واحدة من الآيات التي يُساء فهمها ويُساء استخدامها في كنائس كثيرة هي: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي." (فيلبي 13:4)

يظنّ كثيرون أن هذا الوعد يَخصّ الإنجازات العظيمة وشفاء الأمراض بقوَّة الرَّبّ. وكذلك يَستخدِم كثيرون من الناس هذه الآية، للتحْفيز على النجاح في المدرسة أو الكُلِّيّة أو حتّى في الُمسابقات الرياضيّة وكذلك لشفاء الأمراض. لا يوجد أدنى شك، في مقدرة الرَّبّ على شفاء أمراضنا، وبالتأكيد كلّ إنجاز في الحياة يعود إلى القوة الجسديّة والروحيّة التي يمنَحها الرَّبّ لنا. يؤمن كلّ المسيحيّين أن الرَّبَّ قادرٌ على كلّ شيء، وأنه يعطي القوَّة والنعمة للمؤمنين بهِ وَسَط كلّ التجارب والضيقات. لكن الوعد الموجود في فيلبي 13:4 لا يَخصّ الإنجازات العظيمة، بل يَخصّ تَحمُّل الظروف الصعبة والتَكَيُّف معها بقوَّة المسيح، كما فعل بولس خادم الرب الأمين، مثالاً لنا، فهو وَعْدٌ للمؤمنين الذين يعيشون بأمانة لله.
كَتَبَ بولس الرسول الرسالة أهل فيلبي في سجنهِ الأول في روما وَسَط ظروفٍ صعبة. وموضوع رسالته كان "المشاركة بخدمة الإنجيل". يبدأ بولس الرسالة بالمشاركة بخدمة الإنجيل (5:1)، وينتهي بنفس الموضوع (15:4). تَظهر كلمة الإنجيل تسع مرات في هذه الرسالة. عندما نتشارك سوية في خدمة الإنجيل، سيكون فينا فرح المسيح كنتيجة لذلك العمل. نَغَمَة الرسالة هي الفرح وموضوعها هو الإنجيل. أحد أهداف كتابة هذه الرسالة هو تقديم رسالة شكر إلى أهل فيلبي على مساعدتهم المُكلفة إلى بولس الرسول وهو في سجن روما، وكذلك وهو في تسالونيكي. يُقدِّم بولس عِدّة مبادئ هامة لأهل فيلبي، عندما كَتَبَ لهم رسالة الشكر على عطاياهم له (فيلبي 10:4-١٩). ونتعلّم من هذا المقطع درسًا ثانويًّا، وهو ضرورة التعبير عن الشُكر والامتنان إلى الرَّبّ أولًا، ومن ثَم إلى المؤمنين عندما نستلم عطايا منهم. يُعبِّر الشُكر عن التقدير الذي في قلوبنا تجاه تضحيات المؤمنين لنا.
واجه بولس ظروفًا صعبة بينما كان في السجن، وأيضًا في بداية خدمته، منها مثلاً الاحتياجات المادية، فقد ذَكَر بولس كلمة احتياجات مرتين في (16:4، 19). وفي الحقيقة استخدم بولس في الأصل كلمة مختلفة، تعني "العَوَز"، أي الاحتياجات الضرورية للإنسان والتي بدونها لا يقدر أن يعيش (فيلبي 11:4)، - في ترجمة فاندايك استخدم الُمترجم هنا كلمة احتياج لكن الأصحّ هو العوز! عَبَّر بولس في 10:4-19 عن شُكره لهم بشكل معتدلٍ بدون أن يقع في خطأين:
أولًا، عَبَّر بولس عن شكره لهم بدون تقديم أي تلميح أو إلحاح على أنه يُريد المزيد من العطايا الماديّة منهم. لقد كان مكتفيًا بما لديه فيلبي 11:4.
