من هو يسوع الذي يُدعى المسيح؟ هذا سؤال نواجهه كثيرًا في مناقشاتنا وبحوثنا، في دراساتنا اللاهوتية وفي تأملاتنا.

فمن الواجهة الإنسانية هو إنسان كامل، ومن الوجهة الإلهية إله كامل. لكن هذا لا يكفينا! لأن أكثر المشاكل التي تواكبنا، هي نتيجة بحثنا في هاتين الوجهتين كلٌّ على حدة؛ مما يجرّ علينا كثيرًا من التقريعات، لذلك يجب أن نعلم أن يسوع هو الإله الإنسان. وليكن هذا أساس بحثنا دائمًا ومبدأ لاهوتنا المسيحي باستمرار.
بكى يسوع! قبلة أنظار السماء، مشتهى الأمم، حبيب قلب الآب، مرتجى الشعوب، موضوع الإيمان. يا له من أمر مثير للغاية، فالدموع ليست قيمتها في كثرتها، بل في معدن مصدرها وقالبها. وبقدر سموّ الشخصية الباكية يتسامى ثمنها. وما يخبرنا به البشيرون عن بكاء يسوع ما هو إلا صورة تجلّي مشاعر يسوع الإنسانية.

1- كان بكاؤه مظهرًا لمحبته الكاملة (يوحنا 35:11) وهنا تبدأ العبرة الأولى تراق، فعندما رأى ربنا يسوع المسيح الجموع تبكي، ومريم تنتحب، ومرثا تولول، والتمنيات تتدفّق من فم الأختين بأسى، "بكى يسوع" الذي قلبه ينبض بالحب الكامل الأقدس.
إن التاريخ البشري لم يدرك معنى المحبة كما أعلنها الناصري، بل هو – أي يسوع – المحبة المتجسّدة "الذي إذ أحبّ خاصته... أحبّهم إلى المنتهى"؛ فقد عاش معهم، جالسهم، شاركهم أفراحهم وأتراحهم، شفى مرضاهم، رثى لأنينهم، بكى مصائبهم وشاطرهم بقلبه الحنون.
فمرة يرى أرملة نايين تندب حظها، لفقدان وحيدها، فيتحنّن وبكلمة يقطع قيود الموت عن ابنها، وبذلك يعزّي قلبها ويبدّد مرارة نفسها.
ومرة أخرى يشاهد الجموع في ضنك شديد فينفطر قلبه عليهم ويوافيهم بحاجتهم لئلا يخوروا في الطريق. وهذا جزء من كلّ.
فما أرقّ قلبه! وما أنبل عواطفه وإحساساته! فهو الذي جمّل المحبة وصبغها بطابع الحياة السرمدية؛ فغدت معيار التفاني في خدمة المجتمع، ومقياس النضج الروحي. فالمسيحية مجالها متّسع اتساع مجال الحياة.
فهل محبتك حياتية أم كلامية؟ عملية أم نظرية؟ هنا نفترق عن طريق يسوع في طرق العالم الشائكة وفي سبل الردى الخاطئة؛ لكن من مَعين محبّته الفيّاض، يمكنه أن يبلور كيانك، فتسمو محبتك، ويرتقي حنانك، وتتدفّق أعمال الرحمة من حياتك، فالرحمة ليست سوى قلب يواسي، ومشاعر ترثي، ودمعة تهوي، ومروءة تسدى في صدق وإخلاص في الروح القدس. وهذا ما كانه يسوع، الذي غلت المسؤولية في قلبه كبركان، حتى أننا نراه في بستان جثسيماني يقطع صمت المتأمّل بأنينه المفجع؛ حيث انفلتت دموعه من عقالها، وبالحري تحوّلت خلايا جسمه إلى أعين دامعة بعرق ينزف كقطرات دم.
فلنتسربل بالمحبة ولنلبسها فوق الكل، طالبين من رب المحبة أن يملأنا بروح المحبة، الروح القدس، فنجدُّ في أثر الضال حتى نجده، ولا تهدأ فينا الحميّة حتى نرى الرب يضمّ إلى الكنيسة كل يوم الذين يخلصون، لأنه يجب أن نحبّ ليس بالكلام واللسان بل بالعمل والحق. فهذا بولس يقول لأساقفة أفسس ما يثير العجب: "اسهروا، متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا، لم أفترْ عن أن أنذر بدموع كل واحد." وما هذا إلا قبس من محبة السيد التي هبّت نسماتها بأريج الغيرة على حياته، فتحوّل اهتمامه لإسعاد الآخرين، ولامتداد ملكوت الله على أساس السعي لتمجيد المسيح. "فقط عيشوا كما يحقّ لإنجيل المسيح" الذي ترك لنا مثالاً لنتبع خطواته.

