هل للإنسان أن يدوّن انفعالاتِه؟ أنَّاتِه وحشرجاتِ فؤاده؟ هل يحقُّ له أن يعبِّر عمَّا يشعرُ به في حناياهُ الدَّاخلية حين تفاجئُه تحدِّياتُ الحياة

وتواجهُه الآلامُ والمِحَن والأزمات، أو عندما تداهِمُ الأمراضُ أحبّاءَه وأقربَ المقرَّبين إليه؟ هل تُراهُ يجلس ليَخُطَّ بقلمه، هناكَ في سطورٍ، عمَّا يعتمِلُ في قلبه من أحاسيس؟ وهل تراهُ يقدرُ حقًا على ترجمة ما يشعرُ به إلى كلماتٍ وتعابيرَ حقيقيّة تحملُ معاناتَه أو اختباراتِه أو تجاربَه لآخرينَ في هذا العالم الذي ينتمي إليه وينتمون هُم إليه؟!
نظرةٌ سريعة إلى التسابيح والمزامير والأناشيد التي خطَّها سابقونا تجعلُنا ندركُ أنَّ الإنسانَ في القديم شاركَ في ترنيماته وعبْرَ صلاتِه وتضرُّعاته، ومن خلالِ تساؤلاتِه في أحيانٍ كثيرة، ما كمَنَ في داخلِه، وما خبَّأه في حناياه من انفعالاتٍ وأنَّات وطلَبات وتأوُّهاتٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى. ودوَّنَها بأسلوبٍ شعريٍّ منبعثٍ من القلب المتألّم أحيانًا والشاكرِ أحيانًا أخرى، من القلب اليائسِ البائس في فَيْنةٍ، والحامدِ والمترفّعِ في فَيْنةِ أخرى. من القلبِ الخائف والمرتعبِ مرةً، إلى الآمنِ والهادئ في مراتٍ أخرى. من الأعماقِ القلقةِ والأرِقة، إلى السكونِ والسَّلام. وهكذا نجدُ الإنسان وهو يجتازُ في هذه الحالات وكأنَّه رقَّاصُ الساعة الذي يتأرجحُ يُمنةً ويُسرةً في مشاعرَ مختلطة بينَ ما يأملُه ويرجوه وبين ما يتحدّاه، فتُهدُّ عزيمتُه وتُنهَك قواهُ فيئنُّ ويتمخَّض. لكنْ، أليس هذا هو الإنسانُ منذُ بدايته وحتى نهايته؟ ألسْنا نحن جميعًا مجموعةً من الانفعالات والمشاعر تعتصرُ داخلَنا وما من بُدٍّ من تسجيلها والبوحِ بها سواءً من خلال كلماتٍ نخطُّها أو صلاةٍ نرفعُها، أو هدوءٍ وسكونٍ نلجأُ فيه بصمتٍ إلى إلهنا الذي جبَلنا وصنعنا فنجدُ عندَه الدواء حين نحدِّثُه عن الداء. عندها يداوي مشاعرَنا الجريحة ويضمِّدُها بروحه الذي يعزِّي ويشفي.
هل تعلم يا قارئي أنَّ "لوقَفاتِ الصَّمت التي تتخلَّلُ الموسيقى الفنيَّةَ العذبة، روعةً ما بعدَها روعة؟ وأنَّ لكلمةِ "سِلاه" التي نجدها في سفر المزامير، والتي معناها (الصمت والسكون) بلاغةً تفوقُ بلاغةَ المزمور كلِّه؟ وأنَّ للرُّكودِ الذي يُخيِّم على الطبيعة قبلَ العاصفة رهبةً ما بعدَها رهبة. وهل هناكَ رهبةٌ أكثرُ وقْعًا في النفس البشرية من رهبة الهجوعِ والسكون؟" (كتاب ينابيع في الصحراء 24 تشرين الثاني). وقرأت ما كتبه آخَرُ في هذا المنحى أيضًا وفي نفس الأسبوع الذي كان مليئًا بالمفاجآت والمِحَن التي داهمتْني، قال الكاتب: "يوجدُ في المقطوعةِ الموسيقيَّة وقَفاتٌ وتنهُّدات. هذه تكوِّنُ جزءًا من النغمة وهي في غايةِ الأهمية في مكانها. تمامًا كالنُّوتةِ المعزوفة. فالسَّكَتاتُ تعمل نوعًا من الخَلَلِ المرغوبِ فيه!!" (تقويم الرب قريب). نعم وتأوّهتُ أنا وتنهَّدتُ وقلتُ فعلًا إنَّ للربِّ قصدًا من هذَيْن المقطعَيْن ومن كتابيْن مختلفيْن للقراءات اليومية كنتُ أقرأهُما بالتبادل في ذلك الأسبوع بالذات المليْ بالأحداث. فتوقَّفتُ عندَهما وتأمَّلت بالمزيد من التفسير حولَهما لأجدَ ما يعنيه الكاتب بالضبط وهو أنَّ الله لديه ما يشبُه المقطوعةَ الموسيقية لحياة كلِّ إنسان مؤمن منّا. وهو يريد أن يعزفَ نغمةَ حياتنا طبْقًا لها. وعلينا ألَّا نستغربَ عندما يكونُ فيها وقفاتٌ لأنَّها تشكّل جزءًا من خطة الله لنا.
