يمتلئ الكتاب المقدّس بقصص رائعة، مثل قصة مكافأة عامل أمين بطريقة معجزيّة. وما حدث هو أن مكان اجتماع بني الأنبياء للدراسة أصبح صغيرًا عليهم،

وكانوا بحاجة إلى بناء جديد. كان المكان في الجلجال، أي في منطقة غور نهر الأردن في فلسطين. وطلب بنو الأنبياء من النبي أليشع أن ينتقلوا إلى منطقة قريبة من النهر لبناء مكانٍ جديد لهم. ولبّى النبي أليشع طلبهم، وتوجَّه مع بني الأنبياء إلى مكان قريبٍ من ضفة نهر الأردن، وبدأوا يقطعون الخشب من أجل بناء مقرٍّ جديدٍ ليقيموا فيه. وفي أثناء العمل، وقع الرأس الحديدي للبلطة التي كان يستخدمها أحد بني الأنبياء في الماء، فصرخ إلى نبيِّ الله طالبًا العون، خصوصًا وأن البلطة لم تكن له، بل كانت مستعارة من آخرين. فطلب أليشع من التلميذ أن يُريه المكان الذي فيه وقع الحديد، وقطع النّبي أليشع عودًا وألقاه حيث وقع الحديد، فحدثت معجزة، إذ طفا الحديد. وعندها أمر أليشع التلميذ أن يمدّ يده ويتناول الحديد، ففعل التلميذ بحسب كلام النّبي، واستردَّ البلطة التي وقعت منه.
تبدأ القصّة بذكر بني الأنبياء، أي طلّاب اللّاهوت أو دارسي شريعة الله، وقولهم للنّبي أليشع: "هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ مُقِيمُونَ فِيهِ أَمَامَكَ ضَيِّقٌ عَلَيْنَا." يدلّ على عدّة أمور هي:
- وجود علاقة انفتاح وصراحة بين طلبة اللّاهوت ومعلّمهم..
- حرص الطّلبة على مكان إقامتهم.
- ازدياد عدد دارسي اللّاهوت. وهذا يعني أنّ نبي الله أليشع كان معلّمًا أمينًا وناجحًا في خدمته، وأدّت أمانته إلى ازدياد عدد تلاميذه، وبالتّالي ضيق مكان إقامتهم.
اقترح بنو الأنبياء حلًّا عمليًّا للمشكلة، فقالوا للنّبي أليشع: "فَلْنَذْهَبْ إِلَى الأُرْدُنِّ وَنَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ خَشَبَةً، وَنَعْمَلْ لأَنْفُسِنَا هُنَاكَ مَوْضِعًا لِنُقِيمَ فِيهِ."
وهذا دليل على تحمّل المسؤوليّة، وعدم الاكتفاء بتشخيص المشكلة وعرضها على معلّمهم. ودليلٌ على الاعتماد على النّفس. فلم يقترح بنو الأنبياء على النّبي أليشع بأن يكتب لملك البلاد، أو الأغنياء، أو القيادات الرّوحيّة، طالبًا منهم تبرعات مالية، أو أن يأتي فريق عمل ويتطوّع لبناء مكانٍ جديد لهم. ودليل على عدم التّأجيل، حيث أبدى بنو الأنبياء استعدادهم للعمل فورًا في بناء مقرٍّ جديدٍ لهم.
وجود برنامج عمل واضح، فقد اقترح طلّاب اللّاهوت خطّة عمل بسيطة لحل المشكلة: نذهب، ونأخذ، ونعمل. أي الذّهاب إلى نهر الأردن، لأن المنطقة كانت مليئة بالأشجار على مختلف أصنافها، وكذلك لأنّها كانت قريبة عليهم، حيث يمكنهم العمل في النّهار، والعودة في المساء للمبيت في مكان إقامتهم.
وتُبيِّن كلمات بني الأنبياء وجود روح الفريق والوحدة والانسجام، والاستعداد للعمل معًا.
تجاوب النّبي أليشع مع طلب بني الأنبياء بقوله لهم: "اذْهَبُوا."
حينئذٍ تجرّأ واحدٌ منهم وقال للنّبي: "اقْبَلْ وَاذْهَبْ مَعَ عَبِيدِكَ." فردّ عليه النّبي قائلًا: "إِنِّي أَذْهَبُ." وفعلًا قام وذهب معهم.
نلاحظ هنا أنّ صيغة الطّلب كانت بصورة أمر. فلم يقل الطّالب لمعلّمه: "من بعد إذنك، أو إذا تفضّلت، أو إذا سمحت، أو أرجوك، أو أتوسّل إليك." بل قال له بكلّ بساطة وتواضع: "اقْبَلْ وَاذْهَبْ مَعَ عَبِيدِكَ." وردّ عليه النّبي بكلّ هدوءٍ ولطف: "إِنِّي أَذْهَبُ."
قَبِل النّبي أليشع بصدرٍ رحب طلب أحد بني الأنبياء، وانطلق للعمل معهم. ولم تكن مشاركته معنويّة، بل عمليّة. فلم يقل: "سأصلّي من أجلكم، اذهبوا بعون الله"، بل ذهب معهم، وشاركهم في العمل.
وهكذا فإنّ تجاوب نبي الله أليشع مع اقتراح تلاميذه، وذهابه للعمل معهم، يبرهن بأنّ النّبي قد امتاز بصفاتٍ رائعة:
- الانفتاح لسماع اقتراحات الجماعة، والتّجاوب معها.
- التّواضع والتّعاون في التنفيذ والعمل.

