بشارة أسمى وشهادة عُظمى. يترنم الإنسان بالتسابيح حين يمتلئ قلبه بفرح روحيّ غامر.

وذلك لما يعتريه من الشعور بالرضى والقناعة والمسرّة. وما يسيِّج على نفسه من سلام الاطمئنان وراحة الضمير وبهجة الخلاص. أما أن يترنم الملائكة ويسبّحوا الله في أجواء العلاء، فذلك شأن آخر. ففرح الخلاص الذي يهمّنا نحن بني البشر لا شأن لهم به، ولا يبحثون عنه، لأنهم ليسوا بحاجة إليه. فهم كائنات روحيّة أقامها الله على خدمة أغراضه السامية، وقد حفظها لنفسه من السقوط الأول للشيطان وأتباعه في خطية الكبرياء فتحوّلوا لخدمة مبدأ الشر، ورُفضوا من خدمة العليّ القدير. وحين وُلد المسيح الرب في مدينة بيت لحم، ظهرت ملائكة الله تهلّل وتبشّر الرعاة:
"لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ»."
ترنيمة نطقت بها الأجناد السماوية في القديم، وما زالت جديدة على رأس كل تسبيح وترنيم، فهي بشارة أسمى بمجيء المخلص العظيم إلى العالم المعذّب السقيم، ليرفع عنه سلطة الشيطان اللئيم، وهي شهادة عظمى لعمل الخلاص العجيب الذي جاء الفادي لكي يتمّمه فرُفع عنا على عود الصليب، لكي يُرفع عن المؤمنين به حكم الدينونة الرهيب.

أولاً- البشارة الأسمى
"فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ."
ما أثمن الفرح لقلوب الحزانى، والمسرّة لنفوس المتألمين؟! فتلك حقًا أسمى البشائر وأجملها!
1- في شكلها: أن تسمع بشارةً تُقال من صديق أو قريب فذلك أمر مفرح. وإن كُتبت في الصحف والمجلات فذلك شأن آخر، فكيف إذا قيلت على الهواء مباشرة بكل وضوح وجلاء. وقد نطقت بها أجناد السماء وسجلتها كتب القديسين والأنبياء؟
2- في مضمونها: أن يبشرك أخدهم بتخرجك من إحدى الجامعات ونوالك أعلى الدرجات فذلك يجلب لك بُعد المجد الأرضي والفرح الوقتي، ولكن بشارة الملائكة كان مضمونها "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة."
3- في حامليها: أن يحمل لك البشارة شخص مشكوك بصدقه فذلك لا يُفضي إلى الاطمئنان إليها: ولكن حاملي هذه البشارة هم ملائكة الله الذي لم يعرفوا الكذب، بل هم منزّهون عن كل غشّ وخداع.
4- في سامعيها: تجري احتفالات الغناء في نسختها الأولى أمام الرؤساء والزعماء والعظماء والأغنياء، حيث يحمل المتقدمون بينهم بطاقات الشرف اعترافًا لهم بالولاء. أما تسبيحة الملائكة فكانت في نسختها الأولى على مسمع الفقراء والمساكين والبسطاء "رعاة متبدّين يحرسون حراسات الليل على رعيّتهم." فما أعجب بطاقات الشرف التي منحت لهؤلاء ممهورة بخاتم إله السماء؟!
5- في مراميها: إن الغارق في لجة البحر، يرتدّ إليه الأمل بالنجاة لمجرد رؤية قارب بتّجه نحوه أو يدٍ تمتدّ إليه. وهذه البشارة السامية جاءت لا لكي تقول: وُلد لكم عظيم أو قائد أو مشير أو ملك فقط بل جاءت لكي تقول بالأحرى: "إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب."

