الدكتور صموئيل عبد الشهيدحديثي في هذا المقال عن المحبة هو حديث ذو شجون. فالمحبة تعجز الأقلام عن التعبير عنها مهما بلغ كاتبها من عبقرية،

بل إن الفنانين الذي يجهدون في إبداع ألواح فنية لتصوير خوالج النفس، والكشف عن مكنونات القلوب يقفون، في معظم الأحيان حائرين أمام جلال المحبّة وعظمتها لأن رِيَشَهُم وإن تشبّعت بالألوان تظلّ تحوّم حول المحبّة من غير أن تكتنه سرّها.
ولكن المحبة هي جزء من خليقة الله؛ نراها في الأزهار النامية، والأشجار الباسقة، والشلالات المتدفّقة، والأنهار الجارية، والنجوم المتلألئة.
ولكن هذه المحبة التي كانت قيثارة الوجود قد شوّهتها الخطيئة، فأصبحت ممزوجة بالآلام والأوجاع، وانتقلت من عالم البراءة الأولى إلى عالم موبوء بالشر. فالتحوّلات التي طرأت عليها قد أفقدتها معناها السامي الذي أراده الله لها منذ الخليقة. فالله، كما يقول الكتاب هو محبة (1يوحنا 8:4). وبالتالي فإن من أثمار الروح بل ربما أعظم أثمار الروح هي المحبّة. وما علينا سوى أن نتأمل بما ورد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 13 حتى يعترينا ذلك الشعور بالهيبة والجلال أمام روعة وظائف المحبة في حياة المؤمن من ناحية، وفي حياة الكنيسة من ناحية أخرى، لأن المحبة لا تسقط أبدًا.
لا ريب أن للمحبة أكثر من وجه واحد. فهناك المحبة الروحية المثمرة التي هي جزء لا يتجزّأ من الحياة المسيحية، وهناك أيضًا المحبة التي غرسها الله في الطبيعة البشرية لتكون أساسًا في العلاقات البشرية؛ كمثل العلاقات الزوجية، والصداقات، ووشائج الصلات بين الأقرباء. ويكتظّ الكتاب المقدس في تصوير هذه العلاقات كما نرى ذلك في قصة داود ويوناثان، وقصة راعوث وحماتها نعمي، وفي أغاني بل أناشيد سليمان، وآلام إرميا الناجمة عن محبته لأبناء قومه وتوجّعه لما ينتظرهم من مصير رهيب. يقول الكتاب في 1صموئيل 17:20 عن يوناثان:
"وَاسْتَحْلَفَ دَاوُدَ بِمَحَبَّتِهِ لَهُ لأَنَّهُ أَحَبَّهُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ" (1صموئيل 17:20).
ونقرأ في قصة راعوث حكاية محبة فيها من التضحيات ما يثير فينا الإعجاب والتقدير. هي قصة حبّ متسامية قلّ أن تطالعنا بها الأخبار في أيامنا الحاضرة. قصتها هي البذل، والعطاء، والولاء، على الرغم ما يخبئه لها المجهول من أحداث. ويصف سليمان في أناشيده مشاعر الحبّ المفعمة بالأشواق فيقول: "لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ" (نشيد 2:1).
"وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ" (نشيد 4:2).
"أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا" (نشيد 5:2).
"وَبِمَحَبَّتِهَا اسْكَرْ دَائِمًا" (أمثال 19:5).
ونطالع في قصة أستير كيف حفّزها حبها لشعبها أن تعرّض نفسها للموت من أجل خلاصه، فتسلّحت بالجرأة وأقدمت على الدخول إلى محضر الملك من غير دعوة – وهو أمر كان محظورًا – واستطاعت بذلك أن تتخذ موقفًا سجّله لها التاريخ لِما فيه من تضحية.
غير أن ضروب هذه المحبة بما فيها من صدق وإخلاص وتفانٍ لا تضاهي تلك المحبة التي تجلّت على الصليب لأن تلك المحبة كانت تعبيرًا صادقًا مجرّدًا من كل أنانية اشتركت فيه السماء، بل اكتملت فيه الخطة الإلهية التي أعدّها من قبل تأسيس العالم. إن الفارق بين طبيعة هذه المحبة وضروب المحبّات الأخرى يدور في ثلاثة محاور بالغة الأهمية هي:

