العنفُ...
إنه قصة الإنسانِ منذ الكينونة الأولى.
قصة الإنسان منذ السقوط حين تبرْعَمت الخطية وتوالدَتْ في شريان الوجود البشري، كالرعبِ المميت الساري في عرقِ الحياة..

فأصبحتِ الأرض ملعونةً بسبب تعدّي الإنسان، بالتعب يأكل منها كل أيام حياته، وشوكًا وحسكًا تنبت له، بعرق وجهه يأكل خبزَه... وبالتالي، كان عليه أن يصارعَ هذا الوجود بكل عنفٍ، دفاعًا عن حياته، هذا الإنسان الذي كان سيدًا للكون ذات يوم.
ومنذ أن أصبحت "الأنا" الفكرة الكامنة وراء كلِّ إنجاز، استحالت الأحداث إلى حكاية صراع، طلبًا لتحقيق الذات، وسعيًا وراء الأهواء. وفي خضمِّ الرغبة الجامحة تتحطّم القيم، وتتبدّل المفاهيم، وتُمحى الطبقات لتحلّ محلها طبقات جديدة، ويفنى مجتمع، وتنهار أسس، ثم تتعلق الأحداث بذيول الأحداث، وتتوالى المعارك كأرهب ما يكون، خلف سراب أو حقيقة، وتعود حكاية العنف لتبدأ من جديد.
والإنسان عبر صراعه هذا، يستهدف بناء مجتمع سليم تارة، وطورًا تتلَوّى أفاعٍ مميتة في مستغلقات نفسه، همّها الدمار، فالثورة أحيانًا، تكون حوافزها صرخة ظلمٍ داويةٍ يضيق بها صدره، أو أمنية مهضومة تتوق النفس إلى تحقيقها، أو ما أحاق بها من حيفٍ فتمردّت على ذاتها بكل ما يجتمع في هذه الذات من قيم أخلاقية وأدبية لتفكّ عنها أغلال الظلم وتتحرّر. وهي في جيشانها تمتدّ إلى أهدافٍ تبدو بعيدة المنال بادئ بدء. بيد أن الثورة في جموحها لا تلبث أن تنطلق عنيفة قاسية مشبعة برائحة الدماء، تكتسح في دربها اللاهب كلَّ رادعٍ أو وازع، وتأكل الأخضر واليابس. وبدايتها ازدراء لمشاعر الآخرين أو استهانة بالشعور الإنساني، أو احتقار الناس، حيث تفتقر القيم الأخلاقية إلى القيم الأصيلة المحفورة في مطاوي القلب قبل أن تكون دستورًا مسنونًا. والإنسان بطبعه يتنكَّر لكل قيمة أخلاقية حتى تصبح تنينًا يرغمه على اجتراح الظلم، استغلالًا لضعف الفقير واليتيم والمشرّد. فيطعنها بخنجر يقطر بسمِّ النقمة والحقد، لأن الطبيعة البشرية الخاطئة ما زالت تفحّ بنزعة شرٍّ تأصلت فيها، وتتجسّد مظاهرها في كل يوم أحداثًا مخيفة تعج ّبها الحياة من قتلٍ، وسرقةٍ، وزنى، وتعدٍّ، وكراهيةٍ، وحروبٍ، وثوراتٍ، ومظاهرات. حياة تصدق عليها نبوءة بولس الرسول حين قال:
"ولكن اعلم هذا أنّه في الأيّام الأخيرة ستأتي أزمنةٌ صعبةٌ، لأنّ الناسَ يكونونَ محبِّينَ لأنفسِهم، محبِّينَ للمالِ، متعظّمين، مستكبرين، مجدِّفين، غيرَ طائعين لوالديهِم، غيرَ شاكرينَ، دنسينَ، بلا حنوٍّ، بلا رضىً، ثالبينَ، عديمي النَّزاهةِ، شرسينَ، غيرَ محبِّين للصَّلاح، خائنينَ، مقتحمينَ، متصلِّفينَ، محبِّين لِلَّذَّاتِ دونَ محبَّةٍ لِلَّهِ." (2تيموثاوس 1:3-4) خطايا تقتضي كلّها مظاهر العنف على تفاوت، وتختلف باختلاف الأشخاص والدواعي. وحوافز بعض هذا العنف حق صريح، وحوافز البعض الآخر شر رهيب. بعضهم يثور طلبًا للحق، وإحقاقًا للعدل والإنصاف، والبعض الآخر يثور انسياقًا وراء الباطل وشهوات النفس، وأنت لا تدري، وقد ضاع الحق في غمار الباطل، أيهما الحق وأيهما الباطل.
وأصل البلاء، كامن في الطبيعة البشرية القديمة الخاطئة. هذه الطبيعة التي تفتقر إلى المحبة المسيحية بجوهرها الأزلي. أي المحبة التي نمت حياة فاعلة في المجتمع البشري حين أَسلم "رب الكل" نفسه، وأخذ صورة عبد ليفتدي الإنسان الخاطئ - وهو بعد خاطئ - ويشرع في وجهه أبواب الحياة التي أوصدتها الخطية. المحبة المعطاءة التي تفوح بشذا التضحية الباذلة المفعمة بالصدق، والأمانة، والمساواة، والإخاء، والمساعدة، حيث الطبقية تغدو مظهرًا عابرًا لأن الجميع واحد في المسيح، وحيث يعم السلام، وتخمد جذوة الحرب ويتلاشى الحقد. في تلك الهنيهة يدرك الإنسان، كل إنسان، أن الحياة بدون المسيح تفقد مصدر كل قوة.
لا يمكن الحياة أن تكون موشحة ببهاء مجد الله إلا إذا طرأ تغيير جذري على الطبيعة البشرية بفضل عمل الفداء الذي هو أسمى ما وصلت إليه المحبة الحقة. فالمحبة هنا، هي ذات الله، لأن الله محبة. "ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة." (1يوحنا 8:4). وحيث يتجلّى الله في القلب أو المجتمع، ينعم الإنسان بالطمأنينة التي هي غاية ما يسعى إليه الناس في مجتمع ضلّ طريقه فانحرف. وبالتالي، أصبح العنف فيه سمة غالبة لأن فيه تنازع بقاء وجود الإنسان حيث السيطرة للقوي، والويل للضعيف الذي ينسحق سحقًا تحت مواطئ الجبابرة.
أما محبة يسوع، فهي التي تهدهد القلب الخائف، وتهدئ من روع القَلِق المرتاع. وتمسح الدمعة من العين الحزينة، وتسكب قطرات السلام في النفس الحائرة. فحيث يسوع لا عنف. ولا قتل، ولا حقد، ولا حرب... بل محبة!

المجموعة: تموز (يوليو) 2021