رَجعتْ بي ذاكرتي إلى أيام الطفولة والمراهقة... نعم، إلى يوم كنَّا بعدُ صغارًا لا نفقهُ من الحياة الكثير. بِتْنا يومَها نستغرب من تصرُّف الكبار إذا ما قلِقوا أو اضطربوا أو حتى خافوا. وتساءلتُ مراتٍ ومرات: لماذا يبدو الكبارُ من حولي وفي كثيرٍ من الأحيان مرتعبين وكأنَّ الهمَّ والغمَّ لا يفارقانهم؟ ولماذا تبدو علائمُ الحيرةِ على وجوههم خاصةً عندما تشتدُّ الظروف وتكثر المِحَن؟ وبكلِّ عفويّة كنا نحاولُ التخفيف عنهم علَّهم ينشرِحون ويتفاءلون. نعم، قادتْني ذاكرتي إلى تلك الأيام التي حكمتُ فيها أنا الصغيرة التي أعيشُ في عالمي الصغير على الكبار من حولي. عندها انتبهتُ إلى نفسي أنا، إذ وجدْتُ أنَّني قد وقعتُ في ذاتِ المطبّ، فرزحتُ في ذلك اليوم، تحتَ ثقلِ همٍّ جديدٍ من نوعه هو الخوف من فيروس لا يُرى بالعين المجرّدة استطاع أن يغيّر مسارَ الناس ويؤثِّرَ على الكرة الأرضية بكاملها، فَشلَّ حركتَها وأوقف نشاطها وإلى أجَلٍ غيرِ مُسمّى. وخطرتْ على بالي عندها أغنيةٌ معروفة باللغة الإنكليزية اشتُهِرت في أواخر الستينات تقول: "تلك، كانت هي الأيام يا صديقي، حين ظننّا ونحنُ فيها أنها لن تنتهي. كنا سنبقى نغنّي إلى الأبد ولسوف نعيشُ الحياةَ التي نختارها لأنفسنا وسنحاربُ ولن نخسر! أجل، كانت تلك، هي الأيام يا صديقي!"
Those were the days my friend
نعم، وغَدَتْ “تلك الأيامُ في عالمنا الصغير” ذكرى في حنايانا، لأنَّ الواقعَ والمسؤوليات وتجاربَ الحياة حلَّت مكانَها لتَصقِلَنا في كلِّ يوم وتعلّمَنا ما هو مغزى الحياة ومعنى الوجود بكلِّ مزاياهُ وأبعادِه.
عدتُ يومَها إلى البيت لأجدَ جارتي ديانا جالسة على الحشيش تراقبُ ولدَيها الصغيريْن وهما يلعبانِ حولَها وبدتْ على وجهها علاماتُ التعبِ والإرهاق بعضَ الشيء. فهي المعلّمة التي اعتادت على الذّهاب إلى المدرسة في كل صباحٍ باكر. وما أن حيَّيتها حتى قالت: كيف تقدرين على تخطِّي هذه المحنة غيرِ المسبوقة يا أدما؟ ماذا يجب على المرء أن يفعل حتى يتخلَّص من هذا الضغط القوي؟ أحاولُ أن أقومَ بأداء رياضتي اليومية إلى أقصى ما يمكن، لكنَّني ما ألبثُ أن أعودَ إلى القلق والهمّ. هنا أجبتُها قائلة: لا تهتمّي بالغد يا عزيزتي، إذ يكفي اليومَ شرُّه. عيشي كلَّ يومٍ بيومه. فحياتُنا يا صديقتي هي في يدي الله واهبِ الحياة ومعطيها. وما علينا إلّا أن نثقَ به وبرعايته لنا. قالت: أتعلمينَ يا أدما لقد بدأتُ أقرأ في كتاب القراءات اليومية الذي أهديتِني إياه في عيد الميلاد. قلتُ لها: نِعْمَ ما تفعلين. فأنا في كل يوم أقرأ الكتاب المقدس وآخُذ آيةً منه كوعدٍ لي من الرب وهذا ما يشجِّعني ويجعلني أستمرّ. وحين دخلتُ البيت بعثتُ لها رسالة text مع ترنيمة مؤثرة قلتُ لها فيها: “ديانا العزيزة، الترنيمة هي بعنوان: “أنتَ ترفعني وتضعُني على مرتفعاتي.” You raise me up
هذه كلمات مشجّعة لي أنا، وأرجو أن تكونَ كذلك بالنسبة لكِ. نستطيع يا ديانا أن نأتي إلى الرب يسوع المسيح في كلّ وقت لأنه وحدَه الذي قال: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم.” (متى 28:11) فقط عليكِ وبكلِّ بساطةٍ وشفافية أن تثقي بكلمته ووعدِه لكِ وهذا ما يساعدُكِ على مواجهة معاناتك سواءً كان هناك فيروس كورونا أو لم يكنْ. وهو وحده القادر أن يمنحكِ سلامًا في قلبك. مع صلاتي ومحبتي لكِ وللعائلة.” وبالطبع سُرَّت جدًا بكلماتي هذه وشكرتني عليها وعلى الترنيمة التي أحبَّتها كثيرًا.
