جاءَت وَصِيَّةُ بُولُس للفِيلبِّيِّين بأن يفرَحُوا، في وسطِ ظُروفٍ مُعاكِسَة تمامًا للفَرح من النَّاحِيَة البَشَريَّة:

وذلكَ بِسَبَبِ النَّبذِ والاضطهاد حتَّى خَطَر المَوت الذي كانَ يَلقاهُ كُلُّ من كانَ يُؤمِنُ بالمسيحِ آنذاك. وهذا تمامًا ما حدَثَ معَ بُولُس في أوَّلِ مرَّةٍ دخلَ إلى فيلبِّي، ولم يُنقِذْهُ الرَّبُّ إلا بأُعجُوبَة. قد يَقُولُ قائِلٌ: إن قالَ بُولُس افرَحُوا، فما ذلكَ إلا لأنَّ الرَّبَّ أنقَذَهُ دائمًا بمُعجزاتٍ.
ولكنَّ الحقيقَةَ هي أنَّهُ عندما كانَ قابِعًا في السِّجنِ، وكانت رجلاهُ مُقَيَّدَتانِ إلى المقطَرَة، كانَ يُرنِّمُ فرحًا وابتهاجًا معَ سيلا. لقد كانَ ينبَعُ فَرَحُ بُولُس من مُعطَياتٍ سماوِيَّة وإلهيَّة لا تخضَعُ لِتَقَلُّباتِ الظُّروف البَشريَّة الدُّنيَوِيَّة. ففي هذا الأصحاحِ المُفعَم بالمَعاني، يُخبِرُنا بُولُس، كما أخبَرَ الفِيلبِّيين، بأنَّ فرَحَهُ كانَ نابِعًا من أُمُورٍ كالتَّاليَة:

1- اعتمد معيارًا آخر لقياس القيم

لأنَّنا أصبَحنا نعبُدُ اللهَ بالرُّوحِ ولا نَتَّكِل على الجَسد: وهُوَ هُنا يُعَدِّدُ مُؤَهِّلاتِهِ في الجَسد، التي كانَ يُمكِنُ أن ينبَعَ منها فَرحٌ مُؤَقَّتٌ مُتَقَلِّب: كَونَهُ ينتَمي بالوِلادَةِ والخِتانِ إلى سبطِ بنيامين، وكونَهُ فَرِّيسيًّا وعالِمًا بالنَّامُوس. "لكن ما كانَ لي رِبحًا، فهذا قد حَسِبتُهُ من أجلِ المسيحِ خسارَةً." عندما يتغيَّرُ مِعيارُ القِيَم، يُصبِحُ مُمكِنًا للإنسانِ أن يفرَحَ عندما يُريدُهُ الجَميعُ أن يكُونَ حَزينًا، وسيُصدَمُونَ أن يرَونَهُ يحزَنُ عندما يُريدُونَهُ أن يكُونَ فَرِحًا.
حدَثَ في تاريخِ هُولندا أنَّ ثَمَنَ بَصَلِ أزهار التُّوليب صارَ يَفُوقُ ثمنَ الذَّهَب. وذاتَ مَرَّةٍ فَرِحَ قُبطانُ سَفينَةٍ مُحَمَّلَةٍ بها عندما قَدَّمَ لهُ طَبَّاخُ سَفينتِهِ بَصلَةً كَبيرَةً معَ طعامِهِ، ولكنَّهُ سُرعانَ ما ناحَ عندما عَلِمَ أنَّ الطَّبَّاخَ أخطأَ وأعطاهُ بَصلَةَ التُّوليب، التي كانَت تُساوِي بِقيمَتِها تَعَبَ سنين.

