إنَّ التوحُّد العصبيّ، أو Neurological Autism، هو مجموعةٌ مِن الحالات المرضيّة تتمثَّل بصعوبة التفاعُل الاجتماعي، وحركات اللّاوعي المتكرّرة، والتردُّد في النطق والتواصُل.

هذه العلامات المرافِقة للتوحُّد تبدأ بالظهور ما بين 2 إلى 3 سنوات، وأحيانًا في سنٍّ مبكِّرة. بحسب المركز الطبيّ الأمريكي، فإنَّ من بين 68 طفلًا هناك واحدٌ على الأقل يعاني مِن التوحُّد، وهذه نسبة مرتفعة جدًا.
إن مرضى التوحُّد يعانون أيضًا من مشاكل طبّيّة أخرى مثل الأمراض المعويّة، والاضطرابات النفسيّة، ومشاكل النوم والخوف، وعدم التركيز والحركة المفرطة. في هذا الإطار، كيف ينظر المجتمع المعاصر إلى التوحُّد؟ وما هي الحلول المتاحة؟ وكيف يجب على الأهل أن يتفاعلوا مع أبنائهم ذوي التوحُّد؟ وهل هناك نظرة كتابيّة ومشورة مسيحيّة ما بخصوص التوحُّد العصبيّ؟ سنتأمل ببعض العناصر المؤثِّرة في هذا المرض المعقّد.

العناصر العلميّة والطبيّة للتوحُّد
إن الصعوبات التي تترافق مع تأثيرات التوحُّد العصبيّ تتمحور بشكل رئيسي حول عدم إمكانية المصاب بالتفاعل الدماغيّ مع محيطه. في كل يوم يُحلِّل الدماغ البشري الأمور التي تعترض طريقه، مثل الشمّ واللّمس والنظر والسمع والذوق، ويتجاوب معها بتطوير خُبرات التفاعل الإيجابي. أما دماغ المصاب بالتوحُّد فيصعُب عليه تحليل هذا الكمّ الهائل مِن المعلومات فيتوقّف بالتالي عن التفاعل أو أخذ المبادرة في التصرُّف الإراديّ. لذلك نرى هؤلاء المرضى في حالة ضياع، لا يتكلّمون ولا يتفاعلون مع محيطهم، حتى أنهم لا يقدرون على التعبير عن مشاعرهم بالنسبة إلى الآخرين.
ربما لا نعرف بالتحديد الأسباب العلميّة للتوحُّد، إلّا أنّ العوامل المؤثّرة قد تشمل الجينات الوراثية والتفاعُل البيئي والاجتماعي. بيَّنت الدراسات أنَّ بعض الكيميائيات العصبيّة، أو Neurotransmitters المسؤولة عن التواصل بين الخلايا العصبيّة ضمن شبكات كهرومغناطيسيّة مُعقّدة، لا تعمل عملها بشكلٍ سليم. وبما أنَّ هذه الشبكات العصبيّة غير محدودة، فمن الصعوبة بمكان تحديد الخلل الناتج داخل الدماغ. فجُلَّ ما نستطيع فهمه أو قياسه هو التصرُّف الذي يُظهره أو يقوم به المصاب، لكننا نجهل الكثير مِن المسببّات الخلويّة والخَلل الفيزيولوجيّ الحقيقي الموجود.
بحسب المعجم الموسوعي في عِلم النفس، والصادر عن مكتبة لبنان سنة 2015، لا يوجد سببٌ واحد فقط للتوحُّد، بل هناك أسبابٌ عدّة، نذكرُ منها التالي باختصار:
أولًا: العوامل البيولوجيّة، كما ذكرنا آنفًا، ولا سيما الخَلل القائم في النصف الأيسر مِن الدماغ الذي يؤثر في جزء الحُصين أو Hippocampus. كما نلاحظ أيضًا وجود كميات كبيرة غير اعتيادية للهرمون الذكوري Testosterone عند الأجنّة التي أظهرت عوارض التوحُّد في السنوات الثلاث الأول بعد الولادة، إنما لا نعرف بالضبط دور هذا الهرمون.
ثانيًا: العوامل البيئيّة، والتي تشمل طبيعة الأم الفيزيولوجيّة، واحتمال حصول إشكالات خلال الحمل، وتعرُّض الأم للالتهابات المزمنة، وكذلك إشكالات الولادة ونوعيّة الغذاء للأم والطفل معًا. إحدى الدراسات أظهرت أيضًا أنَّ تناول بعض الأدوية أو الوصفات الطبيّة خلال فترة الحمل قد يؤدي إلى تشوهّات دماغيّة قد تُساهم إلى حدٍّ كبير في تطور التوحُّد.
ثالثًا: العوامل الطبيّة، والتي تتناول النقص في بعض الكيماويات الخلويّة والتي غالبا ما تؤثّر في النمو العصبيّ، مثل نقص فيتامين B6 وB9 وزيوت الأوميجا 3 والفوليت Folate/Folic Acid. الجدير ذكره أيضًا أنه يوجد العديد من الأدوية الرائجة والمستخدمة حاليًا وهي تلك التي تؤدي إلى تعديل بعض السلوكيات التي تأسر مريض التوحُّد وتؤثّر في تصرفاته.