أجل، لَكَم نجدُ كثيرًا من الناس ممّن حولِنا وكأنَّه يُغشى عليهم من خوفِ ما سيجَري على المسكونة من هذا الوبأ غيرِ المسبوق. وفي إحدى المقابلات التلفزيونية مع بيل غيت Bill Gate أحدِ كبار الأغنياء - المخترع لبرنامج مايكروسوفت - الرجل غير المتديّن الذي تبرّع بمبلغ مئة مليون دولار للمساعدة في إيجاد لقاحٍ أو علاج لهذا الفيروس نسمعُه يقول معلّقًا (وبما معناه) أولًا: “يمكن لهذا الفيروس الخطير والوبأ الرهيب وبغضّ النظر عن مصدره، أن يبعث لنا برسائل روحية. لقد ظنَّ الإنسان في هذا العصر بأنَّه وصل وأصبح مسيطرًا على كل شيء في هذا الكون. لكنَّ فيروسًا صغيرًا غيرَ مرئيٍّ، استطاع أن يُركِّعَ هذا الإنسان ليُزيل كبرياءَه وغرورَه. وثانيًا: يقول بيل غيت بأنَّ الحياة قصيرة ومهما طالت. ونهاية الحياة هو الموت المحتّم على الجميع.”
ونحن الآن أصدقائي في خضمّ هذا الخطرِ المحدق بنا من كلّ جانب، وأمامَ كلِّ ما نسمعُه من أخبار محزنة بسبب ما يحصدُه هذا الفيروس يوميًا من الناس في كلّ أرجاء المسكونة، وكلّ ما سبّبه من ارتباكٍ وخوف وشلل للحركة، هذا بالإضافة إلى التقارير المتضاربة بين الأطباء والسياسيين، وما خلَقه من غضبٍ وتزاحمٍ بين هؤلاء، إزاءَ كل هذا ماذا يمكنُنا أن نفعل؟ هل نستسلم لمخاوفنا وليأسنا وربما اكتئابِنا؟ وماذا ستكون المحصِّلة؟ سوى الهمِّ والغمّ والقلقِ والأرق؟ أليس كذلك؟ يا ليتنا نتخلَّى عن كل قناعٍ يخفي حقيقةَ ما نشعرُ به الآن ونأتي بشفافيةٍ وبكلِّ تواضعٍ وبساطةٍ كأولادٍ صغار بتجرّدٍ وبراءة إلى الفادي الربّ يسوع المسيح وحده ابن الإنسان الذي اجتازَ في كلِّ الظروف مثلَنا وتألَّم لألمِنا، نأتي إليه كالأولاد الصغار تمامًا بتجرّدٍ وبراءة معترفين بضعفنا وعجزنا الكاملَيْن. أليس هذا ما يريدُنا أن نفعلَه؟ يدوِّنُ لنا البشير مرقس هذه الحادثة فيقولُ بوحي الروح القدس ما يلي: “وقدَّموا إليه أولادًا لكي يلمسَهم. وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدّموهم. فلما رأى يسوعُ ذلك اغتاظ وقال لهم: [دعوا الأولادَ يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأنَّ لمثلِ هؤلاء ملكوتَ الله. الحق أقول لكم: من لا يقبل ملكوتَ الله مثلَ ولد فلن يدخله.]” (مرقس 13:10-15)
نعم، عودةٌ بنا إلى عالم الصغار من جديد، ليذكّرَني بأننَّي أستطيع أن آتي وأنا (كبيرة) وكل شخص أيضًا، ببساطة الأطفال وثقتِهم المعهودة وشفافيّتهم المُطلقة إلى مَن دعاهم إليه وصلّى من أجلهم وباركهم. هكذا وبكلِّ وضوحٍ وبكلِّ حريةٍ ودونَما أيِّ تعقيدٍ يمكنُنا أن نتقدَّم إليه ونطرحَ كلَّ ثقلِ الخطية، والأنانية، والكبرياء، والعجرفة، ونطلب منه وحدَه الذي هو الطريق والحق والحياة فيمنَحنا حياةً جديدة ونصبح من أولادِ الملكوت لأنه سيملكُ هو على حياتنا. والرسالة هذه هي أيضًا لكلِّ مؤمنٍ مرتبكٍ وقلِقٍ، يعيش في هذه الظروف المحيِّرة والمرعِبَة، هي دعوةٌ لكي يأتي كطفلٍ طالبًا منه الحماية في سترِ العليّ القدير الذي بيده مقاصيرُ الأرض كلِّها. وتذكَّر أبدًا يا قارئي بأنَّ الكبارَ مهما كبُروا، فما هُم إلا صغارٌ كبرُوا!

المجموعة: حزيران (يونيو) 2020