لماذا يسكت الله في وقت آلام الأبرياء؟ لماذا يسكت في وقت أحزان أولاده؟ لماذا يسكت عندما تقوم الاضطرابات والثورات في الأرض؟

لماذا يسكت عندما يرفع المؤمنون صلواتهم إليه؟ لماذا يسكت عندما يرى الأشرار يكثرون ثروة؟ هذه كلها أسئلة تملأ العقل الإنسان حيرة وارتباكًا، وقديمًا رفع داود صوته قائلاً: "إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل همومًا في نفسي وحزنًا في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوّي عليّ؟" (مزمور 1:13-2)
ثم جاء بعده حبقوق فقال: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشرّ، ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرّ منه." وإذا بصفنيا النبي يظهر ومعه الجواب الشافي للقلب المعذّب، والعقل الحائر، في كلماته الخالدة: "الرب إلهكِ في وسطكِ جبار. يخلّص. يبتهج بكِ فرحًا. يسكت في محبته. يبتهج بكِ بترنّم." (صفنيا 17:3) فإلهنا الحي العظيم يسكت في محبته، وهو يسكت في عدة مواقف أعلنها لنا السجلّ المقدس. إنه يسكت:

1- وقت امتحان إيماننا
وفي الكتاب قصة جليلة تعلن لنا هذه الحقيقة، فقد خرجت أم كنعانية بائسة، كان قلبها يتمزّق لمرض ابنتها بالجنون، وقلب الأم هو أرقّ قلب في الوجود بعد قلب الله، وجاءت هذه الأم تصرخ للسيد متوسّلة: [ارحمني، يا سيّد، يا ابن داود! ابنتي مجنونة جدًا.] فلم يجبها بكلمة... سكت الرب ليمتحن إيمان هذه المرأة، ويُظهِر هذا الإيمان في صورته البهيّة العجيبة. ولقد توسَّط التلاميذ لديه ليصرفها فأجابهم: "لم أُرسَلْ إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة." وقد كان من الممكن أن تتراجع المرأة ويفنى إيمانها عند سماع هذه الكلمة، لكنها لم تفشل ولم يضُع إيمانها بل جاءت وسجدت للرب قائلة: [يا سيد أعنّي.] وهنا أجابها السيد: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب." هل تثور المرأة الفينيقية لأجل كبريائها الجريحة، وتحتجّ على الإهانة التي لحقتها؟ كلّا! بل تتواضع بإيمانها وتنزل تحت المائدة، وتمسك السيد بكلمته وتقول له: "نعم، يا سيد! والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها!" هنا لم يستطع السيد أن يستمرّ في سكوته إذ انتصر الإيمان وظفر فأجابها قائلًا: "يا امرأة، عظيمٌ إيمانك! ليكن لك كما تريدين." "فشُفيت ابنتها من تلك الساعة." فهل تفشل عندما يسكت الله عليك في وقت امتحان إيمانك؟ هل تتراجع وتفتر وتخور قواك الروحية لأنك رفعت لله صلاة فلم يجبك بكلمة؟ اثبَتْ واستمرّ في وقت سكوت الله "لكي تكون تزكية إيمانكم، وهي أثمن من الذهب الفاني، مع أنه يُمتحَن بالنار، توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح."

2- وقت ثوران أمواج الحياة ضدنا
أجل، فهو يسكت وسفينة حياتنا تتلاعب بها الأمواج وتكاد تغرقها الرياح العاصفة... وها نحن نرى الرب في السفينة مع تلاميذه، ينتحي مكانًا في مؤخرة السفينة وينام... ويثور البحر، وتشتدّ الرياح، ويحاول بطرس أن يصلح القلاع، ويوحنا أن يدير دفّة السفينة... وتوما أن يجذّف بسرعة للوصول إلى الشاطئ، ولكن بلا جدوى، فالأمواج ترتفع فترفع معها السفينة إلى العلاء، ثم تتركها لكي تسقط بين أحضان الماء العجّاج الذي لا يرحم، ولما تفشل المجهودات البشرية، يرفع التلاميذ عيونهم للتفكير في سيّدهم. لماذا هو ساكت؟ لماذا لم يقم لإنقاذهم؟ أهكذا هو متثقّل بنومٍ عميق؟ ألم يسمع ضوضاءهم؟ ألم يرَ محاولاتهم؟ إذًا فليتقدّموا إليه ليوقظوه، وهكذا أسرعوا إليه وعلى أفواههم صرخة الأبد: "يا معلّم، أما يهمّك أننا نهلك؟" كلّا، بل يهمّه جدًا! فشعور رؤوسنا محصاة عنده، وعظامنا مرسومة في سِفره قبل أن توجد، وأنفاسنا مذخّرة في قوّته اللانهائية. لكنه يسكت لنعترف نحن بفشل محاولاتنا، وليعلّمنا الدرس الخالد الذي أراد أن يلقّنه لنا، "لا تتّكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده." (مزمور 3:146) وعندما نتعلّم الدرس ونلجأ إليه هو، يقوم وينتهر البحر والأمواج فيصير هدوء عظيم وعندئذ نرى فيه الخالق العظيم الذي وضع للبحر حدًّا فلا يتعدّاه وقال له هنا تقف وهنا تُتخم كبرياء لججك.
فيا أيها الخائف من الأمواج الهائجة المحيطة بك، ويا أيها المضطرب في بحرٍ ثارت عواصفه، لا تخف فربّان السفينة ما زال يقودها، ولن تهلك شعرة من رؤوسنا.