نعم، ففي خضمِّ الحياة ومعترَكِها يفاجئُنا الله بوقفاتٍ لنرتاحَ فيها وندنو منه مبتعدينَ عن كلِّ العجيج والضَّجيج الذي يحيط ُبنا. وفتَراتُ الراحة هذه ضروريةٌ كضرورة (سِلاه) في المقاطع الموسيقية في المزامير. حيث نهدأُ ونسكِّن قلوبَنا ونتعلَّم الصبرَ والاحتمالَ والثقةَ من جديد بإلهنا الأزلي الأبدي. ومن خلال هذه التوقُّفات نسمع حينئذٍ صوتَ الله يقول لنا: "كُفّوا واعْلموا أنِّي أنا الله." (مزمور 10:46) وأيضًا: "بالرّجوع والسّكون تخلُصون. بالهدوءِ والطُّمأنينة تكونُ قوّتُكم." (إشعياء 15:30) لأنَّ هناك في أعماق النفس المتَّكلة على الله وفي داخل القلب المعتمِد عليه مخدَعًا خاصًا سرّيًا يسكنُه الربُّ بروحِه القدّوس، يتحوّلُ حينذاك إلى مصدرٍ للقوة والنشاط والثقة من جديد. ليس هذا فحسب، بل يصبحُ منبَعًا للاطمئنانِ والأمانِ وملجأً حصينًا نتمنّع به من سهام العالم المحيط بنا، أو من الوبإِ الذي لا يزال يحصد الملايين في عالم البشر، أو من تجربة طالتْ أو مرضٍ لفرد في العائلة أضحى مصدرَ قلَقٍ جلَبَ معه الأرقَ وليالي السُّهادِ الطويلة. فهل تُرانا نصمتُ ونخلُد إلى الهدوء لنسمعَ صوتَه الرقيق واللَّطيف يعزّينا ويشجِّعنا في ضيقنا حتى تعودَ عندها أزهارُ النفس الذَّابلة إلى الحياة من جديد؟
أما المِحَنُ التي اجتزت فيها يا قارئي في العام المنصرم فكانت متعدّدة. فقد أصيب زوجي شكري بالتهابٍ رئوي (لا علاقة له بالكورونا) إثرَ نزلة بردٍ قوية، والذي أدَّى به إلى زيارة عيادة الحالات المستعجَلة المُلِحَّة، ثم وبعد تعافيه تبعَتْها عمليةُ الجيوب الأنفية من قِبل الجرّاح المختصّ بسبب الالتهابات الحادة التي لم تعدْ تؤجَّل. والأكثر صعوبةً من هذا وذاك، هو أنَّني لم أستطع أن أكون إلى جانبه في مدة الأربعة أيام التي قضاها في المستشفى. وكلُّ ما هنالك هو أنَّني ودّعتُه عند باب المشفى وبعد أيام أربعة عدتُ والتقيتهُ عند نفس المكان لكي نعود معًا إلى البيت. وفي أثناء غيابه كنتُ بالطبع شاكرةً لوسائل التواصل الاجتماعي. وشعرتُ حينذاك كثيرًا مع مرضى الكورونا الذين كانوا يعانون وحدهم في غُرفِهم وليس من يمدُّ لهم يدًا حانية أو يفوهُ بكلمة مشجعة حين يفارقون. نعم، محَنٌ منوعة اجتزت بها وكان آخرُها ذا تأثيرٍ بليغ على نفسي. إذ تعرّض أخي الأصغر بيننا نحنُ الأربعة، لشلَلٍ في الحِبال الصوتيّة أفقدَهُ القدرةَ على التنفّس الطبيعي، ممَّا جعلَني أستنجدُ بالرقم (911) أي طاقم الطوارئ الطبي للمجيء في الحال ونقلِه السريع إلى المشفى من أجل إنقاذ حياته. وطالتْ مدة إقامته في المستشفى، وكانت معاناتُه غيرَ مسبوقة تمامًا كما كان كلُّ شيء في سنة 2020. وحين يرى الفردُ أخاه يتألَّم بهذا الشكل أمام ناظرَيْه في غرفة العناية المشدَّدة، وهو يتنفَّس من خلال آلةِ التنفّس الاصطناعي، تنحني نفسُه وتئنُّ روحُه وتتأوَّه تحت وطأة المشهد واحتمالِ الفراق. وعندما وعيْت من جديد بعدَ هول تلك الساعات والأيام الحرِجة، توقّفتُ للحيظةٍ وسكّنتُ نفسي وعُدتُ إلى رُشدي، ورفعتُ صرخةً من الأعماق، وكذا