الدكتور صموئيل عبد الشهيدالصرخة التي انطلقت من بين شفتيّ المسيح وهو على الصليب يلفظ آخر أنفاسه ما برحت حتى اليوم تدوّي في آذاننا،

وتثير في قلوبنا أغرب المشاعر، بل تستأثر بأفكارنا التي مهما أوغلت في التنقيب عن أبعاد هذه الصرخة، فإنها لن تستكشف مراميها، ولن نستوعبها حقّ الاستيعاب.
أقول هذا، وأنا واثق تمامًا أن طائفة كبيرة من اللاهوتيين، وعلماء الكتاب المقدس تواكبوا على دراسة هذه العبارة وحاولوا تفسيرها لغويًا، ولاهوتيًا وأخلاقيًا، وعرضوا علينا مجموعة من الآراء والنظريات والتعليلات، ولكنها كلها لم تبلغ في رأيي عمق السر المكنون في هذه الصرخة. فالموقف هنا موقفٌ مأساوي، فيه تأبدّت الحقيقة، وانجلى الغبار عن علاقة بين الآب والابن لا نظير لها في التاريخ الكوني.
ولست أحاول هنا أن أميط اللثام عن أبعاد هذه العبارة، فهناك من هم أكثر خبرة مني في هذا الحقل، وأكثر علمًا بأصول اللاهوت، ولكنني سأعمد إلى إلقاء بعض الأضواء على التأثير المنبثق من هذه الكلمات، لأنها بطبيعتها تعبّر عن إحساس صارخ بالألم المبرّح.
قبل أن تندّ هذه الصرخة منقلب المسيح جرى حوار بينه وبين اللصّ المصلوب عن يمينه. ويبدو للمتأمل المخلص، أن المسيح، في أثناء هذا الحوار قد فقد إحساسه بالزمان والمكان، وغابت عنه الظروف الفاجعة المحدقة به، إذ كان همّه، في الدرجة الأولى أن ينقذ نفس هذا اللصّ من الهلاك الأبدي. التفت إليه من عمق آلامه، وأصغى إلى أشواق قلب اللصّ التائب، ثم قال له بصوت واثق: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس". صدر هذا والوعد الأكيد من شخص في لحظات حياته الأخيرة مما ولا شك، غمر قلب اللص التائب بسعادة لا يمكن وصفها. ولكن هذا الذي أمّن للّص حياته الأبدية هو ذاته الذي صرخ "إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟"
يحدّثنا الكتاب المقدس أن الابن من حيث هو الكلمة كان مع الله منذ البدء: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله." أي أن الصلة هنا كانت صلة يتعذر انفصامها، هي صلة عضوية تشكّل في جوهرها وحدة قد يعجز الإنسان عن إدراكها، ولكن ما لم يكن متوقَّعًا قد حدث على الصليب. ولا ريب أن هذا "الترك" أو الانفصال قد وقع مرة واحدة في تاريخ علاقة الآب بالابن، ولن يحدث ثانية لأن الابن قد أكمل العمل، ونفّذ الخطة الإلهية التي رُسمت من قبل تأسيس العالم.
إن ذلك "الترك" ولو للحظة قد اقتضى تضحية هائلة من الآب السماوي إذ كيف يمكن لقلب الله المحب الحنون أن يتخلّى عن - "كلمته" - ابنه ليقاسي من آلام الصليب وهو البار الذي لم يرتكب إثمًا، والذي يقول عنه الرسول أنه صار خطيئة من أجلنا. نعم صار خطيئة من أجلنا. ولأنه صار خطيئة من أجلنا أشاح الآب السماوي بوجهه عنه لأن الآب يكره الخطيئة.
وأود هنا أن أنبّر على لفظة خطيئة. إن الوحي لم يصف موقف المسيح بأنه إنسان خاطئ، بل وصفه بأنه صار "خطيئة" أي أنه أخذ على نفسه أن يكون خطيئة لكي يحمل نيابة عن البشر، وبفعلٍ اختياريٍّ القصاص أو حكم الدينونة الذي كان من حق الجنس البشري الساقط. غير أن الله محبة، لهذا يقول الكتاب المقدس:
"لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية."