أولًا: محبة إلهية أزلية ومكلفة
إن مدبّر هذه الخطة هو الله بالذات خالق السماوات والأرض. لم تكن من صنع الناس، ولم تكن ايضًا عرضة للإخفاق بل أكثر من ذلك لم يكن الله بحاجة أن يعدّها لخلاص الجنس البشري. لقد أساء الإنسان إلى الله، وتمرّد عليه، وعصى أوامره ونواهيه، وبانسياقه إلى إغراء الشيطان أعلن انضمامه اختيارًا إلى العدو. وإذا أردنا استخدام لغة العصر نقول: إن ما قام به الإنسان من جنوح هو خيانة وطنية. فمحبّة العالم هي عداوة لله (يعقوب 4:4)، ومن كان عدوًا لله فإنه يستحق الموت لأن أجرة الخطيئة هي موت. ولكن الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله ارتأى أن ينقذه من الهلاك الأبدي، وذلك ليس لجدارة في الإنسان، إنما لأن الله لا يرضى أن تفنى صورته فينا. فالخطة إذن، أُعدّت منذ الأزل، دبّرها الله بذاته، وهي خطة مكلفة جدًا، تتسم بالمحبة التي تفوق كل فهم. وهنا وجه الروعة في قصة الفداء أن الله ذاته، على الرغم من خيانتنا، وعصياننا، لم يتآمر للقضاء على خليقته، بل سعى لإنقاذها. فلا عجب أن نجد المسيح في موعظته على الجبل يحضّنا على محبة العدوّ لأن الله نفسه سبق فأحبّنا نحن أعداءه الذين ثُرْنا عليه وشققنا عصا الطاعة.

ثانيًا: محبة مجردة من أي أنانية
إن هذه المحبة مجرّدة من أيّ أنانية. يقول الكتاب: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". هذه الآية هي لب الإنجيل لأنها تكشف عن حب عظيم يفوق كل حب عرفته البشرية. وعندما ردّد سفر نشيد الأنشاد قائلًا: "لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ"، فإنه كان يجسد، وإن بطريقة غير مباشرة، قوة هذه المحبة وفاعليتها. فالموت قويّ لا يمكن أن يتفاداه أي مخلوق بشري. فمتوشالح الذي عاش نحو 969 سنة (تكوين 27:5) لم ينجُ من الموت أيضًا. فالموت قوي جدًا ولكن المحبة هي قوية كالموت. إن المحبّة محيية. فكما كانت الخطيئة سببًا في الموت الجسدي والروحي، فإن المحبة التي تجسّدت على الصليب كانت محبة محيية انتشلتنا من هوة الجحيم، وضمنت لنا الحياة الأبدية.

ثالثًا: محبة أبدية
إن هذه المحبة هي محبة أبدية ينطبق عليها ما ورد في سفر إرميا "محبة أبدية أحببتكِ..." (إرميا 3:31). لا يمكن لهذه المحبة أن تتبدّل أو يطرأ عليها تغيير. إنها محبّة تنمّ عن شخصية الله، ولكنها أيضًا محبة تتصف بالغيرة. فالله لا يرضى أن يشاركه أحد في ولائنا وإخلاصنا له؛ لهذا يقول يعقوب في رسالته 4:4 "مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ". لهذا فإننا حالما نذعن لنداء المسيح ونُقبل إليه فإننا نمتلئ من روحه لأن محبته قد تكمّلت فينا. فالمحبة تستر كل الذنوب. وهذا ما حدث في صلب المسيح. قال يسوع نفسه في يوحنا 13:15 "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ". وهذا ما فعله المسيح حقًا عندما "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ"، ثم أسلم نفسه للموت ليكون فدية عن كثيرين، لأن "اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رومية 8:5).
إن تجسّد المسيح وصلبه وقيامته هو أروع لحن عرفته قيثارة المحبّة، وإذ افتدانا بدمه فقد شاعت محبته فينا، أو هكذا يجب أن تكون، لكي يسمع كل خاطئ هذه المعزوفة التي تحمل في ذاتها غفران الله ورحمته وضمان الحياة الأبدية.
فهل تريد أن ترتوي من هذه المحبة وتتمتّع بها؟ سؤال مطروح، وأنت وحدك الذي تستطيع الإجابة عنه.

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2021