مَا هُو الْمَعْنِيُّ بمُصْطلَحِ الْمُصالَحَةِ؟
لُغَويًًا هُو خَلْقُ جَوِّ مِنَ الْوِئامِ، والتَّفاهُمِ، والسَّلامِ بَينَ شَخْصَينِ مُتَنافِرَينِ بَعدَ إِزالَةِ أَسْبابِ الْعَداوَةِ أَوْ تَأْدِيةِ “الدِّيَّاتِ".

ولَكنْ مَا هُو الْمَغْزى الرُّوحِي الَّذي يَشْتَملُ عَليهِ مَفْهومُ الْمُصالَحَةِ في حَيِّزِ الْعِلاَقِة بَينَ الْإْنسانِ وبَينَ اللهِ؟ ومَنْ هُو الْمُصالِحُ؟ بَلْ مَنْ يُصالِحُ مَنْ؟ وهَلْ يُمْكنُ لِلْإِنْسانِ أَنْ يُصالِحَ اللهَ؟ أَوْ هَلْ يَحْتاجُ اللهُ حَقًّا أَنْ نُصالِحَهُ؟ وهَلْ لَدَيْنا الْجُرأَةُ الْأَدَبيَّةُ والْحَقُّ الشَّرْعِيُّ أَنْ نًقولَ للهِ: “هَّيا بِنا نَتَصالَحُ بَعْدَ طُولِ عِداءٍ، وجَفاءٍ، ونُفورٍ؟ وإِنْ كانَ اللهُ هُو الْمُصالِحُ فَمَنْ نَحنُ حَتَّى يُغْدِقَ عَلينا هَذا الاِمْتِيازَ الرَّفيعَ الَّذي نحنُ لا نَسْتَحقُّهُ؟
فنحنُ الْبَشرُ، بالطَّبيعَةِ، مِنْ جَرَّاءِ تَعَدِّينا على مَقايِيسِ اللهِ الْأَدَبِيَّةِ ونَواهيهِ الرُّوحيَّةِ كُنَّا تَحتَ دَيْنونَةِ غَضَبِ اللهِ ومَطْرودينَ مِنْ فِرْدَوْسِهِ الْمَفْقودِ. ولَكنْ في خُطَّةِ اللهِ الْخَلاصِيَّةِ حَدثَ مَا لمْ يَكنْ مُتَوقَّعًا في نِطاقِ التَّصوُّرِ الْإِنْسانِي لأَنَّ كَفَّارةَ الْمَسيحِ كانَتِ الْعِلاجَ الأَنْجَعَ الْوَحيدَ الَّذي دَبَّرهُ اللهُ لِمأْدُبَةِ الْمُصالَحَةِ. وهَذا يَعْني أَنَّ اللهَ هُو الَّذي أَخذَ زِمامَ الْمُبادَرَةِ في عَمَلِ الْكَفَّارَةِ والتَّبْريرِ والْمُصَالَحَةِ.
إنَّ مِنْ شَأْنِ مُعْظَمِ الْمُصالَحَاتِ أَنْ تَتَّسِمَ بالطَّابَعِ الشَّخْصِي لِأَنَّها بِطِبيعَتِها إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَينَ شَخْصَيْنِ مُتَقارِبَيْنِ أَوْ فِئَتَينَ مُتَنَاحِرَتَينِ تَدَهْوَرَتِ الْعِلاقَةُ بَيْنَهُما بَعدَ رَدْحٍ مِنَ الصَّداقَةِ أَوِ الْمَعْرِفَةِ، فاسْتَشْرَتْ بَيْنَهُما الْخُصُومَةُ لِسَببٍ أَوْ لِآخرَ. ومِنْ ثَمَّ تَجْري الْمُبَادَراتُ عَنْ طَريقِ شَخْصٍ ثالِثٍ أَوْ أَكْثَرَ لِلْقِيامِ بالْمُصالَحَةِ لِرأْبِ الصَّدْعِ، وإِعادَةِ الْعِلاقَاتِ كَالْعَهْدِ بِها سابِقًا. ويُمْكنُ الْقَوْلُ بِصورَةٍ مَجازِيَّةٍ أَنَّ هَذا الْوَضْعَ كانَ يُماثِلُ في ظاهِرِهِ مَأْسَاةَ السُّقوطِ والتَّعَدِّي علَى نَهْيِ اللهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ ومَا نَجَمَ عَنْ ذَلكَ مِنْ فَواجِعَ غَيَّرَتْ وَجْهَ التَّارِيخِ. بَيْدَ أَنَّ هُناكَ فُروقًا جَوْهَريَّةً بَيِّنَةً كانَتْ بارِزَةً فِي هَذهِ المَأْسَاةِ أَهَمُّها:
أَوَّلًا، أَنَّ الْمُشْتَركينَ فِي هَذا النِّزاعِ كَانُوا ثَلاثَ فِئَاتٍ: اللهَ، والْإِنْسانَ والشَّيْطانَ.