2- كانت دموع يسوع نتيجة لغيرته المتفجّرة (لوقا 41:19) بينما كان المسيح في طريقه إلى أورشليم، في مهرجانه العظيم بين التسبيحات المتوالية والهتافات العالية... بكى! وهنا يحقّ لنا أن نسأله: ألم يشغل أفكارك يا يسوع جمال المدينة الباهر والهيكل الساحر؟ ألم تلهك يا سيدي تهاليل الشعب الشجية وترنيماته العذبة؟ ألم تؤخَذ بحماس الشعب والتفافهم حولك؟ كيف تبكي في يوم عيدك؟ وكيف ترثي في آونة النصر؟ كيف تدمع عيناك عبرات منهمرة في ساعة الابتهاج؟
نعم! إن كل الأمور لم تثنه عما يختلج بين ضلوعه من جهة النفوس التي احتدمت غيرته في أحشائه من جهتها، والتهبت شعلتها، فاندلعت نيرانها بدموع غزيرة من مآقيها بسبب جهل النفوس ونهايتها المظلمة المريرة.
وما هي الدموع؟ إنها قمة الشجون الثائرة وعبير الزفرات المكبوتة، وامتداد التأثير العاطفي ولباس المشاعر المجروحة. فقد عاش يسوع كابن الإنسان بين البشر؛ فشفق عليهم، لأنه اشترك معهم في اللحم والدم، لذا أحزانهم حملها، وأوجاعهم تحمّلها، وخطاياهم رفعها. فجهلهم أتعبه، وشرهم أضناه، وتعصبهم أعياه، وسيرهم ومصيرهم المغاير لمشيئة الله أدماه، لكنه أحبهم. ليس فقط المحبة الجسدية أو المحبة الودية كمحبة الأب لابنه بل أيضًا الاعتبار الزائد نحو الآخرين بغضّ النظر عن استحقاقهم أو عدمه. وهنا تضع النعمة يدها في يد المحبة، لأن النعمة هي فضل الله وخطوته التي لا يستحّقها البشر.
لم يكن المسيح ممثِّلاً على مسرح فلسطين، بل بالفعل أظهر المحبة في ثوبها الحقيقي، الذي اكتسى به في طبيعته، وسبكها في قلبه، فأطاع حتى الموت موت الصليب ليحرّر أسرى الذنوب والآثام، ومعتقلي إبليس والخطية. فيا من تهت في وادي الهلاك، يسوع بكى لأجلك وما إهراق دمه على الصليب إلا منفذًا للغيرة المتكتّلة التي حصرته ليخلّصك من هلاك محقَّق.
لقد بكى يسوع لأجلك! الذي أمامه شبع سرور، لكي يكثّر لك أفراحًا بغنى، فرسالته رسالة الفرح وبشارة البهجة. واعلم أن كل دمعة من دموع التوبة ستكون بمثابة جوهرة ترصع تاجك في السماء؛ فتعال إلى من دعا وقال: "أنا أريحكم" فهو لجروح آلامك نِعمَ بلسمٍ، ولقروح آثامك خير شافٍ، ولفساد آدابك الطبيب الوحيد.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2023