ثانيًا: الشهادة العُظمى
يشعر الإنسان بالفخر حين يشهد عنه شخص ذو مركز مرموق، أو كاتب أو أديب معروف. ولكن شهادة ملائكة الله أعظم قدرًا وأعمّ مغزى.
1- في صدقها: بعد أن سئم العالم من شهادات الزور وأصحابها وأقوال المتقوّلين وأغراضها، فما أكثر الذين يشدون لأشخاص أو أحداث، لكي يثبتوا معرفتهم بالأشياء، أو فصاحتهم في التعبير، أو قدرتهم على التصوير والكشف عن بعض الخفايا والأسرار. أما شهادة الملائكة فكانت كاملة في صدقها مثبتة بالوقائع الفعلية والأمور المحسوسة، التي لا تحتمل التأويل أو التحليل. فمن حيث المكان "في مدينة داود"، وكان هذا الاسم يُطلق على "بيت لحم". ومن حيث الزمان "اليوم" ليس في الماضي السحيق ولا في المستقبل البعيد. ومن حيث الشكل "طفلاً مقمّطًا مضجعًا في مذود" وهو أمر فريد وغير معتاد.
2- في مفعولها: إن أية شهادة أخرى لم تكن لها هذه القوة والفعالية على هؤلاء الرعاة الساهرين على رعيتهم. فقد ضحّوا بترك هذه الرعية ليلاً، ومضوا إلى حيث أخبرهم الملائكة، لكي يستطلعوا هذا الحدث الجليل المثير! فالملائكة لم تشهد قط بهذه الصورة العلنية لملكٍ أو نبيٍّ أو زعيمٍ أو عظيم. ولكنها شهدت بكل قوة وإعلان لذلك الطفل العجيب المقمّط والمُضجع في مذود حقير، لا يليق بمقامه السامي الرفيع.
3- في غايتها: لم تكن غاية شهادة الملائكة، إبراز عظمة ورفعة وقداسة هذا المولود الكثيرة مع أنها حاصلة ضمنًا ولكن الهدف المعلن من هذه الشهادة هو خلاص الله للبشرية بواسطة هذا الابن المتجسد، الذي جاء في "ملء الزمان"، أي عندما حان الوقت المعيّن من الله لكي يمنح رجاءه لليائسين، وسلامه للمضطربين، وهدايته للحائرين، ورحمته للآثمين، ونعمته للتائبين!
4- في أهميتها: هذه الشهادة الملائكية لها من الأهمية القدر الكبير لأن هذه الكائنات الروحية تعمل بأمر الله مباشرة، وإعلانها لهذه الشهادة يعبّر عن إرادة الله القدير بأن يُعلن للملأ عن قصده الأزلي لخلاص الجنس البشري بطريقة لا تدع مجالاً للناس أن يشكّوا فيها أو يرفضوا تصديقها، كما أن هذه الشهادة جلبت سببًا آخر لبني البشر كي يمجدوا الله على عطيته التي لا يُعبّر عنها.
كانت تلك البشارة بالفرح قد أُرسلت للشعب القديم، الذي تملّكه الحزن والكآبة وهو يرزح مُجهدًا بين مطرقة الطغاة والمتسلّطين وسندان الرؤساء الدينيين الفاسدين. وكانت شهادة تعلن مجد الله العظيم وسلام الناس بمعرفة خلاصه المبارك الثمين.
وما أحوجنا إليها اليوم، كي تبلسم جراح الحزانى والمتألمين من جراء الأوبئة الفتاكة والحروب المدمّرة. في الوقت الذي تحوّل فيه الحكام والمتسلطون إلى طغاة يثيرون الحروب على الفقراء والمستضعفين، فكثر القتل والخطف ونتج اليتم والثكل والتهجير، وتحوّل المتديّنون إلى قتلة وسفاحين باسم الدين! فلنصلّ معًا إلى الله الحكيم القدير، أن يوقف المآسي ويرحم البائسين، ويزيل كربة المكروبين، قائلين مع الملائكة الأطهار:
"المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة."

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2021