ثانِيًا، أَنَّ التَّعدِّي صَدَرَ عَنِ الْإِنْسانِ بِإِغْراءٍ مِنَ الشَّيْطانِ وتَغْريرِهِ.
ثالِثًا، أَنَّ الشَّيْطانَ اسْتَهدَفَ الْاِنْتِقامَ مِنَ اللهِ والْقَضَاءَ علَى خُطَّتِهِ إِنِ اسْتَطاعَ.
رابِعًا، أَنَّ عَمَلِيَّةَ التَّعدِّي كَلَّفَتِ اللهَ ثَمَنًا باهِظًا.
خامِسًا، أَنَّ اللهَ ذاتَهُ هُو الَّذي أَقْدَمَ علَى الْمُصالَحَةِ في الْمَسيحِ.
ولَكِنْ ضِمْنَ هَذا الْإِطارِ كانَتْ عِلاقَةُ الْإِنسانِ مَعَ اللهِ عِلاقَةً غَيرَ مُتَكافِئَةٍ لأَنَّها كانَتْ عِلاقَةَ خَالِقٍ بمَخْلوقِهِ، عِلاقَةَ إِنْسانٍ مُشْرِفٍ على العِصْيانِ. ويَبْدو أَنَّ آدمَ لمْ يُدْركْ هَذهِ الْحَقيقَةَ إِدْراكًا واعِيًا إلَّا بَعْدَ السُّقوطِ، وآنَئِذٍ فَقَطْ اسْتَوْعَبَ حَقيقَةَ مَوْقِفِ اللهِ مِنَ الْخَطيئَةِ. وإِذْ أَصْبحَ تَحْتَ دَيْنونَةِ اللهِ مَحْكومًا عَليهِ بالْمَوتِ تَبَيَّنَ حَراجةَ مَوْقِفهِ الْيَائِسِ، وأَنَّ الْعِلاقَةَ الْحَميمَةَ الَّتي كانَتْ لهُ مَعَ اللهِ قَدِ انْفَصَمتْ عُراهَا. ولَعَلَّهُ تَساءَلَ فِي ظُلمَةِ شَقائِهِ: كَيْفَ يَسْتَطيعُ أَنْ يَتَصالَحَ مَعَ خَالِقِهِ ويَحْظَى بِرِضاهُ مَرَّةً أُخْرى؟ كَيفَ يُمْكِنُ أَنْ تُعودَ وَشائِجُ الْمَحَبَّةِ، والتَّفاهُمِ، والشُّعورِ بالأَمْنِ، والغِبْطةِ الَّتي كانَ يَتَمَتَّعُ بهَا في مَحَضَرِ اللهِ في الْجَنَّةِ قَبْلَ العِصْيانِ؟ بَلْ كَيفَ في وُسْعِهِ أَنْ يَمْحوَ لَطْخةَ الْخَطيئَةِ الَّتي أَصْبحَتْ فاصِلَةً بَيْنهُ وبَينَ اللهِ الْقُدوسِ؟ فالْإِنْسانُ هُو الْمُعْتَدي، وهُو الْمُذْنبُ، وهُو الْمُتَمَرِّدُ، فَما هِيَ مَطالِيبُ هَذهِ الْمُصالَحَةِ؟ هَلْ هُناكَ أَمَلٌ لِلْمُصالَحَةِ؟ أَم أَنَّ اللهَ قَدْ تَخَلَّى عَنهُ إِلَى الْأَبدِ؟ يُخيَّل إِليَّ أَنَّ مِثلَ هَذا السُّؤَالِ الأَخِيرِ ظَلَّ يُدّوِّي في رَأْسِ آدمَ طِوالَ حَياتِهِ مَعَ العِلْمِ أَنَّ اللهَ قَدْ وَعدَ ضِمْنِيًّا أَنْ يُرْسلَ في الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الْمُخَلِّصَ الَّذي سَيَسحَقُ رَأْسَ الشَّيْطانِ. وفِي الْواقِعِ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَى رَحْمَتَهُ رَغْمَ شِدَّةِ سَخْطهِ على مَعْصِيَةِ آدَمَ وحَوَّاءَ عِندَما صَنعَ لَهُما مآزِرَ مِنْ جِلْدِ حَيوانٍ (رُبَّما مِنْ جِلْدِ كَبْشٍ مُمَاثِلٍ لِكَبْشِ إِبْراهيمَ) بَدَلَ أَوْراقِ التِّينِ الذَّابِلَةِ. إِنَّ مِنَ الْخْطأِ أَنْ نَظُنَّ َأَنَّ اللهَ قَدِ امْتَلأَ قَلْبُهُ بالْعَداوَةِ والْبَغْضاءِ لِلْإِنْسانِ مِنْ جَرّاءِ السُّقوطِ. صَحيحٌ أَنَّ الْخَطيئَةَ أَثارَتْ غَضَبَ اللهِ ولَكِنَّهُ في الوَقْتِ عَيْنهِ حَزِنَ علَى مَصيرِ وهَلاكِ تاجِ مَخْلوقاتِهِ الَّذي خَلَقهُ علَى صُورَتِهِ ومِثالِهِ إِلَّا أَنَّه لَمْ يَفْقُدْ حُبَّهُ لهُ قَطُّ، ودَليلُنَا السَّاطِعُ علَى ذَلكَ مَا وَرَدَ في إِنْجيلِ يوحنَّا 16:3 “لِأَنَّهُ هَكَذَا (أَيْ بِهَذَا الْمِقْدارِ) أَحَبَّ اللهُ العالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ...”.
بَيْدَ أَنَّ الْمُصالَحَةَ كانَتِ الْخُطْوةَ النِّهائِيَّةَ في عَمَليَّةِ التَّدْبيرِ الإِلَهي في خُطَّةِ خَلاصِ الْجِنْسِ البَشَريِّ. وتَتَأَلَّفُ هَذهِ الخُطَّةُ مِنْ أَرْبعِ مَراحِلَ هِيَ: التَّجَسُّدُ، والصَّليبُ الكفَّاري، والتَّبْريرُ، والمُصالَحَةُ. ويَرى الْلاهُوتي البَريطانِي جون سُتوتْ في مُؤَلَّفِهِ الرَّائِعِ صَليبُ الْمَسيحِ الَّذي قامَ بِتَرْجَمَتِهِ إِلى الْلُغةِ الْعَرَبِيَّةِ نَجيبُ جَرجُور وراجَعَهُ إِبْراهِيم عَبْدالْمَسيح، “أَنَّ الْمُصالَحَةَ والتَّبْريرَ مُتَوازِيانِ”. فَعِبَارَةُ: “بِمَا أَنَّنَا الْآنَ مُبَرَّرُونَ بِدَمِهِ” تَتَوازَنُ مَعَ عِبَارَةِ: إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنِا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ”، إلَّا أَنَّهُما “لَيْسَتَا مُتَماثِلَتَينِ” لَأنَّ التَّبْريرَ في عِرْفِهِ: “هُوَ وَقْفَتُنا الْقانونِيَّةُ أَمامَ قاضِينَا فِي الْمَحكمة”.
بَيْنَما الْمُصالَحَةُ: “فَهِيَ عِلاقَتُنا الشَّخْصيَّةُ مَعَ أَبينَا... الْمُصالَحَةُ، هِيَ نَتيجَةُ التَّبْريرِ وَثَمَرَتُهُ. فَتَمَتُّعنَا بالسَّلامِ مَعَ اللهِ، الَّذي هُو المُصالَحَةُ، رَهْنٌ بِتِبْريرِنا بالْإِيمانِ” (الرِّسَالَةُ إِلَى أَهْلِ رومِيَةَ 1:5).