2- اكتشف هدفًا جديرًا يحيا من أجله

هُناكَ أُناسٌ ينتَحِرُونَ عندما لا يَعُودُونَ يَجِدُونَ من يحيَونَ من أجلِهِ. والأسوأُ من هذا، هُوَ أنَّ الأكثَريَّةَ السَّاحِقَة منَ النَّاس يَعيشُونَ من أجلِ أهدافٍ رَخيصَةٍ مُنحَطَّةٍ، مهما وضَعُوها في قَوالِبَ حَضارِيَّة لتزيينِها وتجميلها. أمَّا بُولُس، وبعدَ أن اختَبَرَ كُلَّ شَيءٍ، تمسَّكَ بالحَسن، لا بَل بالأحسَن، وتَخَلَّى عن كُلِّ شَيءٍ لكَي يربَحَ المَسيح، ووضعَ هدَفًا روحيًّا نصبَ عينيهِ: "لأعرِفَهُ، وقُوَّةَ قِيامَتِهِ، وشَرِكَةَ آلامِهِ، مُتَشَبِّهًا بمَوتِهِ، لَعَلِّي أبلُغُ إلى قِيامَةِ الأموَات... أسعَى لَعَلِّي أُدرِكُ الذي لأجلِهِ أدرَكَني أيضًا المَسيحُ يَسُوعُ." أي أنَّهُ كانَ يُفتِّشُ عن الدَّافِع الكَامِن وراءَ الفِداء، ألا وهُوَ محبَّة اللهِ الأزَليَّة للإنسانِ السَّاقِط الذي سبقَ ونفخَ فيهِ اللهُ نسمَةَ الحياة. ولكن كيفَ يسعَى بُولُس نحوَ تحقيقِ هدَفِهِ الأساسي في الحياة، الذي هُوَ معرِفَة المسيح حقَّ المعرفَة، والتي تُؤدِّي إلى فهمِ قِيامَةِ الأموات؟ باستِكشافِ قُوَّةِ قِيامَةِ المسيح، وتَحَسُّسِ شَرِكَةِ آلامِهِ، والتَّشَبُّهِ بمَوتِهِ. هذه الأهدافُ السَّامِيَةُ التي وضعَها بُولُس الرَّسُول نصبَ عينيهِ، هي أفضَلُ تفسيرِ لعِبارَة: التَّلَذُّذ بالرَّبِّ، والتي تُؤدِّي حتمًا إلى الفَرَح الرُّوحِيَّ بالرَّبّ. والتِّقَنِيَّةُ التي اعتَمَدَها بُولُس لتَحقيقِ هذا الهَدف السَّامِي، بِدُونِ أن يتَشَتَّتَ تركِيزُهُ الرُّوحيُّ، هُوَ بأن يفعَلَ شَيئًا واحِدًا: ينسى ما هُوَ وراء ويمتَدَّ إلى ما هُوَ قُدَّام. وفي هذه الخُطواتِ الثَّلاث حِكَمٌ لا ينبَغي أن تَفُوتَ أيَّ واحِدٍ منَّا. فيا لَيتَنا نتذكَّرُ أنَّنا مَوجُودُونَ هُنا لِنَفعَلَ شَيئًا واحدًا. ويا لَيتَنا نصدُقُ في تَوبَتِنا ورُجُوعِنا للهِ بأن ننسَى ما هُوَ وراء، ونتجرَّأُ في إيمانِنا أن نمتَدَّ إلى ما هُوَ قُدَّام، نَحوَ جَعالَةِ دَعوَة اللهِ العُليا في المسيح يسُوع، في وقتٍ يتنافَسُ فيهِ العالمُ على ميدالِيَّاتٍ زائِفة.

