يجدر بنا ونحن نحتفل اليوم بذكرى الميلاد أن نطّلع مُجدّدًا على أحداث مثيرة للعجب، وردت بتفاصيل دقيقة تتعلّق بحدث الميلاد

- ما قبله وما بعده - في الأصحاحات الثلاث الأولى من إنجيل لوقا.
ويُذكر هنا أن إنجيل لوقا تفرّد بذكر أحداث هامة لم يذكرها غيره، علمًا أن لوقا لم يكن واحدًا من النُخبة من رسل المسيح، ولم يكن يهوديًا أصلًا، بل كان طبيبًا يونانيًا مؤمنًا مُلهمًا تتبّع الأحداث من بدايتها بكل تدقيق، قاده الروح القدس في ذلك ليكتب عنها.
فتكشّفت فيما بعد عن معلومات هامة من الضروري أن نعرفها، ومنها حديثه عن الكاهن الجليل زكريا، وزوجته أليصابات العاقر التي تربطها بمريم العذراء صلة قرابة أو نسب؛ أليصابات هذه وبمعجزة ربانية حملت في شيخوختها رغم عقمها وأنجبت ابنها يوحنا الذي صار يُعرف فيما بعد بيوحنا المعمدان.
ولادة يوحنا هذا كانت في أواخر زمن العهد القديم. فيوحنا بذلك شاهد يزوغ إشراقة فجر العهد الجديد بميلاد المسيح، مما جعله نبيًّا مُخضرمًا (إن جاز التعبير) إذ عاش في الفترة الحرجة ما بين زمنين، زمن العهد القديم وزمن العهد الجديد، وعاش يوحنا حياته فيما بعد تحت ظلال إشراقة شمس البر (المسيح) وانضمّ للمسيرة وحمل المشعل من بداية الطريق في ربط العُرى بين العهدين، وخلالها عرَّف شعبه بمن جاء بعده ليرفع خطية العالم.
قالوا له: هل أنت المسيح؟ فأجاب: "لست بمستحقٍّ أن أحلّ سيور حذائه... ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص."
وفي يومٍ رأى المسيح عن بعد فأشار إليه بين الجموع وقال: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم." فلولا ما كتبه لوقا في الصفحات الأولى من إنجيله عمّا حدث قبل الميلاد وما بعده، لبقيت معلومات هامة وضرورية، مُبهمة لدينا أو غائبة عنّا. ومنها ما ذكره الملاك للعذراء بأن معجزة أخرى قد تمّت مع أليصابات قريبتها المدعوّة عاقرًا وأنها الآن في شهرها السادس. فكانت تلك إشارة يُفهم منها أن رُبُطُ العهد القديم بالجديد كانت تُحاك في الخفاء واتّضحت فيما بعد.
خبر الملاك عن أليصابات أبهج مريم وأثار اهتمامها، فقامت على الفور برحلة تزور بها أليصابات لتهنِّئها بالحدث، رغم بُعد المسافة بينهما والتي تزيد عن مئة كيلومتر.
وذكر لوقا تفاصيل ممتعة فيما جرى بين مريم وأليصابات في هذا اللقاء لا مجال للخوض فيها الآن، يمكن للقارئ لو رغب أن يطّلع عليه ويتأمل في الأصحاح الأول من إنجيل لوقا من عدد 39 وما بعده.
ويطلعنا لوقا على خبر آخر مهم ذكره في الأصحاح الثاني من سفره بأن أوغسطس قيصر أمر بأن يُكتتب كل مواطن في الدولة في مدينته التي هو أصلًا منها، فكانت تلك عملية إحصائية لأوّل مرة تجري في البلاد. والقيصر عندما أمر بهذا المرسوم لم يكن يعلم أن الخطوة كانت بترتيب رباني لتنفيذ خطة تتعلّق بالمسيح أراد لها الله أن تتمّ.
وإطاعة لأمر الحاكم سافرت العذراء وهي في شهرها التاسع، يرافقها يوسف الصديق الوصيّ على العائلة ليصلا بيت لحم التي ينتميان إليها ليُكتَتبا هناك. المسافة بين الناصرة وبيت لحم تصل إلى 112 كيلومتر، وهي مسافة طويلة، فلا بدّ أنهما استخدما الدواب للركوب.
وعندما وصلا بيت لحم كانت المفاجأة أنهما لم يجدا مكانًا ينزلا فيه. كانت البلدة مكتظّة بالوافدين لنفس الغرض، فنصحهما أحدهم أو صاحب الفندق المجاور أن ينزلا في خان ضمن مغارة مخصصة للأبقار والخراف ليستقرّا فيه إلى أن تمرّ الأزمة، فتقبَّلا ذلك بكل اتّضاع.
ومرّت أيام وحان وقت الولادة. فولدت العذراء طفلها في نفس المكان، وقمّطته وأضجعته في مذود، وسهّلت تحته التبن فراشًا.
في هذا الوقت كانت جوقة من الملائكة فوق روابي بيت لحم تصدح بالترنيم مهلّلة بميلاد المسيح: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة."
وكان هذا على مرأى ومسمع من رعاة بدو كانوا يحرسون حراسات الليل على قطعانهم، اختارهم الله ليكونوا أوّل من يصل إليهم الخبر المُفرح!