3- وقت تكبّر الأشرار حولنا
هذا ما أعلنه حبقوق عندما قال: "فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرّ منه؟" وهذا هو ما جعل إيمان آساف يهتزّ في يوم ما، فسجّل اختباره الذي قال فيه: "أما أنا فكادت تزلّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون. لذلك تقلّدوا الكبرياء. لبسوا كثوبٍ ظلمهم... يستهزئون ويتكلّمون بالشرّ ظلمًا. من العلاء يتكلّمون... هوذا هؤلاء هم الأشرار، ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة." (مزمور 1:73-12) لكن، هل يسكت الله على كبرياء الأشرار إلى الأبد؟! كلّا، فقد أمسك الرب بيد آساف وأدخله إلى مقادسه فكتب الرجل يقول: "حتى دخلت مقادسَ الله، وانتبهت إلى آخرتهم. حقًّا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة! اضمحلّوا، فنوا من الدواهي." ففي ترتيبات الله أن يسكت على شرّ الأشرار، إلى أن يرتفعوا إلى أعلى درجات المجد، ثم يحطمهم فيسقطون من علٍ ولا تكون لهم نجاة. نعم، فهو يسكت على المرتشين والظالمين والخدّاعين والنجسين لكنهم في لحظة يسقطون ويتهشّمون.

4- وقت أحزاننا وتجاربنا
ولقد سكت قديمًا عندما سمع بموت لعازر الذي كان يحبّه، وهو يعلم أن قلب مرثا قد حطّمه الحزن وأن قلب مريم قد ذاب من الأنين. وسكت عندما رأى يوسف يُباع كالعبيد، وتتّهمه امرأةٌ فاجرة في شرفه الرفيع، ويُقاد كالمذنبين إلى سجنٍ مظلمٍ من سجون مصر... وأنت تهمس قائلًا: "لكن، لماذا يسكت الله في آلامنا وتجاربنا؟ إن قيامة لعازر التي أعلنت لاهوت المسيح تعطيك الجواب الشافي، والعربة الملكية التي ركبها يوسف ونادوا أمامه اركعوا تريح قلبك المتألّم وفكرك الحائر، فلو أن المسيح جاء ولعازر مريض لما كانت هناك فرصة لإعلان قوته الفائقة على الموت... ولو أن الله أنقذ يوسف من أيدي إخوته، لخرج إلى الحياة شابًا ضعيفًا – كدت أقول مائعًا – من كثرة تدليل أبيه المحبّ له. لكن الله قصد أن يزيل الضعف والميوعة من حياة يوسف، وأن يذيقه ظلم الحياة، وأن يشعره بإحساس الجياع، حتى عندما يتولّى كرسي الوزارة يحكم بالعدل للمساكين ويشفق على بائسي الأرض.
فاسترحْ أيها المتألّم المعذّب من آلام الحياة وتجاربها، فربما يسكت الله عليك وأنت في بوتقة الألم ليعدَّك لمركز رفيع في تدبيرات عنايته.
لكن سؤالاً هامًا يخطر ببالنا وهو: هل يسكت الله في سمائه كما يبدو لنا نحن أبناء الأرض؟! وصاحب المزمور الثاني يجيبنا عن هذا السؤال ويشاركه في الإجابة النبي إشعياء، أما صاحب المزمور فيقول: "الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذٍ يتكلّم عليهم بغضبه، ويرجفهم بغيظه." فالساكن في السماوات يضحك على أشرار الأرض ومؤامرتهم. ولقد ضحك في القديم على تدبيرات هامان الذي أراد أن يبيد الشعب اليهودي، وهو يضحك اليوم على كل قائد أو زعيم تسول له نفسه أن يفكر في إبادة الأقليات في أي بلد من بلاد الأرض، وهو في ضحكه يستهزئ بمشروعات أولئك الملوك والقادة والزعماء، ولا بدّ أن يأتي اليوم الذي فيه يتكلّم كلمته فيرجفهم بغيظه ويثبّت ملك مسيحه.
أما من جهة سكوت الله على آلام أولاده وتجاربهم، فإشعياء يعلن لنا مشاعر الله من نحو قديسيه فيقول: "في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعهم وحملهم كلّ الأيام القديمة." (إشعياء 9:63) فهو إذًا يتألّم لآلامنا، ويتضايق لضيقنا وفي الوقت المعيّن يسرع إلى فكِّ قيودنا، وعلى ذراعيه يحملنا.
فيا نفسي اهدئي في محضر الله، واستريحي على ذراعَي محبته، وإن بدا ساكتًا - يا نفسي - إزاء ضيقاتك. تمسّكي بإيمانك، لأنه سوف يسرع في وقته لنصرتك!

المجموعة: آب (أغسطس) 2022