وُلدت في نهاية القرن التاسع عشر، وكان مسقط رأسي ضيعة متن عرنوق السورية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. فمنذ نعومة أظافري، عشت يتيم الأب، محرومًا من محبته وعطفه وتأديبه.

قبل أن أبلغ العشرين من العمر حرصت ألا أكون عبئًا على أحد، فتركت بيت أبي وهاجرت إلى لبنان طمعًا بجمال طبيعته الخلابة وتوافر فرص أفضل للعمل.
تزوجت من فتاة لبنانية ورزقت منها ولدان. لكن لم تعمّ السعادة أرجاء بيتي، ولم أبنِ لعائلتي مستقبلًا زاهرًا لأن سرطان الميسر تفشّى في حياتي، فتحطمت أسطورة أحلامي وتزعزعت دعائم بيتي فلم يثبتِ... وكيف يثبت بعد أن خسرت كل شيء؟! بعد أن بعت أثاث بيتي، وبدلة العرس والخاتم الزوجي وبدّدت ثمن كل شيء على طاولات القمار...
تواعدت للتلاقي مع زوجتي أمام إحدى الكنائس في بيروت لتنفيذ ترتيبات الطلاق الذي لم يتمّ. كان ولدانا بصحبة أمهما التي أرادت آنذاك التخلّي عنهما، فزجرَتهما قائلة: اذهبا إلى أبيكما! وعندما أتيا إليّ - أنا الذي انعدمت من قلبي كل محبة ورحمة - قلت لهما: ارجعا إلى أمّكما.
لا... لم يرجعا إلى أحد، إذ وهما مرفوضان من أبيهما وأمهما، تعانقا عند إحدى زوايا مبنى المطرانية حيث أجهشا بالبكاء... يا له من منظر كئيب ومرير!

تركتُهم.. بل تركت بيروت وتوجّهت إلى مدينة حلب السورية، ظنًا مني أن التغيير الجغرافي يغيّر القلب والكيان.
بعد أن وصلت إلى مدينة طرابلس، جلست تحت ظلّ شجرة مورقة لأستريح من عناء السفر. وفجأة اقترب مني ثلاثة رجال جلسوا بجواري - لم أكن أعرفهم من قبل - وطلب أحدهم من الآخر أن يقصّ علينا قصة الابن الضال المدوّنة في إنجيل لوقا 11:15.
كم كان وقع هذه القصّة شديدًا عليّ؟! حين تحقّقت أن حالتي تماثل إلى حدّ بعيد حالة الابن الضال، قررت الرجوع، ولكن إلى أين؟ أإلى بيروت... إلى العائلة؟ وهل من أمل في إعادة بناء عائلتي المفككة؟!
رجعت إلى بيروت وكلي أمل، ولكن من أين أبدأ؟ أخذت أستجيب لهيجان ضميري عليّ إذ غمرني سيل من أسئلة التأنيب:
أين أولادك؟ أين زوجتك؟ ماذا فعلت بمالك، ببيتك، وبمستقبلك؟!
كم كانت ليلتي طويلة... وكأن لا نهاية لها! وكانت ليلتي مزعجة... إذ علا صوت ضميري على سكونها؟!
حين بزغ فجر اليوم التالي، قمت قاصدًا أحد زبائني وحصّلت منه الدين الذي لي. أخذت كل ما أملك في الحياة، وكلي أمل وتصميم وتوبة لكي أبدأ من جديد طاويًا بذلك صفحات الماضي ومآسيه.
يا ترى، هل سأنجح؟!
لقد صدق كلام الرب يسوع أن من يفعل الخطية هو عبد للخطية... "هل يغيّر الكوشي جلده أو النمر رقطه؟"
كلا... لم تتحقق آمالي، بل خسرت أيضًا كل ما أملك وبدّدته على طاولة القمار.
عندئذ تجرّأت وأخبرت زملائي عن حقيقة مآسيّ... ربما ينتشلونني من بالوعة اليأس.
وقتها تحنّن أحدهم عليّ وأعطاني ما يكفي لشراء وجبة طعام واحدة... لا غير!
وجبة واحدة؟!
وماذا بعدها؟! هل سأستعطي؟ كلّا! بل أموت بشرف ولا أعيش في الذلّ.
فكّرت بالانتحار كعلاج وحيد لي لأخرج من هذه المأساة... فذهبت إلى دكان سعيد واشتريت منه أداة الموت، حبل المشنقة الذي سيضع حدًا لمآسيّ. ثم توجّهت وبخطوات ثابتة إلى غابة الصنوبر في منطقة "السيوفي" ببيروت، منتظرًا تلك الفرصة حين أرتاح من صوت ضميري.
وقتئذٍ... كانت هناك خطوات ثابتة أخرى تتوجّه إلى نفس المكان الذي كنت فيه، وكانت بتداخل إلهيٍّ؛ إنها خطوات خادم الرب الأمين القس الراحل عيسى المصري - الذي حثّه روح الرب أن يذهب إلى غابة الصنوبر التي كنت فيها وأطاع...
يا له من لقاء! وما أدقّه من توقيت... عندما التقى بي خادم الرب - الذي كان على معرفة سابقة بي - وبادرني بالسؤال متحققًا:
أأنت فلان؟! وما هذا الذي تحمله معك؟
فجأة انهمرت الدموع من عينيَّ...
ثم استطرد خادم الرب وقال: "أنت بحاجة إلى علاج جذري لحياتك. يجب أن تذهب إلى الاختصاصي الذي ينقذك من هذه الحالة."
استضافني القس عيسى المصري في بيته، ثم أخذني مساء ذلك اليوم إلى الكنيسة للاستماع إلى رسالة تبشيرية من خادم الرب الراحل برنابا نوس.
تكلم الواعظ عن ذلك الاختصاصي الذي يغيّر الحياة ويجدّدها - الرب يسوع المسيح الذي أحب الخاطئ ومات عنه على الصليب – "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية".
كانت تلك الليلة ليلة فاصلة وتاريخية في حياتي، حين صلّيت إلى الله بدموع التوبة طالبًا الخلاص والرحمة والغفران.
عندئذ استجاب الله صلاتي، وغيّر كياني ومسلكي - هذا ترك أثرًا واضحًا على المحيطين بي، وخصوصًا على غير المؤمنين. حتى قال أحدهم: "سبحان الذي غيّر الذي لا يمكن تغييره... إن هذا الإنسان المستعبد لشروره، قد أعاد الله كرامته وعائلته وجعل حياته تشعّ بنور المسيح".

وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ. (رؤيا 11:12)

المجموعة: حزيران (يونيو) 2022