كلّما ازدادت علامات النهاية وضوحًا – كما وصفها الرب يسوع والرسل في العهد الجديد،

وكذلك بعض أنبياء العهد القديم – بدا موضوع انتظار الرب أكثر إلحاحًا لجميع منتظريه.
انتظر الشيء "حسب اللغة" ترقَّبه، توقّعه، تأنّى عليه...
فالانتظار هو اللّبَث في مكان ما أو وضع معيّن حتى بلوغ الخاتمة أو المآل، إما حسبما رجاه المنتظر، أو بعكس ما تمنّاه، وهذا ما يجعل الانتظار بدون رؤية صعبًا مضنيًا. نظرًا لخفاء عواقبه والتوجّس مما قد يسفر عنه!
والانتظار قد يكون قصير المدة كحال الذين ينتظرون لركوب الطائرة أو القطار، أو طويلاً كحال الذين في العبودية أو السجن المؤبّد. والأهم من هذا كلّه هو انتظار الرب والمصير النهائي في الأبدية التي نحن جميعًا ذاهبون إليها!
ونتأمل في هذه العجالة في المنتظرات، وأنواع المنتظرين، وفي عوامل انتظار الرب، ومصادر المعونة والتعزية فيه.

أولاً: يختلف بنو البشر في تطلّعاتهم وتركيزهم على الأمور التي ينتظرونها. فبعضهم يجاهد منتظرًا بلوغ الشهرة أو الغنى أو السلطة والسيادة، وبعضهم لبلوغ النجاح والراحة والطمأنينة، ومن جهة أخرى فهناك من ينتظر أن يجد قبرًا يريحه من محنة قاسية أو شدة أو ضنك، كما قال أيوب في محنته: "لِمَ يُعطى لشقيٍّ نورٌ، وحياة لمرِّيِّ النفس؟ الذين ينتظرون الموت وليس هو، ويحفرون عليه أكثر من الكنوز، المسرورين إلى أن يبتهجوا، الفرحين عندما يجدون قبرًا!" (أيوب 20:3-22)
أما منتَظَر الصدّيقين الواثقين فهو أسمى، كما يقول سليمان: "منتظَر الصدّيقين مفرّح، أما رجاء الأشرار فيبيد." (أمثال 28:10)

ثانيًا: أما أنواع المنتظرين ودرجات ثباتهم فتتباين بحسب الأشخاص ومن خلال الظروف والامتحانات التي يجتازون فيها!
1- فهناك المنتظرون القانتون والمتقلقلون: ونحن في غنى في هذا المجال عن ذكر أولئك الرافضين لطرق الرب تعمّدًا، لأن لهم شأنًا آخر. ولكن يوجد بعض المؤمنين الذين لديهم انشغالات أخرى ومثبّطات تعيقهم عن المتابعة فيفقدون صبرهم، وذلك لاعتمادهم على قواهم الذاتية. وهم معرضون للفشل في سيرة انتظارهم إن لم يعودوا ليضعوا رجاءهم على الرب، لأنه "يعطي المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثِّر شدّة. الغلمان يعيُون ويتعبُون، والفتيان يتعثّرون تعثّرًا. وأما منتظرو الرب فيجدّدون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يُعيُون."
2- وهناك المتوكّلون الثابتون: تقول كلمة الله: "المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون، الذي لا يتزعزع، بل يسكن إلى الدهر." (مزمور 1:125) وتقول أيضًا: "ذو الرأي الممكَّن تحفظه سالمًا سالمًا، لأنه عليك متوكِّلٌ." (إشعياء 3:26)
3- المتوقّدون التائقون: تركِّز كلمة الله على أسماء عدد من المؤمنين كانوا متوقّدين شوقًا في انتظارهم للرب: فيخبرنا لوقا البشير عن سمعان الشيخ الذي حمل يسوع الطفل على ذراعيه في الهيكل وبارك الله وقال: "الآن تُطْلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك." (لوقا 29:2 و30)
وبولس الرسول الذي قال: "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح... فإني محصور من الاثنين: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا." (فيلبي 21:1 و23)

