لقد تحدَّثنا في الحلقة الأولى عن السؤال: "هل اللهُ صامتٌ؟" وخلُصْنا إلى أنَّهُ يراقبُ وينظر كلَّ شيء ولكنه يصمت مرات لنتعلم.

"يا لَعُمقِ غنى الله وحكمته وعِلمه! ما أبعدَ أحكامَه عن الفحص وطرقَه عن الاستقصاء! لأنْ مَن عرف فكرَ الرب؟ أو من صار له مشيرًا؟" (رومية 33:11)
وأيضًا تكلّمنا عن اختباءِ الله إزاءَ الأزمات التي نمرُّ بها، لكنّنا تعلَّمنا كيف أنَّه عنا ليس ببعيد وهو غيرُ مختفٍ عنا لأنّنا الآن ننظر في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه. واليوم سنتكلّم عن السؤال الثالث والأخير الذي يطرحُه المؤمنون والعالمُ قاطبةً من خلالِ كتاب: عندما لا تمطرُ السماء: هل اللهُ ظالم؟
دارت عبارة هل الله ظالم دارتْ في ذهن آدم بعد أن أكل من ثمر شجرة معرفة الخير والشر. إذ تذكّر حينَها تحذيرَ الله له سابقًا: "يومَ تأكلُ منها موتًا تموت." (تكوين 17:2) ولقد انتابه ذعرٌ وهو يخيطُ أوراق التين لأنه حتمًا سيموت فيوم الدينونة آتٍ لا مَحالة. وبينما أظهر الله عدلًا أرضيًا في ذلك اليوم فهو أيضًا كبحَ جماحَ الدينونة ومنحَ آدم والعالم الساقط عقوبةً مؤجّلة. وإزاءَ عمله هذا وضعَ لنا نموذجًا للصراع بين الخطية والعدالة. وحينما حجبَ الله الموتَ الفوري عن آدم وحواء أظهرَ لهما فكرتين جديدتين هما النعمة والرّحمة. لأنَّ الظلم هو عكس العدل، بينما متمِّمُ العدل هو الرحمة التي تجلّت في المسيح. وهذا يقودنا إلى رؤية آياتٍ من الكتاب المقدس تبيِّنُ أنَّ الله عادل وليس ظالمًا. ونقرأ في المزمور 142:119 ما يلي: "عدلُك عدلٌ إلى الدهر، وشريعتُك حقٌّ." وهي صفةٌ يثبَّتُ الكونُ بها. ويقول أيضًا: "العدلُ والحق قاعدةُ كرسيك. الرحمة والأمانة تتقدَّمان أمام وجهِك." (14:89) وعدلُ الله يعني أنّه ليس عنده ظلمٌ البتة، ولا محاباةٌ، ولا يعوّجُ القضاء، ولا يأخذ بالوجوه، ولا يتزعزع. وفي سفر التثنية 4:32 قيل عن الله: "هو الصخرُ الكاملُ صنيعُه. إنّ جميع سبلِه عدلٌ. إلهُ أمانةٍ لا جَوْرَ فيه. صدِّيقٌ وعادلٌ هو." وكلمة (جَوْر) تعني الظلم. وأيضًا: "لأنَّ الربَّ إلهكم هو إلهُ الآلهة وربُّ الأرباب، الإله العظيم الجبّار المُهيب لا يَأخذ بالوجوه ولا يقبل رشوةً. الصانعُ حقَّ اليتيم والأرملة، والمحبّ الغريب ليعطيه طعامًا ولباسًا." (17:10) وهو وإن كان إلهًا عادلًا إلا أنه إله رحيم. "الربُّ رحيم ورؤوف، طويلُ الروح وكثير الرحمة. لا يحاكمُ إلى الأبد، ولا يحقِدُ إلى الدهر." وأيضًا "كما يترأفُ الأبُ على البنين يترأفُ الربُّ على خائفيه." (مزمور 8:103 و13) وهو خالقُ وضابط كل شيء. "لأنَّ منه وبهِ وله كلَّ الأشياء. له المجد إلى الأبد." (رومية 36:11) ويحيطُ بكلِّ مكانٍ وبكلِّ علم. "عجيبةٌ هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعُها. أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟ إنْ صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرَشت في الهاوية فها أنت... فقلت: [إنَّما الظلمة تغشاني.] فالليل يضيء حولي! الظلمة أيضًا لا تُظلمُ لديك، والليل مثلَ النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور." (مزمور 6:139-12)
لقد أراد الله أن يعطي الناس الحرية في خياراتهم وليس أن يكونوا كالآلة التي تعمل بإذن صانعها أو بالروبوت والتي تعني الإنسان الآلي. لذا يقول لهم في 2أخبار الأيام 2:15 "الرب معكم ما كنتم معه، وإن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم." بمعنى أنه يرفع حمايته عنكم. لكن هذا يأتي بنا إلى السؤال أنَّ الظلم يصيب أناسًا لم يتركوا الرب ولربَّما هذا يقودهم إلى الاعتقاد بأنَّ الله يوافق على حياة جائرة لكنَّه لا يقدر أن يفعل شيئًا حيالَ ذلك. وقد خلُص هاردل كوشنر بعد أن مرّ بأمور عصيبة إلى القول: "بأن الله هو إلهُ عدل لا قدرةَ له على تغيير الواقع على هذا الكوكب." إذا كان هذا صحيحًا فكيف لنا أن نفسّر ما قاله الله لأيّوب في الأصحاحات الخمس الأخيرة حين أظهر له قدرته وقوته بصورة مبهرة؟!
