صديقٌ مهذّبٌ غير مسيحي التقيته يومًا مصادفة في مكتب أحد الأقرباء دون معرفة سابقة به، وبلا موعد.

وبحكم اللياقة عرّف كلٌّ منّا بنفسه، ولما لاحظ الصديق طبيعة عملي من خلال التعارف أبدَى رغبةً للحصول على نسخة من الكتاب المقدس فقدّمته له في وقتٍ لاحق، وعند استلامه الكتاب بدا عليه السرور وشكر، وخلال الحديث طرح بعض الأسئلة للاستيضاح وأجبته عليها.
بعد أسابيع اتّصل بي وتمنّى أن يطّلع على بعض الشروحات والتفاسير للاستزادة بما يطرحه الكتاب المقدس من تعاليم، فقدّمت له بعض ما لديَّ. ثم عاد بعدها وطلب المزيد فنصحته أن يمرّ على المكتبات المتخصّصة بمثل هذه الأبحاث وهي متوافرة. وبعد شهرين أو ثلاثة اتّصل وكشف النقاب عن أمر خفيٍّ كان يُخطّط له، فأبلغني أنه يُحاول أن يجمع ما أمكن من مراجع ليقوم بتأليف كتاب يُظهر فيه ومن خلال الإنجيل أن المسيح لم يقلْ يومًا عن نفسه أنه هو الله!
فقلت في نفسي: المستغرب أن صديقنا هذا لم يحصل على الكتاب المقدس ويطلع عليه إلا قبل أشهر معدودات، فكيف تتولّد لديه الخبرة بهذه السرعة ليعارض جوهر العمود الفقري للعقيدة المسيحية؟!
ماذا وراء ذلك؟ وكان ردّي عليه ببساطة أن الطريق في مثل هذا البحث طريق وعر ومسدود، وأن الباحث فيه لن يصل إلى مُبتغاه. وتمنّيت في قلبي أن يواصل بحثه في الإنجيل وفي المراجع الأخرى التي ربما حصل عليها، فهو في نهاية المطاف إما أن يصل إلى حقيقة دامغة ساطعة كنور الشمس، على عكس ما يصبو إليه فيستسلم لها، كما حصل مع كثيرين غيره ممن انتقدوا الإنجيل وانكبّوا على دراسته ليثبتوا بُطلانه، فوقعوا في أسره وأحبّوه وشهدوا بصدقه، أو أن يُصرُّ صديقنا على موقفه رغم ما يعرضه الإنجيل من وضوح، فهو حرّ في اختيار ما يريد دون إكراه أو ترغيب.
يُصرُّ البعض من أمثال صديقنا على أن نفي حقيقة ألوهية المسيح يتمثّل حصرًا بأنه لم يقل حرفيًّا أنه هو الله، مع أنه قالها، وقال أمثالها، وقال ما تعنيه، وقال ما يدلّ عليه دون أن يقصد التدليل على هويّته، فهناك عشرات المواقف والمشاهد التي تدلّ على لاهوته بعبارات خرجت من فمه ومن فم غيره في مناسبات متنوِّعة تؤكّد ذلك.
والعظماء عادة لا يُدلِّلون على هويَّتهم بمثلِ هذا الأسلوب الرخيص، فالعظيم تشهد له أعماله، وإنجازاته، وسيرةُ حياته، ورأي شعبه فيه، وشهادة الناس عنه، فلا يحتاج إلى تعظيم نفسه كمن يشدّ عضلاته على حلبة المصارعة أمام الجماهير إعجابًا بنفسه.
جاءت جماعة من اليهود المتشدّدين إلى المسيح يجادلونه، وتفاخروا أنهم أبناء إبراهيم، فقال لهم: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، وقال: "أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح." فقال له اليهود: "ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" فقال: "الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن." (يوحنا 58:8)
كيف يُفسَّر هذا الكلام، إن لم يكن قائله أزليٌّ موجود قبل كل الوجود. قال: "أنا كائن." لم يقلْ قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت، بل أنا كائن... تعبيرٌ لا يُطلق بشكلٍ شخصيٍّ على غيرِ الله، فالله وحده هو الكائن الأزلي السرمدي الذي وحده يستحقّ السجود والعبادة.
في نهاية عظته المشهورة على الجبل قال محذّرًا: "ليس كل من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ! يدخل ملكوت السماوات (الجنة أو الفردوس)." ثم قال: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم (يوم الدين): "يا رب، يا رب! أليس باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم!" (متى 23:7) فهؤلاء كانوا منافقين لم يقرنوا إيمانهم بسلوكهم. ويلاحَظ هنا أن في قوله هذا أقرّ بحقيقتين: أولًا، أقرّ بربوبيّته. وثانيًا، أقرّ بأنه هو الديّان في يوم الدين. والديّان هو الله.
في إحدى المرات اقتربت منه جماعة من اليهود وقالوا: "إلى متى تُعلِّق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح (المُنتظر) فقل لنا جهرًا."
"أجابهم يسوع: [إنّي قلتُ لكم ولستم تؤمنون... لأنَّكم لستم من خرافي... خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياةً أبدية، ولنْ تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي... ولا يقدر أحدٌ أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد.] ... فتناول اليهود أيضًا حجارة ليرجموه." أجابهم يسوع: [أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أيِّ عملٍ منها ترجمونني؟] أجابه اليهود قائلين: [... بل لأجل تجديفٍ، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا.]"
فالمسيح في العديد من مواقفه أكّد على ألوهيّته، وربوبيّته، وأزليّته، وأنه هو الديّان في يوم الدين، وبياناته في كل ذلك واضحة لا تحتاج إلى الكثير من الذكاء لفهم ما تعنيه أو تشير إليه.
في سفر الرؤيا أصحاح 21 يتحدّث المسيح إلى تلميذه يوحنا الحبيب ويقول له: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا. من يغلب (الشرور والآثام) يرث كلَّ شيء، وأكون له إلهًا وهو يكون لي ابنًا. وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتّقدة بنارٍ وكبريتٍ، الذي هو الموت الثاني."
فها هو قالها يا صديقي بكل وضوح أن رافضي الشرور والآثام هم عِبادي المقرّبين وأنا إلههم.
موضوع التجسّد غير وارد في أذهان المشككين بألوهية المسيح فهذا يُغيبُ عنهم الحقيقة.
هم ينظرون إلى المسيح بهيأته الناسوتية فيروه من دم ولحم... فكيف يكون هو الله؟!
ثم إن عدم فهم طبيعة جوهر الله بأقانيمه الثلاث - الآب والابن والروح القدس في جوهر الله الواحد - فهذا يُغيب عنهم الحقيقة.
ألوهية المسيح تشهد لها أسفار العهد القديم أيضًا (التوراة) كسفر دانيآل، وهذا سفر نبويّ من أسفار توراة اليهود. يقول النبي دانيآل في الأصحاح 7: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان (هذه تسمية من تسميات المسيح في الإنجيل) أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرّبوه قدامه. فأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كلّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبديّ ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض."
ونتساءل: كيف يكون هذا؟ واليهود لا يعبدون غير الله! فمَنْ تكون شخصية ابن الإنسان في نبوة دانيآل إن لم تكن هي المسيح ابن الإنسان الذي تجسَّد ووُلد من عذراء؟! هذا دليل من أدلّةٍ كثيرة لا مجال للخوض فيها في مقال قصير.

المجموعة: آب (أغسطس) 2022