في عشيةِ الميلاد في العام (1818) أي منذُ أكثرَ من مئتَيْ سنةٍ تقريبًا، وُلِدَت كلماتُ أجملِ ترنيمةٍ ميلاديَّة لا تزالُ تتصدَّر قائمةَ الترانيمِ الميلاديَّة في كلِّ أنحاءِ العالم إلى هذا اليوم.

إذ في تلكَ العشيةِ بالذَّات فاضتْ قريحةُ كاهنٍ كاثوليكي شابٍ في السادسة والعشرين من العمر، بعدَ أنْ خَلا إلى نفسه هناكَ فوق تلَّةِ توتنبرغ Totenberg بعيدًا عن هرَج ومرَج قريتِه الصغيرة المتواضعة. وهناك راحَ يفكر بما شاهدَه من تمثيلٍ مؤثّر، بهيجٍ وبليغٍ ترك أثرًا في حناياهُ الداخلية على مسرحٍ في بيتِ أحد أثرياء القرية في تلك الليلة بالذات.
كان هو في ذلك الحفل ضيفَ الشَّرف آنذاك. جذبَه ما رآه من تمثيلٍ رائعٍ لقصة الميلاد ومشهد مولدِ الطفل يسوع من قبَلِ فريق التمثيل كما جرت العادة في كلِّ سنة. وأضحتْ تلك المشاهدُ التي رآها هي الحافزَ كيلا يعودَ إلى بيته بل أن يجلسَ هناك على التلة مقابلَ بيوت القرية ليتأمَّل. وفيما هو مأخوذٌ بما شاهد شعرَ بدافع وُجداني يحثُّه على اللجوء إلى خلوةٍ امتدَّت لساعاتٍ طويلة من تلك الليلة البهيَّة، خلوة يعبِّرُ فيها بكلماتٍ من القلب عن أحاسيسه ومشاعره عن ذلك الحدَث العجيب. نعم، في تلك الليلة ِالبهيجة راح هذا الأبُ أو الكاهن بفكره وخيالِه إلى فلسطين، وبالتحديد إلى بيتَ لحم المدينة الصغيرة المتواضعة الشبيهةِ بقريته هو في أوبرندورف Oberndorf الواقعة على سلسلة جبال الألب في النمسا والقريبة من مدينة سالزبورغ. كان الأب جوزيف موهْر Joseph Mohr وهذا اسمُه قد عُيِّن مساعدًا لراعي كنيسة القديس نيقولاوس في هذه البلدة. وبينما هو يرنو إلى تلكَ النجوم المتلألئة في قبَّة السماء في ليلةٍ صافيةِ الأديم من ليالي الشتاء الباردة، وينظر إلى بيوت القرية المزدانةِ بالأضواء وهي تستعدُّ للاحتفال بالعيد في اليوم التالي، شعَر بالسكونِ والسلام، بالصفاءِ والنقاء، خاصةً بعد أن كانتْ حروبُ نابليون قد تركَتْ ظلَّها الثَّقيل على النفوس. وراوَدَتْهُ بعدَها أفكارٌ وأفكار عن ليلة الميلاد حين وُلِد يسوعُ المسيح الطفلُ في بيتَ لحم. وما لبثتْ أن فاضتْ قريحتُهُ وصارت الكلماتُ تتالى في ذهنه واحدةً بعد الأخرى. ولمَّا عاد إلى بيته نظَّمها ورتَّبها لكي تغدوَ نشيدَ الميلاد أو ترنيمة الميلاد المفضَّلة والشهيرة Silent Night (بالسَّلام بالسَّلام ليلةَ الميلاد) فيما بعد، في كلِّ أنحاء العالم.
وفي عيد الميلاد سمعَ العابدون المحتفِلون في تلك القرية المتواضعة في النمسا، ولأوّل مرّة الأب جوزيف موهر كاتب الكلمات يلعبُ اللحنَ على قيثاره ويرنم الأنشودة مع صديقه فرانز غروبر Franz Gruber قائد الفرقة الموسيقية الذي وضع لها اللَّحن بعد إلحاح شديد من قبل جوزيف الذي ناوله الكلمات على قُصاصةٍ من الورق. وصدَح صوتُ الموسيقى العذبة واللحن الرَّخيم وصوت المرنمَيْن واشتركت المجموعة في تردادِ القرار، وذلك من قرية أوبرندورف المتواضعة آنذاك، وهم ينشدون Silent Night, Holy Night وصارت لهذه الترنيمة ترجماتٌ ثلاث أو أربع باللغة العربية لشعراءَ مختلفين. هاكَ يا قارئي واحدةً منها:
والترجمة هي للشاعر اللبناني الراحل أنيس المقدسي (1885-1977) الذي كان أديبًا معروفًا وشاعرًا ومسرحيًّا وبروفسورًا في الجامعة الأمريكية في لبنان.

1- بالسَّلام بالسَّلام،
ليلةَ الميلاد
بشِّري كلَّ الأنام
واهتفي وسطَ الظلام
بنشيدِ الفدى
والإخاءِ العام.

2- بالرَّجاء بالرَّجاء، ليلةَ الميلاد،
املَئينا فالضياء،
فاضَ من نجمِ الفداء،
ماحيًا سناه، ظلمةَ الأيام.

