أذكر في خمسينيات القرن الماضي، اشتركت مع شباب كنيسة قريتنا في صعيد مصر، في مشروع أطلقنا عليه "رغيف العيد"، فقام فريق منا

بجمع الأرغفة من المنازل، وفريق آخر قام بجمع التبرّعات، التي كنا نشترى بها لحوم وخضروات وفاكهة، لتوزيعها على العائلات الفقيرة مع مظروف به مبلغ من المال لتسديد حاجات العائلة بمناسبة العيد.
ومهما مرّ الزمن، فإنني لا أنسى هذه الصورة التي حُفرت في وجداني حتى الآن، فعندما ذهبت مع بعض الشباب إلى قرية مجاورة تبعد عن قريتنا حوالي كيلومترين تقريبًا، في ظلام الليل - كنا نقطع الطريق بالترانيم - وبوصولنا إلى القرية، قرعنا باب بيتٍ كنا نقصده، ففتح لنا رجل مسنّ، فأعطيناه السلّة الخاصة بالعائلة، فشكر الله الذي مسح دموع أطفاله الذين كانوا نيامًا على الأرض يفترشون حصيرًا، في ليلة العيد التي يفرح فيها عادة الأطفال بالهدايا!
وكم كان الفرح يملأ قلوبنا ونحن في طريق العودة، وبهجة العيد تملأ نفوسنا.
أما اليوم، فأضحى العيد في مفهوم الكثيرين تبادل هدايا وبطاقات ورسائل معايدات مع الأهل والأصدقاء، وتزيين المنازل وشجرة الميلاد بالأنوار التي نتبارى فيها وتكلف كثيرًا من المال، والبعض يقوم بالرحلات الترفيهية، وربات البيوت ينهمكن في إعداد وجبة العيد إلى آخر هذه المظاهر - قد نختلف أو لا نختلف على مثل هذه الأمور، لكننا لا نعترض... إنما الأمر الذي ننبّه عليه وهو الأهمّ، ألّا نتغافل وننسى العائلات الفقيرة والمحتاجة... لا ننسى جوهر العيد ومفهوم العيد في ضوء كلمة الله التي توضّح وتكشف لنا الأمور على حقيقتها:

1) إن العيد ذكرى مجيدة. ذكرى لحدثٍ تاريخي عظيم... ذكرى لعمل بارز جليل لا مثل له في التاريخ... وهذه الذكرى ينبغي أن تتعمّق في قلوبنا ووجداننا روحيًا أكثر كلّما عادت إلينا أيامها! وعيد الميلاد ذكرى لحدث فريد غَيّر التاريخ البشري إلى ما قبل الميلاد وما بعده.
ذكرى خلاص العالم... "وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم." (متى 21:1) "وُلد لكم مخلص هو المسيح الرب!"
ذكرى التجسّد وحلول الله بين البشر "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا." (يوحنا 4:1) "وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد..." (1تيموثاوس 16:3) "[... ويدعون اسمه عمانوئيل] الذي تفسيره: الله معنا." (متى 23:1)
ونحن نعيش أجواء الميلاد، هل نتأمل فيما حدث في ملء الزمن؟ مثل: بشارة الملاك للمطوّبة مريم، وللرعاة، وزيارة المجوس للصبي وهم حاملين هداياهم له، وهم ساجدين أمامه؟ هل نتأمل بعمق، كيف أن الإله الذي يملأ السماوات والأرض، وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته يحلّ في بطن العذراء ويتجسّد ويصير إنسانًا مثلنا ما خلا الخطية؟ هذا العمل العظيم يحيّر العقول! حتى أن المطوّبة مريم سألت: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟!" (لوقا 34:1) وجاء الجواب: "كل شيء مستطاع عند الله." هل نتأمل هذه القصة الرائعة ونتعلّم منها الدروس والعِبَر ونتيقّن أن الإيمان يحلّ مشاكل عديدة ويجيب عن تساؤلات كثيرة. وفي نفس الوقت ندرك الهدف من التجسُّد ألا وهو خلاص نفوسنا، فنتيقّن من خلاصنا!

2) والعيـد عبادة حارة وتسبيح
لما ولد السيد المسيح رنّمت الملائكة: "الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ." (لوقا 13:2-14)
وقيل عن الصبي يسوع: "وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ." (لوقا 46:2) قضى يسوع أيام العيد في الهيكل. بينما دأب كثير من المسيحيين الاسميين أن يقضوا أيام العيد في أماكن اللهو... لكن العيد هو فرصة جديدة لتجديد العهود والعبادة والشركة مع إلهنا المتجسّد لأجلنا، بتسابيح وأغاني روحية... بمزامير حمد وشكر وامتنان لإلهنا المنّان... بصلوات تُرفع للرب لتمجّده وتعظّمه على صنيعه معنا، بفحصٍ للنفس وعلاج الأخطاء وتعهدات جديدة مع التوبة. "إِذًا لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ." (1كورنثوس 8:5)

3) والعيد خدمة وتقديمات وعطايا وهدايا
يُحكى عن القاضي الأمريكي "لاغوارديا" أنه حدث أن قُدِّم إليه رجل متّهم بسرقة رغيف خبز لكي يطعم عائلته الجائعة، بعد أن انتشرت البطالة في المدينة... اضطر القاضي أن يحكم على الرجل بغرامة 50 دولارًا. وبعدئذ، نظر القاضي إلى الحاضرين في جلسة المحكمة وقال لهم: "هذه القاعة ليست قاعة عدل فقط بل قاعة رحمة أيضًا." وحكم بأن يدفع كل واحد من الحاضرين دولارًا واحدًا عقابًا لسماحهم بوجود حالة كهذه، تضطر رجلًا مثل هذا المتهم إلى السرقة ليطعم أولاده.
وجمعت الدولارات ودفعها القاضي إلى الرجل، وأمره أن يدفع منها الغرامة ويذهب بالباقي، وقال له: "هذا بالضبط ما فعله ربنا يسوع المسيح؛ لقد دفع الغرامة المحكوم بها علينا، فقد حُكم علينا بالموت نتيجة الخطية، لكنه احتمل هو الدينونة بدلًا عنا، وقال: أنا أحبّك، وأصفح عنك، اذهبْ ولا تخطئ!" فلكي يكون العيد عيدًا بحق، فلنكسر خبزًا للجوعان ولنعطي ماء للعطشان، ولنشارك الحزين ونفتقد المريض... – مع اتخاذ الإجراءات ضد فيروس الكورونا – ولنواسي المتألّمين ولنسند الضعيف ولنعطي الفقير، ولنفتِّش على الضال، ولننصف المظلوم. قال الرب يسوع: "الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم." (متى 40:25)

4) والعيد أيضًا شكر وامتنان لصاحب وربِّ العيد الذي جاء لخلاصنا "فشكرًا لله على عطيّته التي لا يُعبَّر عنها." (2كورنثوس 15:9) والعيد ينبغي أن يكون عيدًا مستمرًّا في حياتنا. فعيد الميلاد لا يقتصر على 25 ديسمبر للغربيين أو 7 يناير للشرقيين، فحياة المؤمن هي عيد دائم، يلهج نهارًا وليلًا في العبادة والتسبيح والشكر والفرح في كل لحظة من حياته... يمجّد شخص الرب يسوع المخلص ويعبده ويشكره ويخدمه مكرِّسًا له حياته بجملتها كل يوم. فهل نعيِّد عيد الميلاد في ضوء هذه المفاهيم؟ وكل عام وأنتم بخير!

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2021