قرأت مؤخرًا عن أحدِ الشواطئ في كاليفورنيا يُعرف باسم شاطئ الحصى. وهو جزءٌ من شاطئ شهيرٍ جدًا بحَصاهُ الجميلةِ المصقولة المنتظِمة ِالأحجامِ والأشكال.

ويعودُ ذلك إلى أنَّ الأمواج العاتية تتناول هذه الحصى بصخَبِها وهيَجانِها فتتلاعبُ بها وتبلغُ عمليةُ الحَتِّ أقصاها حين تتلاطمُ بعضُها ببعض. فتهذِّبُها وتَبريها جاعلةً منها حصىً مستديرة لمَّاعة ومصقولة. يزور مقرَّها السائحون من جميع أقطار العالم للتفرُّج عليها. كما ويلتقطُ الأثرياء بعضًا منها لتزيينِ أعتابِ صالاتهم الفخمة.
وإذا اجتزتَ هذا المكان إلى بقعةٍ أخرى من الشاطئ، وجدْتَ حَصىً أخرى عاديّةً منزويةً هناكَ بين الصخور. هذه لم تصلْها الأمواجُ ولم تمسَّها العواصف فبقيتْ على خشونتِها وَحِدَّتها. لكنَّ هذا النوع من الحصى لا ينجذبُ إليه أحدٌ ولا يجذبُ انتباهَ السائحين. (ينابيع في الصحراء)
ألسنا نحن هكذا أيضًا يا ترى؟ أعني نحنُ البشر؟ فإمَّا أن يقبلَ الواحدُ منا أمواجَ الحياةِ لتلاطمه فيغدوَ عن طريقها متمرِّنًا ومختبرًا عريقًا وتصبح له قدرةٌ على التحمُّل والصبر بسببها، وهكذا تُصقلُ شخصيّتُه وتتقوَّى لتواجهَ بالتالي ما هو أعظم في المستقبل ربما، فيقابلُها بسجايا شخصيّتِه التي صارت متمرّنة. والنوع الثاني هو "النوع الخام" كما وصفه مرةً أحدُهم أمامي. إذ قال معلِّقًا على شخص بأنَّه "إنسانٌ فَجٌّ" لم تصقلْه الأيام ولا السنون كما يبدو. فشبَّهه "بالبترول الخام" الذي لم يتعرَّض قط لعملية التكرير. فقلت في سرّي يا له من تشبيهٍ صحيح مع أنَّ وقْعَهُ ثقيل وقاسٍ على السمعِ.
أجل، فكم من أناس تعرَّضوا لكثيرٍ من المآسي في حياتهم إلا أنَّهم لم ينكسِروا أو ينزووا هناك بعيدًا عن الناس يرْثون لأنفسهم. بل إنَّ تجارب الحياة جعلَتْهم أقوى وأكثرَ صلابةً من السابق وصاروا مستعدِّين لكي يواجهوا الأمَرَّيْن كما يُقال. ومن بين هذه الشخصيات شخصيةٌ معروفة في التاريخ المسيحي أودُّ أن أُلقيَ الضوء على حياتها المأساوية التي عاشتْها في الجسد، لكنَّها استطاعت أن تنتصرَ وسط المعاناة والآلام الجسدية والنفسية التي طاردتْها طيلةَ حياتها. فتغيَّرت وتبَلْوَرت حتى غدت مثل الحصى المصقولة المرنة والملوَّنة بشتّى ألوان أمواج الحياة العاتية التي داهمتها منذُ صغرها.
