إحسان بطرسعزيزي القارئ أريد أن أذَكِّرُك بأننا لا نزال في سلسلة مقالات "لماذا نُبشّرُ بالمسيح المصلوب؟ وفي المقال السابق تحدثنا عن "الصليب واندحار إبليس"، وفي هذه المقالة سنشرح بالتفصيل معنى انتصار المسيح على العالم.

عندما نتأمل في الكلمات المنعِشَة للنفس، المُطمئِنة للقلب والمُفرِحة للروح "ثقوا أنا قد غلبت العالم" فإننا نتشجّع وننسى العقبات والاضطرابات والاضطهادات في عالم متوحّش بالخطيّة، لماذا؟ لأن يسوع هو رئيس إيماننا! في هذه العبارة نتأكد بأننا نتبع أعظم قائد منتصر في كل التاريخ. فهو لم يعرف الهزيمة ولا حتى لمرة واحدة، رغم أنّ بعضًا ممن كان يكرهونه، عندما رأوه مُعلقًا على الصليب ظنوا خطأً بأنهم قد تمكّنوا منه، ولكن حاشا فهو رئيس الحياة حتى وإن مات موت الصليب، لكنه قام في اليوم الثالث ظافرًا على كل الأعداء (الموت، الخطية والهاوية والعالم والشيطان) لذا فهو مستحق الآن أن نحييه تحيّة الإجلال والإكرام وهاتفين باسمه لأنه هو المنتصر ونحن نمشي في موكب نصرته.
ولكن قد يخطر ببالك هذا السؤال: ماذا يعنى أن يسوع قد غلب العالم؟ وللجواب نقول: ليس المقصود بالعالم في هذه الآية أنهم الناس، لأنّ المحبوب يسوع ربنا قال لنا: "لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 16:3) لكن نصرة يسوع في الصليب على العالم لها ثلاث مفاهيم:


1. النصرة على العالم الشرير
إنّ لي ولك في الصليب أعظم عملية إنقاذ لا تخطر على بال إنسان، إذ تم إنقاذنا من العالم الحاضر الشرير، والمقصود بهذا المصطلح في رسالة غلاطية هو المنظومة الدينية التي يترأّسها الشيطان رئيس هذا العالم، الذي أنشأ ديانات عالمية تنقسم إلى قسمين رئيسين: أما أن تنادي بقمع الجسد، وقوائم للحلال والحرام، والافتخار بديانة الأعمال، أو تُلبّي الشهوات الرديئة للزبائن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تخدّر الضمير وتجعله كالبهيمة يفتكر في الأرضيات ولا يقدر أن يعرف من هو الله؟ ويستخدم الشيطان تلك المعتقدات لتشويش ذهن الإنسان فلا يعلم حالته الحقيقية أمام الله، فيصبح الإنسان فقيرًا وأعمى وعريانًا روحيًا... أليس من الغباء أن نترك يسوع المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ونذهب لنستعطيَ من أركان فلسفات وديانات العالم التي يسمّيها الكتاب أركان العالم – الضعيفة الفقيرة؟
ولكننا نشكر الرب يسوع الذي فتح أذهاننا عندما آمنا به وما صنعه لأجلنا على الصليب، لأنه أنقذنا من الديانات العالمية التي تؤدي بمن يعتنقها - في نهاية المطاف - لهلاكه الأبدي وهو لا يعلم.

2. النصرة على عالم الجهل
في الصليب تم إنقاذنا من (عالم الجهل) فالعالم رغم افتخاره بالفلسفة والحكمة البشرية وبلباس الدين إلا أنه لا يستطيع أن يقدِّم أي حلٍّ جوهريٍّ لمشكلة الخطيّة. فعلى سبيل المثال، عندما أقام يسوع لعازر الميت الذي كان له أربعة أيام في القبر، أليس من الصحيح أن يكرموا يسوع ويشكرونه؟ لكنهم، أي رؤساء الكهنة، عقدوا مجمعًا لكي يتخلّصوا من يسوع صانع المعجزات، ومقيم الأموات (انظر مرقس 1:14 وقارنه مع يوحنا 47:11) أليس هذا جهل؟
وفي أثناء محاكمة يسوع أمام الوالي الروماني الذي أعطاهم فرصة لاختيار هدية العيد أي أن يُطلق لهم واحدًا من السAجناء، قال رجال الدين الذين هيّجوا الشعب: أطلق لنا باراباس - رجل مجرم - وأما يسوع رئيس الحياة فصرخوا بذهن غائب عن العقل: "اصلبه اصلبه." فيا للجهل الممزوج بالغباء!
لكن الشيء العجيب أن هناك مفارقة حدثت في الصليب، فبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يحاولون التخلّص من يسوع ومن اسمه ابن الله في الصليب لكي يحافظوا على كراسيهم الدينيّة، إلا أن يسوع الذي أحبّنا صنع لنا خلاصًا كاملا فوق الصليب لكي يهبنا أن نجلس على عروش في منازل سماوية في بيت الآب وهذه هي حكمة الإله العظيم وحده الذي انتصر على عالم الجهل.
والمفارقة الأخرى، بينما كان هيرودس يستهزئ ويحتقر يسوع الملك إلا أنّ يسوع على الصليب أسس ملكوتًا سماويًا لا يتزعزع وأكرمنا بمقام عالٍ جدًا وهو أنه جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبينا. وهذا يعتبر انتصارًا عظيمًا.
والمفارقة الأخيرة هي أن اليهود والرومان ظنوا بجهل أنهم بصلبهم ليسوع سيتخلصون من اسمه وتعليمه، لكن يسوع المصلوب أصبح ينادى باسمه في كل العالم وكلمته لا تُقيَّد.

