بالحق ما أغربَ هذا الأمر! قلتُ في نفسي. إنَّ اسمَ المتكلم يومَ غدٍ الأحد - والمدعو إلى الكنيسة الأمريكية التي نحضر فيها الآن - ليس غريبًا على مسامعي.

لقد ذكّرني بأحد المُرسلين المعروفين ويدعى Don Richardson. ولهذا بحثت عنه في Google وإذا بي أفاجأُ بأنَّ المتكلم هو ابنُه Steven. وهنا عادت بي ذاكرتي للوراء إلى عقودٍ خَلَتْ. ففي العام 1984 وحين كنا أنا وزوجي نجهِّزُ أنفسَنا للذهاب إلى مونتي كارلو كمُرسَلين مع إذاعة حول العالم القسم العربي، دُعينا لحضور مؤتمر للإرساليات في شمالي كاليفورنيا في كنيسة Valley في Cupertino حيث كان (دان ريتشاردسون) الكنديُّ الجنسية المتكلِّمَ الرئيسي فيه.
وأذكر تمامًا كيف ترك كلامُه وكذا وقْعُ اختباراته المميَّزة، أثرًا عميقًا فينا. لهذا لم ولن أنسى ما شاركَنا به عندَ ذاك حتى هذا اليوم. وأذكر تمامًا أنَّني وزوجي اشترينا كتابَيْن له كان قد ألَّفهما خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من إقامته وسُكناه بين القبائل البدائية جدًا بعد أنْ وصل إليها في العام 1961مع زوجته كارول وطفله ستيفن ذي الأشهر الستة، قضياها معًا في خدمة قبائل الصاوي SAWI (آكلي لحوم البشر) هناك في وسط أدغالPapua - Indonesia والكتابان هما: (Peace Child أي، طفل السلام - وEternity In Their Hearts أي، الأبدية في قلوبهم). ولقد شرح في هَذَيْنِ الكتابين كيف استطاع أن يجعل الإنجيل في سياقِ أو (دائرة) الاستيعابِ والفهمِ لدى هذه القبائل. وليس هذا فحسب، بل قام هو وزوجته كارول بعملٍ دؤوب في ترجمة العهد الجديد من الكتاب المقدس إلى لغة (الصاوي) والتي أثمرتْ فيما بعد كثيرًا في إيصال البشارة السارة إلى قلوب تلك القبائل فقبِلَ الكثير منهم المسيح كمخلّص لهم.
وسرعانَ ما وجدتُ نفسي أتوجَّه إلى مكتبتنا لأتناولَ كتاب (طفل السلام). وحين فتحتُ الصفحة الأولى منه وجدتُها مؤرخةً في 11/17/1984. فأخذتُ الكتاب وقلت لزوجي: غدًا لسوف نُري كتاب الأب (دان) لابنه (ستيفن). وسنقول له بأنَّنا قابلنا والده واستمعنا له وترك كلامُه أثرًا كبيرًا في داخلنا. وهذا يا قارئي بالضبط ما حصل حين التقينا الابن ستيفن في اليوم التالي (الأحد). لكن لم ينتهِ الأمر هنا، بل هذه المرة وحين اشترينا كتاب الابن: (?Is The Commission Still Great)
أي، هل لا تزال المأمورية عظمى؟ وقّعه هو لنا وقال ضاحكًا: كان ينبغي على والدي أن يفعل ذلك أيضًا لكما.