وُلِدَت شارلوت في برايتين، إنكلترا، في العام 1789 لعائلة مؤمنة معروفة. إذ كانَ جدُّها من أحدِ القساوسة المعروفين في الكنيسة الأنكليكانية. ويُقال إما أنَّها وُلدت مريضة تعاني من الناحية الجسدية، أو أنَّها تعرَّضت للمرض منذ طفولتها حتى أنَّها أصبحت عاجزة. وحين كَبُرتْ أضحت حياتُها مثالًا وشهادةً حيَّة للصبر والتحمُّلِ الكبيرَيْن ليس من الناحية الجسدية فحسب بل من الناحية النفسية والروحية. لقد عانتِ الكثير من الاضطرابات والصراعات الداخلية، كما أحسَّتْ أحيانًا كثيرة بالاكتئاب والوحدة، فشعرت بأنها متروكة وغير مثمرة في حياتها. وحين أصبحت في الخامسة والأربعين من عمرها باتتْ تظن أن ليس لها قيمةٌ تُذكر وأنّها غيرُ نافعةٍ لشيء. وفي مرحلة عصيبة فقدَتْ ثقتها بنفسها بالكلِّيَّة ممَّا أدّى بها إلى مساورة شكوكٍ كثيرة ومخاوفَ مريعة أفْقَدتهْا ثقتها بالله وعلاقَتِها به. لكنَّ هذا الوضع بالذات والمعاناة الصعبة التي عاشتها أجبراها على فحصِ نفسها بالتدقيق والتأكُّد من اختبارها الروحي، أم أنَّ هذه كلَّها ليست سوى أوهامٍ نفسية وعاطفية؟! كما أوحيَ إليها!
وبعد ليلة قضتْها بالصلاة والتضرُّع أمامَ الله معلنةً فيها كلمتَه المقدسة ومواعيدَه الصادقة لها شخصيًا، أفاقت في الصباح الباكر بروح جديدة وحافز جديد لتدوِّن وتعلِنَ كلمات النصرة والغلبة على كل التشويشات والشكوك التي ساورتْها. وبدأت تكتب لتريح نفسَها من الصراع الجاري في فكرها وكيانها الداخلي. وبعدَ سنةٍ كاملة طبعت الترنيمة هذه في كتاب تحت عنوان: The Invalid’s Hymns Book لتعبّر من خلالها عن قبول الله المحبِّ لأولاده كما هم، أي بكلِّ ضعفهم، وعجزهم، وشكوكهم، وفشَلهم، وآلامهم، وأحزانهم، وهمومهم، وقلقهم، وتجاربهم. نعم، كما كتبت في كلِّ حياتها التي تركتْها في العام 1871 مئة وخمسين ترنيمةً مختلفة حاربتْ من خلال هذه الأشعار كل الأفكار والأحاسيس في ذاتها الداخلية حتى أصبحت هذه الترانيم العميقة شهادةً قوية لكثيرين، ومن أهم ما تركته للتراث المسيحي عبر التاريخ. أجل، هذه هي شارلوت إليوت البريطانيةُ المسيحية الشاعرة والكاتبة القديرة ذات الخيالِ الواسع. زارَها يومًا أحدُ الأطباء الآتي من جنيف في سويسرا واسمُه الدكتور (س. مالان) والذي كان أيضًا قسًا، فتحدّث إليها كثيرًا حين علم بحالتها الصحية وضعفها. وكان أكثرَ ما قاله لها بلاغةً هو: "فقط تعالي إلى الله يا شارلوت كما أنتِ واستريحي في حضنِه... كما أنتِ." وإليه يعود وعيُها الروحي العميق الذي عاشته فيما بعد وظهر بوضوح في كتاباتها للأشعار المسيحية التي أغنت فيها التراث المسيحي على مرِّ الأجيال من بعدها. كتبتْ تقول هذه الكلمات المترجمة عن الإنكليزية لناظمِها أسعد الشدودي:

