في المرّات السابقة تكلّمنا عن الفضائل الثلاث الأولى من ثمر الروح، وهي المحبة والفرح والسلام المرتبطة بعلاقة الإنسان بالله، وابتداء من هذه المقالة تبدأ المجموعة الثانية المرتبطة بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وهي: طول الأناة واللطف والصلاح.

طول الأناة: ما المقصود بطول الأناة؟
كثيرًا ما نسمع هذه العبارة من بعض الأشخاص: "خلاص، أنا جبت ما عندي مع فلان! دي آخر ما عندي... وعبارات كثيرة مشابهة تدلّ على عدم الصبر والاستسلام والفشل في التعامل مع الآخر!
وعلى النقيض من هذه العبارات هناك مثل يقول: طول البال يهدّ الجبال، ومعناه مهما كانت جبال المصاعب والألم، فمع طول الأناة تنتهي، أي مصيرها ينتهي.
طول البال والصبر وجهان لعملة واحدة. فإن كان هذا العصر الذي نعيش فيه الآن قد اتّصف بالسرعة، قد أضعف بل أقول: أفقدنا لهذه الفضيلة. يحرّضنا الكتاب المقدس ويحثّنا على ممارسة هذه الفضيلة بقوله: "بصبركم اقتنوا أنفسكم." ويقول أيضًا: "خذوا يا إخوتي مثالًا لاحتمال المشقات والأناة: الأنبياء الذين تكلموا باسم الرب. ها نحن نطوِّب الصابرين. قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب. لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف." (يعقوب 10:5-11)
إن طول الأناة مرتبط بالمحبة التي تتأنّى دون أي تذمّر و"تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. المحبة لا تسقط أبدًا." (1كو7:13-8)
بالإضافة إلى أن عمل الروح القدس الذي يعمل في حياتنا ينتج هذه الثمرة المباركة فنحن علينا مسؤولية في تعميق هذه الفضيلة في حياتنا بطريقة عملية، لذلك يقول الرسول بطرس: "وَلِهَذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى." (2بطرس 5:1–7)
ونستطيع أن نتعلّم طول الأناة والصبر من صفات أبينا السماوي، لأن طول أناة الله يرتبط مع أبوّته. فقد قيل عن الله أنه إله الصبر "وَلْيُعْطِكُمْ إِلَهُ الصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ أَنْ تَهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِحَسَبِ المسيح يسوع." (رو5:15) وهو غنيٌّ في لطفه وإمهاله فيقول في رومية 4:2 "أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" وأيضًا هو طويل الروح "أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ." (مز 15:86)
وطول أناة الله، يعلن ويعبّر عن محبة الله: فبالرغم من شرّ البشر الذي يزداد كل يوم، وفساد قلب الإنسان كل يوم فإن الله يتأنّى عليه لأنه يحبّ الإنسان. "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يُقبلون." (1تيموثاوس 4:2) "ولَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ." (متى 14:18) "لأَنَّ ابْنَ الإنسان قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِِّّصَ مَا قَدْ هَلَكَ." (لوقا 10:19)
وقيل عن الرب يسوع: "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ." ويقول بفمه الطاهر: "هنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي." (رؤيا 20:3)
وأعتقد أنه لهذا السبب يتأنّى الله في مجيئه الثاني، ليعطي فرصة للخطاة أن يتوبوا، حيث يقول: "وَلَكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ هَذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ: أَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ. لاَ يَتَبَاطَأُُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ." (2بطرس 8:3-9) مع الملاحظة: إن كان الله يُمْهِل لكنه لا يُهمِل، وإن كان الله رؤوف وطويل الروح، لكنه لا بدّ أن يدين الخطية والشرّ مثلما حدث مع العالم في أيام نوح وسدوم وعمورة. فلنتحذّر من أن نتّخذ من إمهال الله وطول أناته فرصة للشر. الله قدوس ولا بدّ أن يعاقب الشر والأشرار.
ونحن المؤمنون علينا أن نتأمل في الحياة من حولنا، فهناك أمور كثيرة فيها نحتاج إلى الصبر وطول الأناة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الفلّاح يبذر البذار ويروي ويفلح الأرض وينقيها من الحشائش الضارة وينتظر الثمر أحيانًا ستة أشهر أو حتى سنة. وهناك أشجار لا تثمر إلا بعد عدة سنوات. فكم بالحري لنا نحن المؤمنون أن نثمر بالصبر (لوقا 15:8).
وامتحان طول الأناة والصبر قد يُختبر في علاقاتنا ومواقفنا مع الآخرين، الذين يسيئون إلينا وقد يجرحوننا سواء من الأهل أو غيرهم ومن الذين يضطهدوننا. كتب الرسول بولس إلى مؤمني تسالونيكي قائلًا: "حَتَّى إِنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا نَفْتَخِرُ بِكُمْ فِي كَنَائِسِ اللهِ، مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فِي جَمِيعِ اضْطِهَادَاتِكُمْ وَالضِّيقَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا." (2تسالونيكي 4:1)
كما يُمتحن طول الأناة والصبر في وقت التجارب والألم الذي نجتاز فيه. لذلك يقول السيد المسيح للمتألمين: "بصبركم اقتنوا أنفسكم." (لوقا 19:21) "ولكن الذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص." (متى 22:10) ويقول الرسول يعقوب: "اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ." (يعقوب 2:1–4)
وعندما تسود هذه الفضيلة في حياتنا، نستطيع أن نصلّي وننتظر بإيمان استجابة الصلاة وتحقيق مواعيد الرب في حياتنا، لأن الله في وقته يسرع به، ويقول: "فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ. لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ. لأَنَّهُ بَعْدَ قَلِيلٍ جِدًّا «سَيَأْتِي الآتِي وَلاَ يُبْطِئُ...]" (عبرانيين 35:10-37)
وختامًا، لكي نمارس طول الأناة والصبر في حياتنا، نحتاج قبل كل شيء أن يحلّ المسيح بالإيمان في قلوبنا، وأن نمتلئ بالروح القدس فيثمر فينا طول الأناة.

المجموعة: آب (أغسطس) 2022