ولَكِنْ قَبْلَ التَّبْريرِ لَمْ يَكُنْ بابُ التَّبَنِّي هَذا مُشَرَّعًا أَمَامَ الْخاطِئِ لِأَنَّ أَباهُ كانَ إِلَهَ هَذا الدَّهْرِ كَبَقِيَّةِ أَبْناءِ الظُّلْمةِ الزَّاحِفينَ في دَهَاليزِ الإِثْمِ. لَمْ يَكُنِ الْإِنْسانُ الخاطِئُ يَجْرُؤُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ بالْآبِ لأَنَّ بَصْمَةَ النِّعْمَةِ لَمْ يَكُنْ قدْ خُتِمَ بِها بَعدُ. كانَ هَذا الامْتِيازُ مِنْ نَصيبِ الَّذينَ قَبِلوا كَفَّارَةَ الْمَسيحِ وتَبَرَّروا بالنِّعْمةِ وتَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. وبِذَلكَ نَالوا التَّبَنِّي بالْمَسيحِ وَأَصْبَحوا وَرَثَةً لِلْمَلَكوتِ لَأَنَّ الآيَةَ تَقولَ:
“وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 12:1).
وأَضْحَى في إِمْكانِ الْمُتَبَنَّى الْمُثولُ بالْمَسيحِ في قُدْسِ أَقْداسِ الرَبِّ بِجُرْأَةٍ وثِقَةٍ (الرِّسالَةُ إِلى أَهْلِ أَفَسُسَ 12:3) في أَثْناءِ الصَّلاةِ المُنْفَردَةِ أَوِ الْجَماعِيَّةِ، أَوِ في خِلالِ التَّأَمُّلِ في كَلِمَةِ اللهِ المُقَدَّسَةِ، أّوْ حَتَّى فِي إِبّانِ التَّمَتُّعِ الخَاشِعِ بِرَوْعَةِ الطَّبيعَةِ الَّتي بَرَأَهَا خَالِقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ.
والآنَ مَنْ هُو صاحِبُ مُبادَرَةِ الْمُصالَحَةِ؟
ولَعَلَّ خَيرَ جَوابٍ يُمْكِنُنا أَنْ نَعْثُرَ عَليْهِ بَيْنَ طَيَّاتِ الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ مَا وَرَدَ في الرِّسالَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثوسَ 18:5-21:
“وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعْظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ”.
يُشيرُ ر. ڤ. ج. تاسْكَر في تَعْليقِهِ علَى هَذهِ الْآياتِ في تَفْسيرِهِ لهَذهِ الرِّسالَةِ أَنَّ كُلَّ مَا جَدَّ مِنْ تَغْيِيرٍ في حَياةِ الَّذينَ آمَنوا بِعَمَلِ الْمَسيحِ الْكَفَّاري، وكُلَّ مَا تَمِّ تَدْبِيرُهُ لِخَلاصِ الْجِنْسِ الْبَشِريِّ هُوَ مِنَ الله بِفِعْلِ مَا أَنْجَزهُ الْمَسيحُ على الصَّليبِ. أَيْ، إِنَّ تَبْريرَنا الَّذي أَدَّى إِلَى الْمُصالَحَةِ هُوَ مِنْ صُنْعِ اللهِ نَفْسِهِ وكانَ فيهِ الْمَسيحُ هُوَ الْوَسيطُ الَّذي كانَ مُشارِكًا في تَنْفيذِهِ. فاللهُ كانَ في الْمَسيحِ مُصالِحًا الْعالَمَ لنَفْسِهِ. لقدْ أَخَذَ هُوَ الْمُبادَرَةَ تَعْبيرًا عَنْ مَحَبَّتهِ الْفائِقَةِ لِلْإِنْسانِ، علَى الرَّغْمِ مِنْ غَضَبهِ علَى الْخَطيئَةِ. وفِي هَذهِ الْمُصالَحَةِ سَعى اللهُ أَنْ يُشَرِّعَ أَمامَ الْخُطاةِ طَريقَ الْخَلاصِ إِذْ دَعا الْمُؤْمِنينَ أَنْ يُذيعُوا بُشْرَى هَذهِ الْمُصالَحَةِ، وجَعلَ مِنْها خِدْمَةً مُقَدَّسةً لِأَنَّها تَسْتَهْدفُ إِنْقاذَ النُّفوسِ الْهالِكَةِ. وهَكَذا أَضْحَى الْمُؤْمِنونَ سُفَراءَ عَنِ الْمَسيحِ في نَشْرِ هَذهِ الرِّسالَةِ الَّتي ائْتُمِنوا عَليهَا وكَأَنَّ اللهَ نَفْسَهُ هُو الْمُتَكَلِّمُ بِهمْ.