3- أدرك يقينيَّة تغيير جسده السّاقط

كَيفَ تجَرَّأََ بُولُس في بِدايَةِ المَقطَعِ الأخيرِ من هذا الأصحاح، أن يَحُضَّ الفِيلبِّيِّينَ على أن يتمثَّلُوا بهِ وبغَيرِهِ من قادَةِ الكنيسَةِ في فيلبِّي؟ كيفَ يتجرَّأُ بأن يطلُبَ منهُم ذلكَ، وهُوَ الذي ذكرَ لهُم مُباشَرَةً بعدَ هذه الدَّعوة الجريئة بأن كَثيرينَ من الذين تظاهَرُوا بالسَّيرِ معَ المسيح، سُرعانَ ما انتَهَوا ليُصبِحُوا "أعداءَ صليبِ المسيح، الذين نهايَتُهُم الهَلاكُ، الذين إلهُهُم بَطنُهُم، ومجدُهُم في خِزيِهم، الذين يفتَكِرُونَ في الأرضِيَّات." وكيفَ تجرَّأَ بُولُس أن يدعُوَ المُؤمنينَ للتَّشَبُّهِ بهِ، وهُوَ الذي عانَى من شَوكَةٍ في الجَسَد، وأقرَّ بِضَعفِهِ الجَسَدي أكثَرَ من مَرَّة؟ لقد تجرَّأَ بدعوتِهِم للتَّشَبُّهِ بهِ، لأنَّهُ وضعَ ضعفَهُ تحتَ نعمَةِ اللهِ، وأدركَ أنَّ قُوَّةِ اللهِ تكمُلُ في ضَعفِهِ، وتجرَّأَ على ذلكَ لأنَّهُ بينما كانَ السَّاقِطُونَ يتفكَّرُونَ في الأرضِيَّاتِ، كانَت سيرَتُهُ هُوَ في السماوِيَّاتِ، مُنتَظِرًا منها بِشَوقٍ مُخَلِّصًا هُوَ المسيحُ الرَّبُّ. وبُولُس هذا، الذي قالَ مرَّةً: "وَيحي أنا الإنسانُ الشَّقِي! من يُنقِذُني من جَسَدِ هذا المَوت؟" ها هُوَ الآن يُعلِنُ إمساكَهُ بِسِرِّ التَّغييرِ النَّهائي في الأبديَّة، قائلًا: "الذي سَيُغَيِّرُ شِكلَ جسدِ تواضُعِنا لِيَكُونَ على صُورَةِ جَسَدِ مجِدِهِ، بِحَسَبِ عملِ استِطاعَتِهِ أن يُخضِعَ لِنَفسِهِ كُلَّ شَيء." فهذا الجَسَدُ الذي يَشتَهي ضِدَّ الرُّوح، والذي تشتَهي الرُّوحُ ضِدَّهُ، فيُقاوِمُ أحَدُهُما الآخر حتَّى نفعَلُ ما لا نُريدُ، هذا الجَسدُ سوفَ يتغيَّرُ يومًا ما ليَكُونَ على صُورَةِ مَجدِ المسيح، وسيُخضَعُ للقادِرِ على كُلِّ شَيء. فإن كانَتِ الحَربُّ الرُّوحِيَّةُ معَ الأنا هي عائِقُ الفَرَحِ الرُّوحِيِّ في قُلوبِنا، يَقُولُ بُولُس لنا في خاتِمة فيلبِّي3 افرَحُوا لأنَّكُم ستَتَغَيَّرُونَ، وأحِبَّاؤُكُم المُؤمنون سيَتَغَيَّرُونَ. لِهذا افرَحُوا: فالفَرَحُ يُبَدِّدُ الخِلافات بَينَ الإخوَة. والفَرَحُ يُساعِدُ على تَحَمُّلِ صُعُوباتِ الحَياة. والفَرَحُ يَشِعُّ برُوحِ السَّلام. والفَرَحُ يَحُثُّ صاحِبَهُ على الِقيامِ بأعمالٍ عظيمة بِجرأَة. والفَرَحُ يَبُثُّ رُوحَ الصَّلاح في مُحيطِهِ. والفَرَحُ مُعْدٍ، لأنَّ الجميعَ يُحَبِّذُونَ أن تُصيبَهُم عدواهُ. والفَرَحُ مأمُورٌ بهِ، ولَيسَ مُجَرَّدَ خَيارٍ، لأنَّهُ يجعَلُنا مثلَ الله، ولأنَّهُ لصالِحِنا ولِصالِحِ الآخرين. والفَرَحُ دائِرَتُهُ المُقَدَّسَة هي "في الرَّبِّ." فعِندَما لا نستطيعُ أن نفرَحَ بأيِّ أمرٍ آخر، نستطيعُ أن نفرَحَ بالرَّبّ. والفَرَحُ مَوضُوعُهُ ما هُوَ "في الرَّبِّ": فنحنُ نفرَحُ بالآبِ، وبالابنِ، وبالرُّوحِ القُدُس. ونحنُ نفرَحُ بِوِلادَةِ الرَّبِ يسُوع، وبموتهِ وبِقِيامَتِهِ. وليسَ بِأُمُورِ هذا العالم الزَّمَنِيَّة، والسِّياسِيَّة، والمالِيَّة، والأنانِيَّة، ولا في نجاحاتِنا الشَّخصِيَّة، ولا حَتَّى في إنجازاتِنا الدِّينيَّة. "ولكن لا تَفرَحُوا بهذا: أنَّ الأرواحَ تخضَعُ لكُم، بل افرَحُوا بالحَرِيِّ أنَّ أسماءَكُم كُتِبَت في السَّماواتِ." (لوقا 20:10)
إن دَعوَةُ بُولُس للفِيلبِّيِّينَ إلى الفَرح هي تَعبيرٌ عن محبَّتِهِ لهُم، ورَغبَتِهِ بأن يُشارِكُوهُ فَرَحَهُ. وتَكرارُ بُولُس لدعوتِهِ لهُم ليَفرَحُوا في الرَّبِّ، ما هُوَ إلا تعبيرٌ عن صُعُوبَةِ الأمر وعن حاجَتِنا للطَّاعَةِ بالفَرح. ودَعوَةُ بُولُس الفيلبِّيِّين للفَرح يعني أنَّهُ أمرٌ مُمكِن وهي أيضًا تَذكِيرٌ بأنَّهُم مهما نَسَوا، عليهم ألَّا ينسُوا أن يفرَحُوا...
تُرينا رِسالَةُ فيلبِّي أنَّ بُولُس فَرِحَ في الصَّلاةِ لأجلِ الفِيلبِّيين (4:1)، وفَرحَ بأنَّ المسيحَ يُكرَزُ بهِ (18:1)، وأرادَ أن يعيشَ حياةً أطوَلَ ليجعَلَ الكنيسةَ تفرَحُ (25:1)، وبأنَّ فرَحَهُ يُتَمَّمُ عندما يفتَكِرُ المُؤمنُونَ فكرًا واحِدًا (2:2)، وبِكَونِهِ يفرحُ بأنَّهُ لم يسعَ ولم يتعَبْ باطِلًا وبأنَّهُ ينسَكِبُ على ذَبيحَةِ إيمانِ الفِيلبِّيِّين (16:2-17)، وأرادَ أن يختُمَ أقوالَهُ ويُودِّعَ المُؤمنينَ بدعوَتِهِم للفَرح (1:3)، وهُوَ يدعُو المُؤمنينَ الذين رَبِحهُم للإيمانِ بالمسيح بأنَّهُم سُرُورهُ وإكليلهُ (1:4)، وأنَّهُ فرِحَ باعتِناءِ الفِيلبِّيِّينَ بهِ (10:4).
عندما نُفِيَ نابليون بُونابَارت إلى جَزيرَة إلبَا، قالَ: UBICUNQUE FELIX، مُصِرًّا بِذلكَ بأنًّهُ سيَكُونُ "فَرِحًا في أيِّ مَكان"، عِلمًا أنَّهُ لاقى حتفَهُ في تلكَ الجَزيرة. أمَّا الذي يَحِقُّ لهُ أن يَقُولَ مثلَ هذا الأمر، فهُوَ المُؤمن، لأنَّ الرَّبَّ يَقدِرُ أن يَكُونَ معَهُ في كُلِّ زَمانٍ ومكان! مثلما اختبره يُوسُف في سِجن فُوطيفار... ودانيال في جُبِّ الأُسُود... وبُولُس وسيلا في سجنِ فِيلبِّي... وقال حَبَقُّوق في وسط المَجاعَةِ:

"فمَعَ أنَّهُ لا يُزهِرُ التِّين، ولا يَكُونُ حَملٌ في الكُرُوم. يَكذِبُ عمَلُ الزَّيتُونَة، والحُقُولُ لا تَصنَعُ طَعامًا. ينقَطِعُ الغَنَمُ منَ الحَظيرة، ولا بَقَرَ في المَذاوِد، فإنِّي أبتَهِجُ بالرَّبِّ وأفرَحُ بإلهِ خلاصِي. الرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي ويجعَلُ قَدَمَيَّ كالأيائِلِ، ويُمَشِّينِي على مُرتَفَعاتِي." (حَبَقُّوق 17:3-19)

المجموعة: نيسان (إبريل) 2023