صلاةً حرّى من أجل لمسةِ شفاء له. وتكلَّم الله لي من خلال كلمته وعزَّاني حين قرأتُ صلاةَ الملك حزقيَّا ملك يهوذا من خلال قراءتي الصباحية إذ سكَب قلبَه أمامَ الله حين أعلَمه عن طريق نبيِّه إشعياء بأنه سيموت فقال: "[آه يا رب، اذكُر كيف سرتُ أمامك بالأمانة وبقلبٍ سليم وفعلتُ الحسَن في عينيك.] وبكى حزقيا بكاءً عظيمًا. فصار قول الرب إلى إشعياء قائلًا: [اذهب وقلْ لحزقيَّا: هكذا يقول الرب إلهُ داود أبيك: قد سمعتُ صلاتَك. قد رأيتُ دموعَك. هأنذا أُضيفُ إلى أيَّامك خمسَ عشرة سنة.]" (إشعياء 3:38-5) وهنا استجاب الله وأضاف على عمره سنين عديدة ممَّا جعل حزقيّا ممتنًّا وشاكرًا فهتف يقول: "الحيُّ الحيُّ هو يحمدُك كما أنا اليوم. الأبُ يعرّف البنين حقَّك. الرب لخلاصي. فنعزفُ بأوتارنا كلَّ أيام حياتنا في بيت الرب." (ع 19 و20)
نعم، كان ذلكَ صوتَ الربّ لي أنا شخصيًا بعدَ فتَرات عديدة من ذرف الدموع، وتأكيدًا سماويًا بأنَّ الله لن يتركَ أخي بل سيهُبُّ لشفائِه. وأجمع الأطباء لإنقاذ حياته أن يُجروا فتحةً في القصبة الهوائية ويضعوا أنبوبًا يوصِلُ الهواء إلى الرئتين (Tracheostomy). كان القرار صعبًا لكن لم يكن لدينا أي خيارٍ آخر. وبعد ذلك، بدأ الخطرُ يزول عنه. وعبَرتْ هذه الآية في ذاكرتي للتوّ حين تساءل صاحب المزامير وقال: "لماذا أنتِ منحنيةٌ يا نفسي؟ ولماذا تئنِّين فيَّ؟ ترجَّيِ الله، لأنِّي بعدُ أحمده، خلاصَ وجهي وإلهي." (11:42)
نعم، وتعلَّمت الدرس وفهمتُ أنّ التوقف عن نشاطاتنا ومشاريعنا وكلِّ ما كان يشغَلُنا يوميًا، ليس هو إلا وقتًا نحتاجُه جميعًا لنهدَأ ونصمُتَ ونسكنَ أمام الحضرة الإلهية. حتى ومهما طالَتْ مدةُ التوقُّف... أإلى سنةٍ بأكملِها؟ نعم، لأنَّها لا بدَّ أن تُنتجَ غيْثًا وفيرًا وغزيرًا حتى وإنْ لم نستطع أن نراه، بل نشعر به في قلوبنا وفي حنايانا الداخلية. وما نظنُّه عائقًا في حياتنا، لا بدَّ أن يتحوّل إلى خيرِ كلِّ من يرغب في أن يثقَ بخالق الكون القادر على كل شيء. وهكذا وبعد أن نجتاز في وادي الدموع ونرى يدَ الرب الشافية والحنون تعمل وتشفي أحبّاءنا، نتأكَّد في كل يوم ومن خلال كلِّ توقُّف وكما أنشد المرنم زياد شحادة أنَّ الربَّ قريبٌ لمَن يدعوه، وهو ليس بعيدًا عن كلِّ ما قاسوه. فهو الذي دعا جميعَ المتعبين، ليريحَهم من حملٍ ثقيل، ليمسحَ دمعة عن كلِّ قلب حزين. نعم، بهذه الترنيمة الأنشودة أختم كلماتي الصادرة من قلب مفعم بالشكر والحمد على التوقُّفات المفاجئة في حياتي لأنها فواصلُ ساكنة صامتة تمامًا كـ (سِلاه) لكنَّها مهمةٌ جدًا كما في السلّم الموسيقي إذ تمنح اللحنَ طعمًا خاصًا. وهلَّا تابعْنا الصلاة من أجل أن يقضيَ إلهُنا القدير على هذا الوباء العالمي، فتنجو النفوس وتصبحُ تلكَ الوقفةُ فرصةً للرجوع والتوبة ومعرفة القدوس. عندها تصبحُ هذه السنةُ الجديدة سنةً غيثاءَ تنعشُ القلوبَ الجدْباء بفائضِ عطائها من المطر الهاطل، بدلًا من السنة الماضية الهزيلةِ والعَجفاءِ!

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2021