"عندما كنتُ صغيرةً سألتُ أمّي ماذا سأكونُ؟ هل سأُصبحُ جميلةً فاتنةْ؟ هل سأغدو غنيّةً ثريّة؟ هذا ما قالَتْهُ لي:

كلُّ ما سوفَ يكون، سيكون، فالمستقبلُ ليسَ لنا لِنراه، بل ما سيكون هو ما سيحصَل. وحين كَبُرْتُ ووقعْتُ في الحُبّ، سألتُ خطيبي ترُى ماذا ستحمِلُ لنا الأيَّامُ القادمة؟ هل سنرى سماءً تزدانُ بألوانِ قَوسِ القُزَحِ الجميلةِ في كلِّ يوم؟
قال لي أيضًا: ما سوفَ يكونُ هو ما سيحصلُ، فالمستقبلُ ليسَ لنا لكي نراهُ. والآن، وبعدَ أن أصبحْتُ أُمًّا أتى إليَّ ابني وسألني نفسَ السؤال: هل سأكونُ شابًا وسيمًا وجذّابًا؟ أو رجلَ أعمالٍ متفوقًا؟ أجبْتُه بكلِّ رقةٍ وحَنان: ما سوفَ يكونُ هو بالضَّبط ما سيحدثُ فالمستقبلُ ليسَ لنا لِنراه."
كانتْ هذه ترجمةً تقريبية للأغنية الشهيرة
Que Sera Sera (whatever will be, will be)
التي غنَّتْها Doris Day في الثَّمانينات وقد اشتُهرت مُسبقًا هذه الجملةُ الإسبانية بالذَّات، ذاتُ الأصولِ الإيطالية وتُماثِلُها بالفرنسية C’est La Vie أي هذه هي الحياة. وتحملُ هذه الجملةُ في طياَّتِها معنى (البهجَةُ القَدَريّة). أي أنَّ الإنسان يأملُ ويرجو وينظُر بنظرة التمنِّي إلى ما يحملُه له القدَرُ في المستقبل والأيام القادمة. وحين يتمعّنُ المرء بكلماتها يعرفُ ويدركُ بأنَّ "ما باليدِ من حيلة" كما يقول المثلُ العربيُّ الشائع. وأنَّ كلَّ ما يعلَمُه هو أمرُ اليوم فقط. أمَّا المستقبلُ والأيام والسنون فهي من شأن قضاءِ الله وقدَرِه، كما عيَّنه الله مسبقًا وأرادَه لعباده وليس له فيه أيُّ شأن. وعليه فإنَّ كل ما أتى عليه وسيأتي في مراحل حياته المستقبلية ليس له فيها أيُّ باعْ أو أيُّ يد. وما سوفَ يكون لا بدَّ أن يحصل. بالطَّبع نحن جميعُنا نجهلُ المستقبلَ الآتي وما ستحمله لنا الأيام القادمات. وهذا طبيعي نظرًا لطبيعتنا المحدودة التي خلقَنا اللهُ عليها. لكن، هل حقًا ليس للإنسان قرارٌ في مستقبله؟ أو اختياراته؟ هذا هو السؤال التحدّي!
فيما كنت أتمشَّى وأستمعُ إلى الترانيم من خلال هاتفي الذَّكي في جيبي استمعْت إلى ترنيمة أنعشَتْ فؤادي وألهَبَتْ لُبِّي. فصِرتُ أشكرُ الله جزيلَ الشكر وذلك لِما فيها من كلماتٍ مشجعة ومطَمئنة. إذ هتفت المرنمة: "لا أعلمُ ماذا سيواجهُني في الغد، لكنَّني أعيش يومًا بيوم. ولن أستعيرَ من شمس الغد فلربَّما ستتلبَّدُ سماؤه بالغيوم. لا أهتمُّ بالمستقبل، لأنَّني عالمةٌ بما قاله الربُّ يسوع. واليوم، سأسير إلى جانبه وبرفقته، لأنَّهُ وحدَه ضامنُ غَدي، ولديه كلُّ اليقين ماذا سيكونُ في الغد. هناكَ الكثير ممَّا أجهلُه عن الغد، لكنَّني أعلم مَن يسيطرُ على الغد، وكذلك أنا أثق في مَن يمسكُ يدي فيه. في مسيري مع الفادي صارَ واضحًا غدي، فمسيحُ الغد الهادي، هو يبقى موعدي."
هل ترانا لاحظْنا أصدقائي الفرقَ الشاسع بين هاتيْنِ الأنشودتيْن؟ السَّابقة واللَّاحقة؟ وبماذا يمكِنُنا أن نصفَ الأولى ونسمّي الثانية؟ ألا نستطيعُ أن نقولَ بأنَّ الأولى تنِمُّ عن الاستسلام إذ ليس للإنسان شأنٌ فيما سيحِلُّ به، أما الثانية فتعبِّر عن التسليم الواثق والتام؟ الأولى استسلامٌ لا إرادي، أما الثانية فتسليمٌ إرادي واختياري. لماذا؟ لأنَّ الاستسلام إلى القضاء والقدَر، كما يؤمِن الكثيرون في مجتمعاتنا العربية خاصَّة، ينزع ُالمسؤوليةَ تمامًا عن الإنسان. فالله قد قضى بالأمر وما على الإنسان إلاَّ الرضوخُ ليس إلاَّ. كما ويعلّم الكسلَ والتواكُل وعدمَ التخطيط. أما التسليمُ فينبثِقُ عن قرارٍ وتصميم وخَيار إرادي يتَّخذه الإنسان هناك في أعماق حناياه الداخلية فيُشرك فيه قلبَه وجسده ونفسه. إذن في التسليم، الإنسان مسؤول وهناك خَيار وهذا حقٌّ منحَه إيَّاه الله يوم خلقَه حرًّا طليقًا إذ لم يخلِقْهُ إنسانًا آليًّا أي روبوط.