نعم، لقد تبِع ستيفن خطوات أبيه المدعو من الله للوصول إلى هؤلاء الناس البدائيين والبعيدين عن أي نوع من الحضارة والإيمان، فأضحى مثلَه مُرسَلًا، وخدَم مع زوجته هو الآخَر لسنين عديدة في جنوب شرقي آسيا وفي أماكنَ صعبة للغاية قبل أن يصبح في منصب المسؤولية لإرسالية كبرى معروفة باسم Pioneers أي (الرائدون أو الرواد) ومركزها فلوريدا. وإبَّان سماعِه يتكلّم في ذلك الأحد، امتلأ قلبي فرَحًا خاصةً حين شارك عن موضوع كتابه (المأمورية العظمى وهل هي حقًا كذلك الآن؟) ومِن بين ما قاله هو أنَّ جميع المؤمنين هم مدعوّون للكرازة ببشارة الإنجيل، ولم تقتصرْ دعوةُ المسيح على التلاميذ فحسْب. وبيَّن أهمية هذه الدعوة لأنَّها تعكس خطةَ خلاصِ الله للبشرية جمعاء. وبها تتوضَّح السِّمةُ أو الفكرةُ الرئيسة في الكتاب المقدس بأكملِه، ألا وهي أنَّ الله الذي خلقَ الإنسان منحَه الفرصة إما أن يشكرَه على حبِّه من خلال طاعته له، أو أنْ يرفضَ ثقته به. لقد أعدَّ خطة الخلاص عن طريق دعوته لإبراهيم الخليل، ووعدِه له أنَّه بنسلِه أي بالمسيح ستتباركُ جميعُ قبائل وأمم الأرض. ودعم كلامه بهذه الآية من الرسالة إلى (غلاطية 8:3) حيث يقول الرسول بولس: "والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرِّر الأمم، سبق فبشَّر إبراهيم أنْ [فيك تتباركُ جميعُ الأمم.]" معنى هذا أنَّ الخلاص لم يقتصرْ على شعبٍ معين، بل هو إلى شعوب الأرض كافَّة. وعليه فإنَّ الرب يسوع وبعد صعوده إلى السماء أعطى المهمة لكلِّ مؤمن كيما يشتركَ في هذه الإرسالية العظمى. ومنحَه هذا الامتياز أن يشهدَ عنه، ويكرزَ باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. وفي الإنجيل بحسب لوقا (49:24) يخبر التلاميذ بألَّا يبرحوا من أورشليم حتى يُلبَسوا قوة من الأعالي. وكان يتكلم عن الروح القدس الذي سيرافقُهم في هذه الإرسالية العظمى وسوف لن يكونوا وحيدين. لأنَّ الروح القدس روحَ الحق، الروحَ المعزّي، سيكون معهم ولسوف يرشدُهم ويعلّمُهم ويذكّرُهم بكل ما قاله لهم. (يوحنا 26:14)
وتساءل المرسَل ستيفن قائلًا: تُرى ما هو أهم ما يجري الآن في عالم اليوم؟ هل تُراهُ انحدارُ الإنسان وبالتالي المجتمع؟ أم أنَّه طغيانُ السياسة على فكر البشر؟ أتراهُ العنف المنتشر؟ أم الشرُّ المستفحِل؟ هذه كلُّها نعرفها وموجودةٌ طبعًا. لكن دعني أخبرك بأنَّ العنوان الجديرَ بالذِّكر في الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز ينبغي أن يكون: "أن الإنجيل ينتشرُ في كلِّ العالم وإلى أقصى الأرض." والسؤال كيف ينتشر؟ من خلال الكنائس المُرسِلة في الماضي والحاضر والمستقبل، أمثال كنيستي هذه وأمثالَ المرسَلين الذين يطيعون ويذهبون حتى إلى الأماكن الصعبة والمرعِبة كما فعل والداي في القرن الماضي. وكما شهِدنا الآن حين صلَّينا اليوم من أجل إرسال شابة في العشرينات من عمرها إلى إحدى الدول المغلَقة في وجه الإنجيل. وكثيرون أمثال هذه الشابة يطيعون اليوم دعوة الله لهم في الخروج من دائرة الأمان التي يعيشون فيها، للوصول إلى أناس لم يسمعوا قطُّ عن خلاص الله في المسيح. لماذا؟ أليس لأنَّ الإنجيل "هو قوةُ الله للخلاص لكلِّ من يؤمن"؟ (رومية 1: 16ب)