ثالثًا: عوامل الانتظار الثابت ومصادره
فالعوامل هي:
1- الإيمان، وهو الرافعة الأساسية لجميع الفضائل المسيحية والتضحيات. قال أيوب الصدِّيق بعد أن تمالك نفسه في محنته القاسية جدًا: "أما أنا فقد علمت أن وليِّي حيٌّ، والآخِر على الأرض يقوم، وبعد أن يُفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله. الذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر. إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي." (أيوب 25:19-27)
2- الصبر، وهو من أهم مقوّمات الانتظار: في معرض حديثه عن ضيقة الأيام الأخيرة، قال الرب يسوع: "بصبركم اقتنوا أنفسكم." (لوقا 19:21) وقال بولس الرسول: "أما الذين بصبرٍ في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، فبالحياة الأبدية." (رومية 7:2) وقال في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنكم تحتاجون إلى الصبر، حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد." (عبرانيين 36:10)
3- الرجاء: فبدون الرجاء المبارك لا معنى للانتظار، طويلاً كان أم قصيرًا
والرجاء نجده متلازمًا مع الصبر في كثير من الآيات: يخاطب الرسول بولس أهل كنيسة تسالونيكي بقوله: "متذكِّرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح أمام الله وأبينا." (1تسالونيكي 3:1)
ويقول أيضًا: "ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقّعه بالصبر." (رومية 25:8) "إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس." (1كورنثوس 19:15) أما بطرس الرسول فيقول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حيٍّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحلّ، محفوظ في السماوات لأجلكم."

أما مصادر ثبات المؤمن في انتظاره للرب فهي:
1- تشجيعات الرب: قال الرب يسوع في مَثَل العبيد المستعدِّين: "لتكن أحقاؤكم مُمنطقة وسرجكم موقدة، وأنتم مثل أناس ينتظرون سيِّدهم متى يرجع من العرس، حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم: إنه يتمنطق ويُتكِئهم ويتقدّم ويخدمهم." (لوقا 35:12-37)
2- سلام الرب: ففي معرض حديثه عن ضمان الحياة الأبدية والمساكن الباقية لتلاميذه، قال الرب: "لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلت لكم: أنا أمضي لأعدَّ لكم مكانًا، وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا وآخذكم إليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا." (يوحنا 1:14-3) ثم أردف قائلاً: "سلامًا أترك لكم. سلامي أُعطيكم. ليس كما يعطي العالم أُعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب." (يوحنا 31:14)
3- مواعيد الرب: وهي كالنجوم التي تهدي المسافر ليلاً في طريقه - هي لا تُلمَس باليد ولكنها تساعده على الوصول إلى مبتغى سياحته الروحية. قال الرسول بطرس في رسالته الثانية: "كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللّذَيْن بهما قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة." (2بطرس 3:1-4) ويتابع في تحريضه على الحياة الطاهرة والثبات في الانتظار حتى يخلص إلى النتيجة بقوله: "لأنه هكذا يقدَّم لكم بسعةٍ دخولٌ إلى ملكوت ربِّنا ومخلّصنا يسوع المسيح الأبدي." (2بطرس 11:1) وفي الرسالة إلى العبرانيين نقرأ عن إبراهيم أبي المؤمنين: "بالإيمان تغرَّب في أرض الموعد كأنها غريبة، ساكنًا في خيامٍ مع إسحاق ويعقوب الوارثَيْن معه لهذا الموعد عينه. لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله." (عبرانيين 9:11-10)
عزيزي القارئ، نحن في سياحة فيها من الصعوبات والمعوّقات الكثير كما وصفها "يوحنا بنيان" - كاتب كتاب "سياحة المسيحي" مثل: سوق الأباطيل، وبالوعة اليأس، وغيرها... ولكن لنتمسّك بالإيمان القويم وبالصبر والرجاء، مصغين إلى تشجيعات الرب في الكلمة المقدسة ومعتمدين على مواعيده الصادقة، وليملك في قلوبنا سلامه العجيب إلى يوم لقائه القريب. "انتظر الرب. ليتشدّد وليتشجَّع قلبك، وانتظر الرب."

المجموعة: حزيران (يونيو) 2020