ولقد التقى فيليب يانسي الكاتب بشخص اسمه دوغلاس كان في نظره قد مرّ بتجارب ومحن على غرار أيوب. وكانت له أحداثٌ مع خيباتِ الأمل الكبيرة والصعبة وكان اللقاءُ على الفطور فروى له معاناته وما جرى معه وإلى ماذا خلص. قال بأنَّ زوجتَه قد أصيبت بالسرطان في الصدر وأجريت لها عملية تلاها العلاج الكيماوي، فعانتْ من نتائجه المدمّرة بالإِضافة إلى الشعور بالإرهاق والتعرُّض للخوف والاكتئاب. ولم تقفِ الأمورُ هنا، بل تعرّض هو لحادث سيارة وكانت معه زوجته المريضة وابنته البالغة من العمر 12 سنة. إذ انحرف سائق تحت تأثير الخمر وصدم سيارته وأصيبت الزوجة إصابات خفيفة كما كُسرت ذراع ابنته مع جروح بليغة من جراء الزجاج المتناثر. أمّا هو فلقد تلقّى ضربة على الرأس وصارت تنتابه نوبات من الألم في رأسه حتى إنه لم يعد يستطيع أن يشتغل نهارًا كاملًا. وبات يفقد اتزانه ويعتريه النسيان أحيانًا كما تضرَّر نظره. هذا بالإضافة إلى خبر انتشار السرطان بعد الحادثة في جسد زوجته. وبعد الاستماع إليه سأله الكاتب فيليب: هل لكَ أن تخبرَني عن خيبتك الشخصية؟ وماذا تعلَّمت من أمر قد يفيدُ شخصًا آخر يجتاز في محنة قاسية؟ عندها صمت دوغلاس هنيهةً بدت وكأنَّها مدة طويلة، ثم حملقَ إلى بعيد وقال: أصدقُكَ القول يا فيليب بأنَّني لم أشعر بأيَّة خيبة أمل بالله. لقد تعلّمتُ من خلال مرض زوجتي، ثم من خلال الحادث بشكل خاص، ألَّا أخلِطَ بين ثقتي بالله وما جرى معي من آلام في حياتي. فأنا مستاءٌ ممّا جرى لي، لأنه كان من الممكن أن يحدُث ذلك لأيِّ شخص. وأنا أشعر بأنَّ لي الحق الكامل بأنْ أندبَ نصيبي من الحياة. ولكنَّني أعتقد أن الله يشعر الشعور نفسه حيالَ الحادث، فهو حزين وغاضب أيضًا لذا فأنا لستُ ألومه على ما جرى. وتابع قائلًا: "تعلّمت أن أتخطّى بنظري الواقع الأليم لأبقى معه على علاقة حميمية. فنحن نميل إلى التفكير بأنَّه ينبغي أن تكون الحياة منصفة لأنَّ الله منصف. وإذا خلطتَ بين الله وواقع الحياة فأنتَ تتوقّع الصحة الجيدة بشكل دائم. إن وجود الله، بل محبته لي أيضًا، لا يتوقّفان على صحتي الجيدة. وبصراحة أتيحَ لي الوقت والفرصة لتمكين علاقتي بالله في أثناء بليّتي الموهِنة أكثر مما أُتـيح لي سابقًا." لذلك رأيت أنا فيليب يانسي في دوغلاس أيوبَ المعاصر.
ولقد قال الدكتور بول براند عن السؤال "أين الله عندما أتألم؟" فأجاب: "إن الله معك وفيكَ أنت يا من تتألم، ويجتاز معك المحنة." ويتابع قائلًا: "أنظرُ في العهد الجديد إلى معاناة ابن الله الحبيب الرهيبة. كيف كان من شأن المسيح أن يجيب عن السؤال المباشر: هل الحياة جائرة ظالمة؟ فلم أجدْه في أيِّ موضع ينكر الجور. وإذا قابل المسيح مريضًا فإنَّه لم يُلقِ عليه فقط محاضرة عن قبول المرء نصيبَه في الحياة بل شفى كلَّ من تقدّم إليه. ثم إنَّ كلامَه عن الأغنياء والمنتقدين في زمانه يبيِّن بجلاء حقيقةَ رأيه في المظالم الاجتماعية. وقد كانت ردّةُ فعلِ ابن الله حيالَ اللاإنصاف تشبهُ كثيرًا ردّة فعل أي إنسان آخر. فإذا قابل إنسانًا يعاني من الألم تحرّكت أحشاؤه، حتى لمّا مات صديقه لعازر بكى عند قبره. وعندما واجه هو نفسه معاناته الرهيبة في الليلة الأخيرة قبل الصلب اضطربت نفسُه حيالَها سائلًا ثلاث مرات عن وجود سبيل آخر. ويوفر لنا الربُّ يسوع برهانًا من لحم ودم على كيفية شعور الله بشأن الجور لأنه بنفسه اجتاز أقسى ما تكون عليه الحياة من الظلم. وقد قدّم في خلاصة واضحة جوابًا نهائيًا عن جميع الأسئلة المضادة لصلاح الله.
ونحن، أعضاءَ جسد المسيح، لو قضينا حياتَنا مقتدين به في خدمة المرضى، وإطعام الجياع، ومقاومة الشر، وتعزية النائحين، وإذاعة بشارة المحبة والغفران لَما ورد على فكرنا هذا السؤال: هل الله ظالم؟ وإنّ الصليب رغم هزيمته للشر لم يهزم الجَور بعد، لأجل ذلك تدعو الحاجة إلى القيامة وذات يوم سوف يعيد الله الحقيقة الطبيعية كلَّها إلى مكانتها الصحيحة تحت حكمِه في السماء الجديدة والأرض الجديدة. وحتى ذلك الحين يَحسُن بنا أن نتذكَّر أننا نعيش أيامنا في السبت السابق لأحد القيامة.

المجموعة: شباط (فبراير) 2021