كانت الرهبنة في العصور الوسطى إحدى الوسائل الشائعة للهروب من الحياة. وكان الناس يعتبرون أن الانضمام إلى نظام معيّن ليصبح الشخص راهبًا أو راهبة،

خطوة عظيمة في الحياة؛ ذلك أنها في الحقيقة كانت إحدى الوسائل التي سلكها كثيرون للهروب من الحياة.
منذ وقت قصير كنت أعرف سيدة شابة حاولت الانتحار لفشلها في الحبّ. وأيضًا مارلين مونرو كانت نجم السينما الشهيرة... رفضت أن تواجه الحياة وأقدمت على الانتحار... وإني أعتبر أن محاولات الإنسان الهروب من الحياة عملاً لا يدعو إلى الدهشة لأن الحياة عملاق قوي... الحياة صراع مرير ولكنها أيضًا المدرسة التي فيها نتعلم أو لا نتعلم كيف نواجه الحياة... ونحيا.
ويبدو أن بولس الرسول قد وجد هذا السر العظيم الذي به نواجه الحياة إذ يقول: "إني قد تعلّمت... أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه."
وبولس لم يدرك فقط كيفية مواجهة الحياة ولكن أيضًا كيفية مواجهتها بابتسام.
ترى، هل هذا يعني أن بولس الرسول كان سلبيًا؟ إنه ترك الحياة تجري دون أن يعيرها اهتمامًا... إنه يقول: "فإني كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد." (رومية 3:9)
إن من يقول هذا هو أبعد ما يكون عن أن يكون سلبيًا تجاه العالم. إن بولس الرسول كان يملك ذلك الاكتفاء الداخلي. كان يملك السلام الذي يفوق كل عقل. هذه الشجاعة التي مكنته من مجابهة الحياة بروح إيجابية.
إن كلمة الله تعلمنا أن الحياة هي عبارة عن مجموعة من الظروف التي نواجهها. وإذا تمكّنّا من مواجهة تلك الظروف فإننا نتمكن من مواجهة الحياة. ويمكن تفسير الظروف والأحوال التي حولنا إلى قسمين أساسيين.
1- الظروف العادية أو روتين الحياة.
2- الظروف غير العادية أو مشاكل الحياة.
والآن كيف نواجه كلتا الحالتين؟