3- للخلودْ للخلودْ ليلةَ الميلاد،
أيقِظي أهلَ اللُّحود، ليَروا ربَّ الجنود،
كوكبَ البرايا، مُرتجَى الأنام.
أما الصيغةُ الثانية والتي وجدتُّها (أنا شخصيًا) الأكثرَ قرْبًا إلى المعنى الأصلي، فهي للشاعر الفلسطيني الراحل الياس مرمورة (1887-1947) الذي كان ضليعًا باللغة والأدب.
1- في الدُّجى، والسُّكون، والكَرَى سائدان، وعلى مهدِ العلي والدانِ ساهرانْ،
يرعَيانِ طفلًا نامَ بأمان.
2- وبَدا في العُلى، لرعاةٍ يحرِسُون،
جوقُ أملاكِ السما، بحُبورٍ يُنشدون،
جاء نورُ الفِدى ربُّنا الحنون.
3- ليلةً ذِكْرُها، خالدٌ وعظيم،
إذ تجلّتْ للورى، نعمةُ الربِّ الكريم،
في محيَّا الهادي، مفتدي الأثيم.

وأما الصيغة الثالثة فهي مأخوذة عن كتاب (عمانوئيل) الصادر في مصر عام 1956 لكنَّه لا يُذكر فيه اسمُ المترجم. وهي على الشكل الآتي:

1- ليلةً ليلة يا لها بهجةً
وُلدَ الطفلُ المجيد
وأتى الدورُ السعيد،
والهناءُ دام، والهناءُ دام.
2- ليلةً ليلةً أَشرقتْ فجأةً، والرعاةُ بشَّروا،
والجنودُ خبَّروا،
خيَّم السلام، خيَّم السلام.
3- ليلةً ليلةً، يا لها غبطةً،
جاء قدّوسُ العليّ، أنتَ يا ليلُ انْجلِ،
عن خلاصٍ تام، عن خلاصٍ تام.
وهكذا كانت ولادةُ هذه الترنيمة الميلاديَّة ومع أنَّها معروفةٌ جدًا حاليًا في الكنائس الإنجيلية إلاَّ أنَّها كاثوليكيةُ الأصْل. وهي على الرَّغم من البساطة التي أحاطت بتأليفها والقرية المتواضعة التي أُنشدَتْ فيها لأوَّل مرة، إلا أنَّها أصبحتْ من أشهر الترانيم الميلادية ذات المعاني الروحيّة الغنية. فهي تتحدَّث عن ميلاد طفل بيتَ لحم، في مذودٍ للبقر، لكنَّه ملكُ الملوك وربُّ الأرباب وصانعُ فداء الإنسان.
لكن كيف انتقلت فيما بعد من تلك القرية المتواضعة إلى كلِّ رحابِ الأرض؟ يُقال بأنَّ الرجل الذي جاء ليُصلِحَ الأُرغن في الكنيسة في السنة التي تلتْها أي في العام 1819 طَلب أن يُختبر الأُرغن وأن يُعزفَ عليه مقطوعةً موسيقية. فعَزفوا له هذه الترنيمة الميلادية. وبالطبع جذبتْهُ الكلماتُ وكذا اللحنُ، ومن شدّةِ إعجابه طلب الترنيمة وأخذَها إلى قريته. وكانت هناك تقطنُ أربعُ أخواتٍ ممَّن سمعْنَ الترنيمة وأحببْنَها فحفظْنَها ورُحْن يرنِّمْنها. وبحكم عملِهن للأشياء اليدوية، كنَّ يذهبن إلى القرى المجاورة لهن ليَبعْن ما عملْن من قفّازات متعددة. وإلى هناك حملْنَ معهن هذه الترنيمةَ التي أُطلق عليها "نشيدُ السماء" فاشتُهرت جدًا. وذهبن من بعدها إلى مدينة ليبزيغ Leibzig المعروفة في ألمانيا. ورنَّمْنَها في الكاتدرائية الكبيرة وفيما بعد قدَّمنها أيضًا في دار البلدية حيث فوجئنَ بوجود ملك سكسونيا وزوجته بين الحضور. فحدثَ تصفيقٌ حاد من الجمهور من شدّة الإعجاب بها. وطلبت الملكة أن يقدِّمن هذه الترنيمة في القصر الملكي ليلة الميلاد. وهكذا فعلتِ الفتياتُ الأربع. ثم راحت هذه الترنيمة التي سُميت أيضًا بـ "النشيد الجديد" تنتشرُ إلى أن عمَّت أرجاءَ الكونِ بأسرهِ. وتُرجمت فيما بعد إلى 300 لغة منها العربية كما أَنِفَ الذكْرُ.
بالحق يا لها من ليلةٍ عجائبية، ازدانتْ بالأنوار السَّاطعة، فامتلأت السماء بالضياء المشعِّ، وبغتةً ظهرت أجواقُ الملائكة يحملْنَ البشرى السارة للملا. فعلًا لقد امتدَّ الله إلينا (نحن البشر) امتدادًا، وصار بشرًا مثلَنا في شخصِ الطفل العجيب الابنِ الوحيد يسوعَ المسيح الكلمةِ الأزلي. وهنا أختمُ هذه المقالة الميلادية بهذا القولِ لأفرام السرياني:
"الابنُ الوحيد الذي وُلِد أزليًّا بطبيعته، صارَ له ميلادٌ آخرُ غريبٌ عن طبيعته، حتى يكونَ لنا نحنُ ميلادٌ آخرُ غريبٌ عن طبيعتِنا." فهل من بشارة أعظم وأسمى من هذه يا تُرى؟

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2021