"صار المسيح "خطيئة" من أجلنا باختياره.
وبذل الله ابنه من أجلنا باختياره.
وصُلب المسيح من أجلنا باختياره.
وترك الآب ابنه على الصليب باختياره.
أما الثمن فهو التضحية التي لا مثيل لها لأنها تضحية إلهية وليست بشرية. فالذي به كان كل شيءٍ وبغيره لم يكن شيء مما كان قد وجد نفسه في لحظة متأزّمة من حياته منبوذًا، ومرذولًا ومحتقرًا من كل الناس.
فالمجتمع قد تخلّى عنه...
وأصدقاؤه الأقربون قد هجروه...
والمجمع السنهدريمي قد أدانه...
والحكم المدني الروماني قد حكم عليه بالموت.
وها هو الآن مرفوعًا على الصليب يطلق صرخته الداوية المفعمة بالأسى. والحقيقة أن الموقف الإنساني من المسيح لم يكن مؤلمًا بمقدار الموقف الإلهي منه، لأنه في تلك اللحظة أحس أنه يقف وحده في مجابهة أخطر حدث في حياته. هو وحيد يصارع في ساحة المعركة لا من أجل نفسه بل من أجل خلاص الجبلة البشرية. هو وحيد يقاوم كل رغبة في التمرد على خطة الفداء لأن إخفاقه في تنفيذ الخطة الإلهية معناه هلاك الإنسانية. هو وحيد في نضاله ضد قوى إبليس التي حاولت وظلّت تحاول أن تحول بينه وبين الصليب لأنها كانت تدرك أن وقوع الصلب معناه القضاء على شوكة الموت، وعلى جبروت الخطيئة.
كان لا بُدّ أن يدفع الثمن وحيدًا باختياره وبفرط محبته.
ولم يصر المسيح خطيئة من أجلنا فقط، بل حمل على كتفيه كل معاصينا وآثامنا. فهو مضروب من أجل معاصينا، ومسحوق من أجل آثامنا؛ أيّ ذنبٍ جناه هذا البار؟ أية جريمة ارتكبها فأسفرت عن الحكم عليه بالموت صلبًا؟ لقد ارتدى ثوب إثمنا، وتلفَّع بعباءَة خطايانا، ومشى في درب الجلجثة من أجلنا.
إن صرخته "إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟" لم تكن صرخةً فارغةً بل كانت خلاصة أنّات الخليقة بأسرها المستعبدة في أصفاد الموت. فكل الأشواق المقدسة، والتطلعات المستقبلية قد تجمّعت في تلك الصرخة لأنه، بدا، وكأن الآب قد تخلّى عنه، غير أن المصلوب أدرك، إن تلك اللحظة القائمة لا بُدَّ أن تنجلي، فيتغيّر من ثَمّ وجه التاريخ، وتتفتّح أبواب السماء من جديد، ويستردّ الابن الذي أطاع حتى الموت، مجده ويتم فداء البشرية.
كانت عبارته الأخيرة "بين يديك أستودع روحي". لم تكن هذه عبارة يأس من الآب، وإلاّ فكيف يستودع روحه بين يديّ من يئس منه؟ إنها شعلة الأمل بأن العمل قد أُكمل، وأن تخلّي الآب عن المسيح كان جزءًا من الخطة الإلهية لكي يتحقّق القصد المقدس من مجيء المسيح إلى هذا العالم. وهكذا كان:
الفداء فداؤه هو...
والانتصار انتصاره هو...
والملك ملكه هو...
والمجد مجده هو...
وفوق الكل، عمّ حبه أرجاء الكون فتصالح الإنسان مع الله بفضل الابن الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد لكي يسترد ما هو ملك للآب. إننا مخلوقون على صورة الله ومثاله، وهذه الصورة هي ختم الله علينا. وهكذا جاء المسيح، واجتاز في وسط الآلام ليعيدنا إلى حظيرة الآب.
هل أدركت عظم الثمن المدفوع من أجل خلاصك؟
ويل لكل من يستهين بهذا الثمن.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2021