1- "كما أنا آتي إلىفادي الورى مستعجِلا
إذ قُلتَ نَحوي أقبِلَيا حملَ اللهِ الوديع

2- يا ربُّ إنِّي مجرمٌفَلْيغسِلَنْ قلبي الدمُ
إنيِّ إليكَ أَقدِمُيا حملَ الله الوديع

3- كما أنا لأنَّنيذو فاقةٍ لا تنسني
آتي إليك يا غني،يا حملَ الله الوديع

4- أنتَ الذي تشفي العليل أنت الذي تُروي الغليل
عنّي أزلْ حملي الثقيليا حملَ الله الوديع

5- كما أنا لا برَّ ليأدنو من الفادي العلي
عن طلبتي لا تغفَلِيا حملَ اللهِ الوديع"

وانتشر هذا الشعر البديع العميق حتى غدا من أهم الترانيم التي استخدمها الواعظ الشهير الرّاحل بيلي غراهام في حملاته التبشيرية خلال سني خدمته الطويلة. وكانت سبب رجوع مئات الآلاف إلى الله والإيمان بالرب يسوع المسيح المخلّص والمحرّر.
نعم، ويعاني الإنسانُ المؤمنُ في رحلته في هذه الحياة مثلَه مثلَ كثيرين من الناس. كما ويصارعُ أفكارًا في داخله وشكوكًا تجعلُه يقترب من أبيه السماوي المحب، ويرتمي في حضنِه فيُفصح له عن معاناته وألمِه وصراعاته تمامًا كما فعل داود في القديم. فَباحَ له عن كل ما يعتصر فؤاده لتأتي المزاميرُ من بعدها صلاةً صادقة من قلبٍ متضرِّع يبغي الحصولَ على الغفران والخلاص واستعادة الفرح والبهجة والنصرة. فقال: "اصغَ يا الله إلى صلاتي، ولا تتغاضَ عن تضرُّعي. استمعْ لي واستجبْ لي. أتحيَّرُ في كربتي وأضطرب... يمخضُ قلبي في داخلي، وأهوالُ الموت سقطتْ عليّ. خوفٌ ورِعدةٌ أتيا عليَّ وغشيَني رعبٌ." (مزمور 1:55-2 و4-5) و"في يوم خوفي، أنا عليك أتَّكل... على الله توكَّلت... ماذا يصنعه بي الإنسان؟ ... أُوفي ذبائحَ شكر لك. لأنَّك نجَّيت نفسي من الموت. نعم، ورجليَّ من الزَّلَق، لكي أسيرَ قدّام الله في نور الأحياء." (مزمور 3:56، 11-13) حتى أنه أكَّد بالروح القدس أنَّ دموعه لن تذهب هدرًا، بل سيحفظُها الله في زقٍّ فقال: "تيهاني راقبتَ. اجعل أنتَ دموعي في زقِّكَ. أمَا هي في سفرك؟" (مزمور 8:56) بمعنى أنه لن ينساها. لقد صقَلتْه التجاربُ صقلًا، ومحَّصتْه تمحيصًا، فجعلت منه حَجرًا برّاقًا أملسَ.
أمّا أنا فجاءني حُلْمٌ عزَّاني وشجَّعني في وقتٍ كنت فيه بأمسِّ الحاجة إلى رفْعةٍ من عند إلهي الآب الحنون. ومع أنني أعتبرُ الأحلام شخصيّةً جدًّا ولا يمكن أن تُعمَّم، وأن نعتمدَ عليها، إلا أنَّ ما رأيتُه كان بالفعل رسالةً خاصة من فوق. هزَّ كياني كلَّه، إذ بدا وكأنَّه حقيقة. حلُمْتُ أنني ممسِكةٌ بحبلٍ ثخينٍ معلّقٍ وكنتُ أتأرجَحُ عليه يُمنةً ويُسْرة. وحين نظرتُ إلى أسفل وجدتُ ماءً تغمرُ اليابسة بأسرِها من تحتي. والماءُ غيرُ نقي. فخفتُ وقلتُ كيف لي أن أحُطَّ رجليَّ بعدُ على الأرض؟ وصرتُ في حيرةٍ من أمري. عندها رفعتُ رأسي إلى فوق لأرى مصدرَ هذا الحبل النازلِ فلم أجدْ له نهايةً بل رأيتُ نورًا ساطعًا مشعًّا محيطًا بالحبلِ الذي كنتُ متعلّقةً به. عندها، أفقتُ للتوّ من نومي وشكرتُ الله على هذا الحُلم الذي خصَّني به في وقتٍ كنت فيه بحاجة إلى تشجيعٍ من أبي السماوي الذي لا يمكن أن يتركَنا في أي ظرف من الظروف إذا ما تعلّقنا نحن به. ألم يقل داود هذه الكلمات الجميلة مسوقًا بالروح القدس: "لأنه تعلّق بي أنجّيه. أرفِّعُه لأنَّه عرَف اسمي." (مزمور 14:91)
فهل صقلتْكَ الأيامُ وتجاربُ الحياة ولربَّما طحنتْك تحتَ رِحاها؟ تأكد أنَّ سجايا شخصيتك الرّوحية تكتملُ عن طريقها يومًا فيوم. وتذكَّر دائمًا يا قارئي هذا القولَ الرّائع: "بأن أكبرَ جواهر الله هي دموعٌ جَمُدَتْ فتَبلوَرَتْ."
(ملاحظة: قصة شارلوت إليوت مترجمة بتصرُّف عن الإنترنيت)

المجموعة: أيلول (سبتمبر) 2021