وتابع ستيفن يقول عن نفسه: رافقتُ والديّ إلى الأدغال كطفلٍ صغير. ولكن حين ترك والداي القارب الصغير الذي أقلَّنا كعائلة إلى الشطّ، حَملني على ذراعه وأمسكَ بيده الأخرى يدَ أمي الشابة ليساعدها في الوصول إلى شاطئ الجزيرة الصغيرة حيث كان أربعُمئة شخصٍ من رجال القبائل المسلّحين بانتظارنا نحن الغرباء عنهم. ارتعبَت والدتي من المنظَر فالتفت والدي إليها وقال: لا يمكننا التراجع الآن يا حبيبتي فنحن ملتزمانِ بعهودنا ولهذا أتينا. وحين رأى الرجال أنَّ والدي يحمل طفلًا طرحوا أسلحتهم جانبًا لأنَّهم اعتبروا أنَّ هذا الضيف الزائر هو رجلُ سلام. فالطفل بالنسبة لهم رمزٌ للسلام. وبدأوا يحتفلون بمجيئنا، وسَكَنّا معهم وبينهم لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال متواصلة والموسيقى الصاخبة تملأ الأجواء أمام بيتنا الصغير المتواضع. وهناك مرَّت السنون وكبرْتُ وإخوتي مع قبائل الصاوي، وتعلَّم والداي الكثير عن عاداتهم وتقاليدهم. وأكثر ما شدَّ انتباه أبي هو بأنَّ القبيلة وحين تُبرِمُ عهدَ صُلْحٍ مع قبيلة عدوّة، تقدِّم طفلًا من أطفالها إلى القبيلة الأخرى علامةً على الصلح. فيعيش الطفل معها وكأنَّه واحدٌ من أطفالها. لذا يدْعون هذا الطفل (طفل سلام). وبناءً على هذا الاعتقاد السائد استطاع والدي أن يصل إليهم ببشارة الإنجيل. كيف؟ لقد استخدم هذه العادة المتَّبعة للمصالحة بين القبائل لكي يشرحَ لهم أنّ الله إلهَ هذا الكون العظيم وخالقَه قدَّم أيضًا ابنه الوحيد مصالِحًا به الإنسان مع الله. فصار طفلَ السلام واسمُه يسوع. وهكذا وُلِد كتابُ (طفل السلام).
ثم أضاف ستيفن يقول: هل تعلمون أنَّ عدد المؤمنين والكنائس في العالم اليوم يزداد بشكل خيالي؟ خذوا مثلًا عدد المؤمنين في أميركا اللاتينية فلقد ارتفع من 700 ألف في العام 1900 إلى 120 مليون في السبعينيات. وفي الصين التي ذهب إليها روبرت موريسون في العام 1807 وبشَّر فيها لمدة خمس وعشرين سنة لم يؤمن آنذاك سوى عشرة أشخاص بالمسيح اعتمدوا على يده. لكنَّه خلال تلك السنين عمل عملًا عظيمًا إذ ترجم الكتاب المقدس إلى لغتهم حتى غَدا الإنجيلُ مُتاحًا للصينين فآمَن مئاتُ الملايين منهم. ثم هل تعلمون مَن هي الكنيسة الأكثرُ انتشارًا ونموًا في العالم اليوم؟ إنّها الكنيسة الإيرانية. أجل، فمَن منَّا كان يظن أنَّ الله سيَستخدم وجود رئيس مثل (آية الله الخميني) لكي يجذبَ قلوب الإيرانيين إليه؟ والآن، هناك أكثر من ستّ كنائس إيرانية إنجيلية بسبب عمل المُرسلين الذين أتوا إلى إيران من كوريا الجنوبية. ونحن اليوم، نختبر أكبرَ حصادٍ روحيٍّ عرفَه العالم، لهذا نحتاج إلى مؤمنين منفتحي الفكر والقلب والذّهن لكي يشتركوا في هذه المأمورية العظمى، حتى يأتي المنتهى. فهل تتَّخذُ دورك في ذلك؟
أحبُّ دائمًا، تابع ستيفن يقول، أن أحملَ في جيبي قطعةً واحدة من لعبة Puzzle لأنَّها تذكّرني بأَنَّني صغير جدًا، ولكنَّني مهمٌّ جدًا لأنَّ اللوحة التي يرسمها الله في خطته للعالم لن تكتملَ بدونها. وثمَّ عليَّ ألَّا أضيّعَها لأنَّ قيمتها نفيسةٌ جدًا. وأخيرًا، أختم بهذه الكلمات التي دوَّنها لي والدي في بطاقة عيد ميلادي مرةً فكتب: ستيفن، حياتُكَ هي استراتيجيةُ الله تتكشَّف في التاريخ Your Life is a strategy of God unfolding in history فهل أنت مستعد أن يتباركَ العالمُ من خلالك؟ عندها تقول مع المرنم: "لكي يُعرفَ في الأرض طريقُكَ، وفي كلِّ الأمم خلاصُك." (مزمور 2:67)

المجموعة: آب (أغسطس) 2023