3. محبة المصلوب المنتصرة على عالم البغض والعنف
إن أحداث الصلب من جلد يسوع بالسياط التي كانت تعمل كالمحراث على ظهر مُخلصنا المعبود، ووضع إكليل الشوك، وثقب يديه ورجليه بمسامير غليظة، وانهيال الرعاع المارة بالشتائم والبصق على وجه يسوع القدوس إنما تظهر العالم على حقيقته عالمًا مشحونًا إلى التمام بالحقد والكراهية والعنف، ولكن يسوع فوق الصليب كان ولا يزال قلبه ينبض بالحب، فأظهر محبة للأعداء فقد غلب البغضة والشتائم بالمسامحة. إنّ محبة يسوع هي راية نصرته على عالم البغضة، وأظهر الله لطفه لنا وظهرت مسرة يسوع بخلاص أسوأ الخطاة إذ قال للّص التائب: "اليوم تكون معي في الفردوس."
إنّ العالم الحاضر الذي ابتدعه العدو مشحون بشحنه سلبية على بغض الله، وبغض يسوع، ومعاداة أقواله، ولقد كان شاول الطرسوسي من أكثر المتحمسين لموروثاته الدينية، وقد كان يرتئي أن يصنع أمورًا مضادة لاسم يسوع الناصري، ولكنه بعد الإيمان اعترف أنه فعل ذلك بجهل. كان قبل الإيمان رجلًا عنيفًا، لكنه بعد خلاصه شهد عن يسوع المصلوب قائلًا: "... ابن الله، الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي."
عزيزي القارئ، هل لا تزال معي على نفس الصفحة؟ فإذا راجعنا ما قلناه سابقًا سنجد أنّ تلك النقاط هي عبارة عن سلسلة مُتصلة (المنظومة الدينية التي يترأسها الشيطان، الجهل، العنف والبغضة) مرتبطة معًا وأما نحن المؤمنين بيسوع المنتصر في الصليب، فقد صار خلاصنا ولنا حكمته ومحبته.

يسوع بين مؤامرة الأشرار ومشورة الله
عندما نتأمل في الصليب نستطيع أن نرى وجهتان: وجهة نظر العالم الشرير وأياديه المُلطخة بجريمة صلب ابن الله، ومن جهة أخرى نرى مشورة الله الأزلية، وكيف استخدم الله الأشرار لتتميم خطته. فالمزمور الثاني يتكلم كيف تآمر اليهود والرومان على التخلص من يسوع (أعمال 25:4-28). وكان لسان حال أولئك الأشرار لا نريد يسوع "لا نريد أنّ هذا يملك علينا". لقد تآمر الشعوب باطلًا وبذهن باطل وبجهل وكل هذا أنشأ كراهية في قلوب الكارهين لحكمة الله (يسوع) ولكن مشورة الله هي إرادته ومحبته لخلاص الإنسان من الهلاك الأبدي، ولذلك كان ينبغي أن يتألم المسيح ويموت على الصليب حاملًا خطايانا ومُسدِّدًا مطاليب العدالة الإلهية التي لا نستطيع تسدديها نحن لأننا ملوثون بالخطية، وقد انتصر الخير على شر الإنسان، وسفك حمل الله يسوع دمه الطاهر على الصليب لكي يطهرنا من خطايانا. فيسوع الملك المتألم على الصليب انتصر على العالم، إذ أتم مشورة الله.


لا أخاف من أي شيء سوى الخطية

حدث يومًا أن القديس يوحنا فم الذهب وبّخ الإمبراطور المعاصر له لخروجه عن جادّة الحق، فحمي غضب الإمبراطور وقبض عليه وحاول أن يسكته ويحوّله عن خدمته للرب. فقال الإمبراطور لحاشيته: "ماذا نفعل بهذا المقلِق يا ترى؟ إنه قد تجاوز حقوقه في هذا الأمر."
فقال أحد مستشاريه: "أيها الإمبراطور، عش إلى الأبد. يصعب عليّ أن أقدّم الشورى المناسبة لجلالتك لأن هذا لا يهاب شدةً، أو ضيقًا، أو اضطهادًا، أو جوعًا، أو سيفًا، لأن هذه كلها ليست قادرة أن تفصله عن محبة إلهه."
قال الملك: "لنسجنه ونبعده عن أحبائه."
قال المستشار: "هو لا يفزع من الحبس لأن مسرّته أن يختلي بالله متأملاً فيه."
قال الإمبراطور: "فإن كان الأمر هكذا دعنا نعدمه الحياة."
أجاب المستشار: "الموت لا يفزعه لأنه يشتاق إلى السماء كما قال في عظته الأحد الماضي [لا أخاف من أيّ شيء سوى الخطية.] ولو كان ممكنًا أن تجعل الخطية أن تتغلّب عليه لكان ممكنًا أن تزعجه."
يا ليت الله يجعلنا جميعًا كيوحنا فم الذهب الذي فضّل الموت على الخطية.

المجموعة: تشرين الثاني (نوفمبر) 2021