هي مجموعة من أحداث تثير العجب، التقى فيها النقيضان فحوت ما يُذهل العقول!
ملك سماوي عظيم احتفلت الملائكة بقدومه، بينما هو لم يجد له مكانًا يولد فيه سوى في مذودٍ للمواشي! فكيف التقت العظمة مع التواضع؟! وكيف التقى المشهدان في لوحة واحدة؟!
صورتان مختلفتان لوجهَي عملة واحدة، التقيا في شخص المسيح. في الوجه الأول صورة العظمة وجلال اللاهوت... وفي الوجه الآخر صورة الناسوت المتواضع الخاضع لظروف الحال. فاللاهوت والناسوت التقيا في شخص المسيح حتى من يوم ميلاده.
هذا المشهد العجيب من العظمة والتواضع، ومن القوّة واللين، ومن الجلال والانسحاق، تكرّرت مشاهده في حياة المسيح على الأرض في أكثر من مناسبة. ففي واحدة منها، وقف المسيح يومًا أمام قبرِ صديقٍ له كان يحبّه هو لعازر (يوحنا 11) وفي لحظة صمت حزينة أمام القبر والناس ينظرون، تحرّكت عواطف يسوع فبكى! ولما رآه الجموع يبكي قالوا فيما بينهم: "انظروا كم كان يُحبّه."
في هذا المشهد ظهرت إنسانية المسيح - المسيح الإنسان - الكلمة الذي صار جسدًا.
وبعد قليل تغيَّر المشهد تمامًا، فبينما كان الحاضرون يتفرّسون في المشهد أمامهم، رفع يسوع نظره إلى باب القبر وخاطب الميت بصوت عظيم: "لعازر هلّم خارجًا!"
فارتعب الحضور وساد صمت رهيب... إذ كيف ينادي من لا حياة له!
ومرت لحظات إلى أن انكسر حاجز الصمت بسماع حفيف حركة بطيئة من داخل بهو القبر المعتم تثير الدهشة! وبعد لحظات بدا شبح أبيض يتراءى أمام عيونهم بين ثنايا عتمة المغارة... وما أن وصل الشبح إلى خارج مدخل المغارة وبان في نور الشمس، حتى عرفوه أنه هو لعازر الذي شاركوا بدفنه قبل أربعة أيام. فارتجّت القلوب هلعًا من هول المشهد.
ثم قال يسوع: "حلّوه ودعوه يذهب." إذ مِن عادة اليهود أن يلفّوا الميت بقماش أبيض قبل دفنه. في هذا المشهد رأينا بوضوح ناسوت المسيح حين بكى أمام قبر صديقه، والبكاء يعني الانسحاق أمام ملمّة صعبة... البكاء صورة من صور الضعف أمام حدثٍ جلل يكسر القلب. ولأن المسيح أخذ طبيعتنا البشرية بتجسّده وولادته من عذراء، فهو شاركنا في كل ما للطبيعة البشرية من صفات، ومشاعر، وطباع ما عدا الخطية. ولذلك حزن أحيانًا وبكى وتألّم لأنه إنسان، له ما لنا من عواطف وأحاسيس إنسانية... ورأيناه في مناسبات أخرى يجوع ويعطش ويتعب ويكتئب وينام... ورأيناه في آخر مشهد له، مصلوبًا ينزف دمًا... ففي هذه كلّها تجلّت طبيعة المسيح الناسوتية.
لكن عندما وقف المسيح أمام قبر لعازر وخاطب الميت بسلطان، وأسمعه صوته، واستجاب الميت له، فهناك تجلّت طبيعة المسيح اللاهوتية.
فالمسيح الباكي هو المسيح الإنسان. والمسيح الذي نادى الميت واستجاب له، هو المسيح الإله، وفي الحالين هو مسيح واحد. وطوبى لمن أدرك هذه الحقيقة وعرفه وعرف هويّته وفتح قلبه له. هذا هو المسيح الذي ننادي به لكل شعوب الأرض! عقيدة تحمل برهانها معها فتُبهج القلوب.
ليتهم يفهموه كما هو في نور هذه الحقائق، لئلا تفوتهم فرصة النجاة، حين يأتي الندم في وقت لا ينفع فيه ندم! المسيح هو الكلمة الذي صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده...
في قصيدة جريئة لطيِّب الذكر ناصيف اليازجي، يشاركنا بها في هذا البحث، يقول:
قالوا هو ابن الله جهرًا والعِدى
من حولهم مثل الذئاب الحُوَّمِ
والناس بين عواذِلٍ وعواذِرٍ
لهم وبين مُحلّلٍ ومُحرّمِ
ما غرَّكم يا قوم فيه أسيفُهُ
أم جاهُهُ أم مالُه في الأنعمِ
* * * * *
كانت رجال الله تُحيِي ميتًا
بصلاتها ودُعائها المُتقدِّمِ
ونراه يُحيي المائتين بأمرِهِ
فهو الإله ومن تشكك يَنْدَمِ
* * * * *
هذا مسيح الله فادينا الذي
صَلَبَتْهُ طائفة اليهود كمُجرمِ
بطبيعةٍ بشريَّةٍ قد أُلِّمَتْ
وطبيعة اللاهوتِ لم تَتألَّمِ

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2021