كانَتْ تَعْتَلِجُ في قَلْبِ اللهِ الْقُدُّوسِ رُغْبَةٌ عَميقَةٌ جارِفَةٌ لاسْتِرْدادِ أَسْرى إِبْليسَ ومُصالَحَتِهِمْ لِنَفْسهِ شَرْطَ أَنْ يُعْلِنوا إِيمانَهُمْ بِكَفَّارَةِ ابْنِهِ الَّذي صارَ الذَّبيحَةَ الَّتي لا عَيْبَ فيهَا لِأَنَّها كانَتِ الْوَسيلَةَ الْوَحيدَةَ لِمُصالَحَةِ الْخُطاةِ مَعَ ذاتِهِ؛ وعِنْدَئِذٍ يَتَبَرَّرونَ في عَيْنَيِّ اللهِ فَيَمْحو صُكوكَ خَطاياهُمْ بِفَضْلِ بِرِّ الْمَسيحِ. وتُعْلِنُ هَذهِ الْآياتُ أَيْضًا أَنَّ الْمَسيحَ الْبارَّ الَّذي لَمْ يَعْرِفْ خَطيئَةً قدْ عُومِلَ وكَأَنَّهُ هُو الْخطيئَةُ مِنْ أَجْلِنا، هَذهِ الخَطيئَةُ الَّتي أَثارَتْ غَضَبَ اللهِ. وهَكَذا أَصْبحَ هُوَ الْبَديلُ الَّذي تَحَمَّلَ عَنَّا الدَّيْنونَةَ والْعُقوبَةَ الْلتَينِ هُما مِنْ شَأْنِ الْمُذْنِبِينَ. وفِي تَحَمُّلِهِ لهَذا الْعِقابِ الْبَدلِي أَرضى سُخْطَ اللهِ، وعَدالَةَ النَّاموسِ، وأَصْبحَ الإِنْسانُ الْمُؤْمِنُ مُبَرَّرًا في الْمَسيحِ.
هذِهِ الخَواصُّ أَوِ المُقَوِّماتُ المُتَرابِطَةُ والمُتَداخِلَةُ مَعًا: الْمَحبَّةُ الْباذِلَةُ الْمِعْطاءَةُ، والتَّضْحيَةُ حَتَّى مِنْ أَجْلِ الْعَدوِّ، والْقَداسَةُ في الْمَسيحِ، والْتبريرُ بفَضْلِ كَفَّارَتِهِ، والْمُصالَحَةُ الْمُدْهِشَةُ، هَذهِ كُلُّها لا تَجِدُها إِلَّا في الْمَسِيحِيَّةِ. وهِيَ فِي الواقِعِ الرَّاِهِنِ تَعجَزُ عنْها الطُّقوسُ والشَّعائِرُ والْمُمارَساتُ الدِّيِنَّيةُ التَّقْليدِيَّةُ الْمَوْروثَةُ الَّتِي لَا حَياةَ فِيها إِنَّما، مَرَّةً أُخرَى، هِيَ صَادِرَةٌ فَقطْ عَنْ “أَنَا” الْمَسيحِ السَّرْمَدِيَّةِ الحَياةِ. أَجَلْ، إِنَّها حَقًّا فِعْلُ حَياةٍ.

المجموعة: شباط (فبراير) 2022