وقوع مشكلة أثناء العمل
تقع الحوادث أثناء العمل، فمن يعمل يخطئ، ولكنّ المهم هو كيفيّة مواجهة الموقف، أي ما الّذي يجب عمله عند وقوع مشكلة؟ والّذي حدث هو أنّه "إِذْ كَانَ وَاحِدٌ يَقْطَعُ خَشَبَةً، وَقَعَ الْحَدِيدُ فِي الْمَاءِ." يشير الحديد الّذي وقع في الماء إلى البلطة الّتي كان يقطع بها الخشب من الشّجر. وواضحٌ بأنّ الشّجرة كانت على ضفاف نهر الأردن، وبأنّ البلطة وقعت في نهر الأردن المعروف بأنّه موحلٌ جدًّا، أي أن البلطة قد استقرّت في الوحل في أعماق النّهر.
تتّضح المشكلة أكثر عندما نقرأ ردّ فعل من أضاع الحديد، فقد "صَرَخَ وَقَالَ: آهِ يَا سَيِّدِي! لأَنَّهُ عَارِيَةٌ." صرخ الرّجل طالبًا العون من النّبي أليشع، وأخبره بأنّه ليس صاحب البلطة، ولكنها قد استعارها من غيره. ويدلُّ صراخ الرّجل على أمانته من جهة، كما يدّل على أنه كان فقيرًا ولا يستطيع شراء بلطة جديدة، أو دفع ثمنها لصاحبها.
الاستعارة من الآخرين أمر معروف، وليس فيه عيب، ولكن علينا أن نحافظ على أملاك الآخرين أكثر من أملاكنا. وعلينا كبشرٍ أن نتذكّر دائمًا بأنّ كل ما لدينا هو أمانة من الله، ونحن علينا أن نكون وكلاء صالحين أمام الله.

حل المشكلة بمعجزة سماويّة
استجاب نبيّ الله أليشع لصراخ الرّجل وسأله: "أَيْنَ سَقَطَ؟ فقد أراد النّبي أن يعرف بالضّبط المكان الّذي وقع فيه الحديد قبل القيام بأيّة خطوة عمليّة. واستجاب الرّجل لسؤال النّبي "فَأَرَاهُ الْمَوْضِعَ". وبعد معرفة مكان وقوع الحديد، نقرأ أنّ النّبي أليشع: "قَطَعَ عُودًا وَأَلْقَاهُ هُنَاكَ".
رمى النّبي أليشع العود، ونقرأ في كلمة الله بعد ذلك مباشرة: "فَطَفَا الْحَدِيدُ."
يقف الإنسان مذهولًا أمام قدرة الله ومجده وسلطانه وعمله. فالله قادر على كل شيء، ولا يعسر عليه أمر.
وضع الله قوانين طبيعيّة لتتحكّم في حركة وعمل كل ما في الكون، لذلك فهو قادرٌ على تجاوزها من أجل خدمة كلّ من يؤمن به.
لقد شقّ الله مياه البحر الأحمر، وسار الشعب القديم وسط المياه. وهو الّذي جعل الحديد يطفو فوق المياه. وسار على وجه المياه أيّام تجسّده في شخص الرّب يسوع. فالرّب إلهنا حيٌّ، لم ولن يتغيّر، وهو إله المعجزات في الماضي والحاضر والمستقبل.
عمل الله معجزة عظيمة على يد نبيّه أليشع لكي ينقذ الرّجل العامل الأمين من محنته. فلم تكن المعجزة مجرّد عرضٍ للبرهنة على قدرة الله في عمل المعجزات، بل كانت استجابة صراخ رجل طلب العون من نبيّ الله، واستجاب الله لطلبه بمعجزة خارقة لقوانين الطّبيعة.
نقرأ أنّه بعد أن طفا الحديد، قال النّبي أليشع للرّجل: "ارْفَعْهُ لِنَفْسِكَ." وبهذا الطّلب، أراد النّبي أن يشارك الرّجل في حلّ المشكلة، وألّا يتّكل بشكل كاملٍ على النّبي، بل أن يقوم بالعمل الّذي يقدر عليه، وهو أن يتناول بلطة الحديد بيده من سطح الماء. وفعلًا استجاب الرّجل لطلب النّبي "فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ." وهكذا عاد السّلام إلى قلب الرّجل في استعادة البلطة المستعارة الّتي فقدها خلال العمل، وظهر مجد الله بقوّة أمام كلّ بني الأنبياء المشاركين في تقطيع الخشب وبناء مقرّ إقامتهم الجديد.
يرمز ثقل الحديد لثقل الخطيّة في حياتنا. ويرمز الوحل في قاع الماء لمستنقع حياة العالم ومتاعبها. والّذي حدث هو أن عودًا خشبيًّا رفع الحديد من الماء، والعود يرمز لصليب ربِّ المجد يسوع. فلا خلاصَ ولا غفرانَ للخطايا إلّا بسفك دم الرّب يسوع على عود الصّليب. آمين.

المجموعة: آب (أغسطس) 2023