كيف نواجه الروتين... الظروف العادية؟
إن الحياة تتألف إلى حدّ بعيد من مجموعة من العادات التي نكونها لأنفسنا ونحن نُجبر على هذه العادات إلى حد بعيد لاحتياجاتنا الجسدية والمادية. فالتنفس مثلًا، هو عادة بدونها لا نستطيع الحياة والعمل، كذلك يدفعنا إلى روتين معين في سبيل الحصول على حاجاتنا المادية.
يبدو أن الروتين هو أمر خارج عن إرادتنا ولكن يمكننا أن نخلق التجانس بين الروتين وكيفية مواجهتنا له. فإن كنا نكره الروتين فبالتالي سنكره حياتنا وستكون النتيجة تبعًا لذلك هي عدم الرضا وعدم الاكتفاء وتعاسة مستمرة... وموقف المسيحي تجاه الروتين يجب أن يكون موقف المسيح شخصيًا تجاه الروتين. ومن الإنجيل نعلم أن المسيح كان له مجموعة من العادات. ففي لوقا 16:4 نقرأ: "ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ."
إن يسوع كان يحب روتين الحياة، وتبعًا لذلك وجد فرصة عظيمة لتمجيد الله وليعلن نفسه المخلص المنتظر (لوقا 21:4). لا شيء يستطيع أن يعمينا أكثر من الكراهية ولا شيء يستطيع أن ينير سبيلنا أكثر من الحب.
في القرن السادس عشر استجاب الأخ لورانس لنداء الله للخدمة، وانضم إلى نظام معين ليصبح راهبًا، ولكنه شعر بالخيبة عندما طلبوا منه في الدير أن يعمل في المطبخ. لقد كان يظن أنه جاء ليبشر بإنجيل المسيح وليس ليخدم في المطبخ. وكره الروتين اليومي في المطبخ. وكانت النتيجة تعاسة مملة! وفي ذات يوم اكتشف أمرًا عظيمًا. اكتشف أن الله أيضًا في المطبخ. وأنه بغسيله الأطباق إنما كان يرضي الله ويخدمه. هذا غيّر نظرته تجاه روتين تلك الحياة وبدأ يحب الروتين ويستخدمه ليعبّر عن حبه وإخلاصه لربّه. وكانت النتيجة تدعو إلى الدهشة إذ تحوّلت حياته إلى سعادة فائقة. وصارت علاقته بالله من القوة حتى أنه أصبح يحادث الله كما يحادث أقرب أصدقائه.
ودوّن كتابًا يذكر فيه اختباراته في المطبخ بعنوان "التدرب على وجود الله." وهذا الكتاب كان سبب بركة للملايين. إنه لا حدود للسعادة التي تغمر حياة من يعتاد مواجهة الروتين بقلب محب، ويتعلم كيف يستخدمه ليعلن قوة المسيح المطهرة.
ولكن الخبرة تعلمنا أن الحياة لا تتكوّن فقط من روتين منسّق ولكن أيضًا من مشاكل طارئة.
كيف نواجه المشاكل والظروف غير العادية؟ عبّر أحد الكتَّاب الإنجليز عن رغبته في عالمٍ بدون مشاكل في مؤلَّف عن جزيرة خيالية أسماها آتوب حيث لم يكن هناك أي أخطاء. كثير من الناس يفنون أعمارهم بحثًا عن مثل هذا المكان، ولكن بدون جدوى. إن المشاكل مثل ذرَّات التراب التي يخلفها الوصول إلى أي مكان في المنزل مهما أحكم إغلاقه. لا يوجد شخص يمكن أن يستثني نفسه من المشاكل بأي صورة. ولكن السؤال الأساسي هو كيف نواجه المشاكل؟
يقول بولس الرسول في فيلبي 12:4 "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ." أي، أعرف كيف أواجه المشاكل!
وعند مواجهة المشاكل يمكن للمرء أن يسلك أحد سبيلين:
الأول، وهو الطريق المنخفض وفيه يتجاهل المرء المشاكل ويحاول أن يُقنع نفسَه بعدم وجودها وبذلك يصبح كالنعامة التي تَدفُنَ رأسَها في الرمال عندما تحيط بها الأخطار محاولةَ إخضاعِ نفسها بعدم وجود أي خطر.
أما السبيل الثاني، والذي يمكن أن نسلكه في مواجهتنا للأخطار والمشاكل هو هذا الطريق المرتفع.
راقبَ شخصٌ نسرًا طائرًا يواجه عاصفة قوية، وكم كانت دهشة هذا الشخص عندما وجد أن النسر لم يطرْ هاربًا من وجه العاصفة، لكنه اندفع تجاهها بقوة فرفعته قوة العاصفة إلى أعلى ومرت من أسفله. إننا إذ رفعنا أذرعنا أمام الله الذي يعتني بنا، فإننا نستطيع أن نواجه العواصف ونستخدمها لترفعنا إلى مستويات روحية أعلى.
وهذا هو السبب الذي من أجله يسمح الله لنا بالمرور في مشاكل متنوعة حتى نستخدمها لترفعنا إلى فوق حتى نكون أقربَ إليه. بعض النباتات تستخدم أشعة الشمس لتكتسب حيويةً وجمالاً، بينما البعض الآخر يذبل من حرارة الشمس.

كيف تستخدم أنت المشاكل؟
لقد واجه الرسول بولس مشاكل مالية وجسدية متنوّعة بقوله: "إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونَعرَى ونُلكَم وليس لنا إقامة." (1كورنثوس 11:4) كما ذكر إلى المؤمنين في غلاطية 13:4 "وَلكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ." فهو في صِعابه ربح الأمم للمسيح سيّده، ما هو سرّ الرسول بولس؟ إنه شخص واحد المسيح! أن يسوع أعلن نفسه أنه هو الحياة!
لكن إن ابتعدنا عن المسيح فإننا لا نستطيع أن نواجه الحياة. بعيدًا عن المسيح نُصبح خليقة مهمَلَة في سلّة الحياة المملّة.
بعيدًا عن المسيح، نحن لسنا سوى ورقة نبات تعصف بها الحياة في كل اتّجاه. إن البالون لو امتلأ بالهواء العادي لبقي في مكانه، أما إذا انتفخ بالهيدروجين فإنه يرتفع عاليًا في الفضاء. إنك عندما تقبل المسيح فإنك تحصل على قوة عظيمة من أعلى... تحصل على نوع جديد من الحياة... المسيح نفسه! عنده يمكن أن يكون لروتين الحياة معنى وعنده فقط تصبح المشاكل هي أحد الوسائل التي بها نرتفع إلى فوق.
يقول الكتاب المقدس إن "الذي فيكم أعظم من الذي في العالم." (1يوحنا 4:4) وبه فقط نحن نحيا!

المجموعة: شباط (فبراير) 2021