ثانيًا، لم يكنْ يتخلّل شُكر بولس لأهل فيلبي أيَّ تذمُّرٍ أو تجاهلٍ تجاه ما قدّموه له. لقد قدَّم الشُكر والامتنان لهم دون أن يستجدي منهم المزيد من العطايا وكذلك دون تجاهلٍ لما قدّموه. والآن، وفي ضوء ما فهمنا، ما هو إذًا قَصْد بولس بهذا الوعد في فيلبي 13:4؟
في النص اليوناني، من الأفضل أن تُترجَم الآية على النحو التالي، "أَسْتَطِيعُ أن أواجه كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي." ليس القصد هو أنه يستطيع أن "يفعل" - وهو فعل إضافته الترجمة الإنكليزية - لكن يستطيع أن "يحْتمل" كلّ الظروف الصعبة في المسيح الذي يقوّيه. بالحق كذلك في الترجمة المُبسّطة هكذا: "أستطيع أن أواجه كلّ الظروف بالمسيح الذي يقويني". وكذلك بعض الترجمات الإنكليزية تُترجمها بهذه الطريقة، وهي الترجمة الصحيحة. لقد أراد بولس أن يُطمْئِن أهل فيلبي بأنه قادر على مواجهة الظروف الصعبة لأن المسيح يقوّيه. لقد تَعلَّم بولس الاكتفاء بالمسيح، وتدرّب على قُدرة العيش في الوفرة وفي العوز بقوّة المسيح. واختَبَرَ كيفيّة الفرح بالمسيح وهو في أصعب المواقف بالرغم من احتياجاته الكثيرة. "إنّ فرح المسيح وقوَّته وكفايته أقوى من أي ظروف نمُرّ بها". من خلال هذه الآيات التي يشرح فيها بولس اختباره، أراد أيضًا أن يُعلِّم أهل فيلبي الاتكال الكامل على الرَّبّ وهم في ظروفٍ أفضل بكثير من ظروفهِ. ذكَّر بولس سابقًا أهل فيلبي أن الرَّبّ يعمل في داخلهم (6:1)، ويكمل عمله معهم، وأيضًا سوف يملأ كلّ احتياج لهم في المسيح (19:4). إذًا هذه الآية (13:4) تُذكِّر أهل فيلبي بقوَّة الرَّبّ، الذي يُسدِّد احتياجاتهم ويعطيهم القوة لمواجهة أيّة ظروف صعبة من خلال مثال بولس واختباره وهو في السجن. ماذا نَتعلَّم نحن في القرن الحادي والعشرين من هذه الآية؟ هذا الوعد يُؤكِّد لنا على أن الرَّبّ سيُعطينا القوَّة الكافيّة لمواجهة ظروفنا الماديّة الصعبة وغيرها من ظروفٍ مختلفة. أنه وعدٌ يُشِعُّ بالرجاءِ مِن كلمة اللهِ، إلى كلّ مُحبَط ويائس من ظروفهِ الصعبة. هذا الوعد ليس للمؤمنين وهم في طين الحمأة والخطيَّة والكسل وعدم إطاعة الله. لكنه وعد للذين يطيعون الله - مِثْل بولس - ويعيشون بأمانةٍ لهُ.
عندما كُنت في كليّة اللاهوت واجهت ظروفًا ماديّة صعبة، لكن نعمة الرَّبّ لم تتركني، بل تمّ تسديد كلّ احتياجاتي بطريقة تُظهِر أمانة الرَّبّ لي ومحبته وصلاحه. وبعد تخرجي، اكتشفت أن الرَّبّ أعطاني أكثر مما احتجت، لأنه إله عظيم وقدير. لن أخاف من الظروف الصعبة القادمة، لأن الذي بدأ معي مُنذ البدايَة لن يتركني، وسيعطيني القوَّة على احتمال الظروف الصعبة القادمة، سواء كانت ظروفًا ماديّة أو صحيّة أو اجتماعيّة.
عزيزي القارئ، أدعوك أن تثق به اليوم!

المجموعة: آب (أغسطس) 2023