لكن كيف وصل كاتبُ الترنيمة إلى هذا الحيّزِ من اليقين والعلم والمعرفة حتى قال: لا أهتمُّ بالمستقبل أو أنا لا أقلق على الغد؟ لماذا؟ لأنَّ غدي أضحى واضحًا وفيه ربّي ممسكٌ يدي. حقًا هذا هو مغزى الشعر وجوهرُ الحقيقة وبيتُ القصيد. ألمْ يَقُلِ الربُّ يسوع المسيح لتلاميذه هذه الكلماتِ الواعدة: "لذلك أقولُ لكم: لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليستِ الحياةُ أفضلَ من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء إنَّها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمعُ إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضلَ منها؟ ومَن منكم إذا اهتمَّ يقدر أن يزيدَ على قامته ذراعًا واحدة؟" إذن، فالموضوع هو الثقة بأبينا السماوي الذي أحبَّنا محبةً أبدية لذلك أدامَ لنا الرحمة. الثقة بأنَّه يعتني بنا، نحن الذين ننتمي إلى عائلته المقدسة، حتى في أصعب الظروف وأحلكِ الساعات. لهذا يقول الربُّ يسوع بعد ذلك: "فإنْ كان عُشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنّور، يُلبسهُ الله هكذا، أفليسَ بالحريّ جدًا، يُلبسُكم أنتم يا قليلي الإيمان؟" أجل، وكما يصف الرسول بولس الإيمان: "أما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا ترى." (عبرانيين 1:11) لهذا يتابع الرب يسوع كلامه ليقول: "فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل وماذا نشرب أو ماذا نلبس. فإنَّ هذه كلَّها تطلبُها الأمم. لأنَّ أباكم السماوي يعلمُ أنكم تحتاجون إلى هذه كلِّها. لكن اطلبوا أولًا ملكوتَ الله وبرَّه وهذه كلُّها تُزاد لكم." (متى 6: 25-33)
نعم هذه كلُّها تُزاد لنا إذا اخترنا أن نثقَ بهذا الإله الحيّ والمحبّ الذي لا يجبُرنا على قضائه أو قدَره. بل يترك لنا الخَيار. والرب يسوع أوضح ذلك مرارًا وتكرارًا فقال: "من يُقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا... ومن يُقبل إليّ لا أخرجه خارجًا." (يوحنا 35:6-37) هذا هو إعلان السماء لسكان الأرض، هذا ما صرّح به الرب يسوع الابن الوحيد الذي أسرَّ قلب الله الآب وحدَه. وفي القديم كما في الجديد يقول الوحي المقدس: "قد جعلتُ قدَّامَك الحياة والموت، البركةَ واللَّعنة، فاخترِ الحياةَ لكي تحيا أنت ونسلُك." (تثنية 19:30ب)
حينئذٍ، عندما يتجاوبُ الإنسان - أيُّ إنسان - مع دعوة الله الآب له، ويدرك بالروح القدس أنَّ الله يحبّه محبة أبدية لهذا فهو يقدّم له الرحمة، يختارُ الحياةَ فيحيا. يختار أن يلبس طوقَ النجاة فيأتي بتوبة صادقة عن خطاياه إلى الله واثقًا بعمل الفادي المسيح من أجله على الصليب. ساعتَئذٍ تبدأ علاقته مع الله كأبيه السماوي الذي غفر خطاياه وقبِلَه فرحًا. ويصبح الأب الذي يعتني بطيور السماء وسمك البحر وزنابق الحقل يعتني به هو أيضًا، تاج خليقته والمخلوق على صورته ومثاله. عندها لن يعود الإنسانُ يغتمُّ أو يهتمّ، يقلقُ أو يأرقُ بسبب المستقبل المجهول أمامه، لأنَّه وكما قال بولس الرسول: "لأني عالم بمَن آمنتُ وموقن أنه قادر أن يحفظَ وديعتي إلى ذلك اليوم." (2تيموثاوس 12:1) وعندها أيضًا يفهم تمامًا كلمات يسوع الذي ختم بها لتلاميذه قائلًا: "فلا تهتمّوا للغد، لأنَّ الغد يهتمُّ بما لنفسه، يكفي اليومَ شرُّه." (متى 34:6)
وهكذا يواجه المؤمن - الذي اختارَ رفيقَ دربه الفادي الهادي - المستقبلَ بكلّ إيمانٍ، وثقة، وعزم وطيد، ورجاء أكيد، ويعود ليحلّقَ كالنَّسر إلى رؤوس الجبال متخطِّيًا كلَّ الوهاد والوديان، لأنه يعلم أن َّخالقَ هذا الكونِ الفسيح الإلهَ الحيّ المحبّ والصالح يقودُه كما يقود الراعي الخراف ويلازمُه حتى النهاية. فهل تريد التَّحليق من جديد مع بدءِ سنة جديدة؟ قلْ إذن مع المرنمة:
"في مسيري مع الفاديصار واضحًا غدي
فمسيحُ الغدِ الهاديهو ممسِكٌ يدي"

المجموعة: شباط (فبراير) 2021