العناصر العائليّة والاجتماعية والثقافيّة للتوحُّد
إنَّ مرض التوحُّد العصبيّ يؤدي في حال لم تتمّ معالجته في مراحله الأولى إلى مشاكل جسمانيّة وشخصيّة واجتماعية وثقافيّة ونفسية، أختصرها بالآتي:
صعوبة تعلُّم الكلمات ومعانيها في اللغة وبالتالي غياب التواصل اللفظي.
تكرار الفعل أو القول مرارًا مِن دون معنى واضح وبالتالي غياب التواصل غير اللفظي.
الحركة الجسميّة بشكل أو بآخر دون هدف بنَّاء وبالتالي غياب التركيز.
صعوبة التأقلم مع المحيط وعدم التفاعل مع أيٍّ من التطورات التي قد تطرأ داخل البيت أو في المجتمع وبالتالي غياب التواصل مع الآخرين.
في النظرة الاجتماعيّة للتوحُّد، نرى أنَّ الاهتمام بالمصاب ضروري جدًا. بالرغم من عدم وجود علاج شافٍ بسبب تعقيدات الأسباب، كما ذكرنا، هناك بعض العلاجات الطبيّة والنفسيّة والاجتماعية التي تساعد على تحسين نوعية الحياة عند المصابين بمرض التوحُّد. فهناك أكثر من أخصَّائي له الدور الهام والفعّال في الاهتمام بالمرضى مثل المعالجين النفسيّين، وأخصائي النطق وكذلك المعلّمين. إنَّ العلاج السلوكي هو أحد أبرز الاهتمامات في التدريب على اكتساب بعض المهارات السلوكيّة والاجتماعية لدى المصابين. كما يجدر ذكره أيضًا أنه يوجد بعض البرامج المتخصّصة والتي تساهم في تنمية مهارات الطفل المتنوعة، بالإضافة إلى مجموعة مِن العلاجات النفسيّة التي تشمل استعمال الموسيقى العلاجيّ Music Therapy والاحتضان العلاجيّ Holding Therapy. أشدِّد أيضًا على أن مفهوم الاحتضان موجودٌ في المسيحية وله دورٌ أساسي في إظهار المودَّة والاهتمام، كما علَّم المسيح تلاميذه: "فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ. فاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ." (مرقس 10:14-16) لا شك إذًا أنَّ للأهل الدور الأساس في فهم هذا المرض وتعقيداته وبالتالي كيفية التفاعل البنّاء مع أطفالهم المصابين ومساعدتهم، أما المجتمع فله دور الاستيعاب والتدريب لكي يستطيع هؤلاء الأطفال أن يعيشوا حياة كريمة ويندمجوا في البيئة التي يعيشون فيها.

العناصر الكتابيّة والروحيّة للتوحُّد
ينبغي علينا أن نتذكّر أنَّ عطايا الله إنما هي صالحة (يعقوب 17:1)، وبالتالي فإنَّ عطية الأولاد هي نعمة إلهية بغضّ النظر عن طبيعتهم أو صحّتهم الجسديّة والعقليّة (مزمور 3:127-5). إنه لامتياز أن نُعنى بالأولاد الذين أعطانا إياهم الله، والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصّة أو ذوي الإعاقات لشرفٌ عظيم، إذ أنَّ الله يعطي الحكمة والنعمة في التعامل والتواصل الحكيمين (إرميا 11:29). قد ينظر المجتمع إلى هؤلاء نظرة الشفقة أو اللّامبالاة أحيانًا، وربما يحاول التأثير في كثير من الأحيان، لكنه لا يستطيع بأن يكسر تلك الإرادة في المساعدة والتغيير الحقيقيّين.
بالنسبة لأحد الباحثين وهو الدكتور هارولد كونيغ مِن جامعة ديوك الأمريكيّة، للصلاة دورٌ فعّال في علاج الأمراض الكثيرة ومن بينها التوحُّد، ولربما البراهين على ذلك كثيرة (رومية 2:5-4)، إذ أنَّ الأمل بالشفاء يُخفّف مِن وطأة المرض النفسيّة ويمنع الإحباط والفشل. إحدى الأمهات اللواتي عرفن عن كثب تأثير التوحُّد في الفرد والعائلة، كتبت بعض الكلمات المؤثرة، أختصرها بالآتي: "كنت أومِن أننا نستطيع أن نتخطّى هذه المشكلة – أي مرض التوحُّد – أو أن نتعامل معها بحكمة وصبر، لقد كنت أختبئُ في جناحي محبّة الله ولم أُعِرْ أيّ اهتمام لحسابات الربح والخسارة، فقد أمسكتُ بيدي يسوع وهو الذي كان يقودني نحو الأمل والرجاء."
نحنُ نثقُ حتمًا بصلابة وصدقيّة مواعيد الله للإنسان، تلك المواعيد في الشفاء والتغيير. فما أعظم كلمة الله التي تبثُّ فينا هذا الرجاء المبنيّ على قدرة الله وسلطانه. أن يسمح الله بظروفٍ صعبة كتلك التي يمرُّ بها الأفراد المصابين بالتوحُّد وعائلاتهم يجعلنا نتمسّك أكثر في شخصه المبارك، عالمين أنّه هو مصدر الشفاء النفسيّ والروحيّ والجسديّ. أستذكر هذه الكلمات: "لِأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا. لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا." (مزمور 13:139-16) لأعرفَ يقينًا عظمة عمل الله الكامل في خَلق جسم الإنسان وفي شفائه وعنايته والاهتمام به. صلاتي ويقيني أن يرشد الربّ يسوع المسيح – ذلك الطبيب الشّافي الذي له كل المجد والكرامة والسلطان – كل عائلة تعاني من مرض التوحّد فيعطيها النعمة والصبر والإرشاد في التعامل البنّاء والحكيم.

المجموعة: شباط (فبراير) 2021