تُرى ماذا يخطرُ ببالك حين تقرأُ هذا العنوان: "القاتل الصامت"؟ أيمكنُ أن يكونَ فيروس الكوفيد-19 المخيف، أم هو

مرض السرطان الخبيث مثلًا، الذي يقضي على الكثيرين في أيامنا هذه؟ أم إنَّه ارتفاعُ الضغط المفاجئ؟ من الممكن أن ينطبقَ العنوان على كل ما ذكرْتُ. لكن ليس هذا ما أعنيه. لأنَّ "القاتل الصامت" كما أسماهُ البعض هو موجودٌ هنا بينَنا، ويسري في المجتمع ويستفحلُ بين أفراد العائلة الواحدة وكذا ضمن عائلة الكنيسة أيضًا مع الأسف. إنَّه "عدم الغـفران"، وهو نوعٌ آخر من أنواع السرطانات التي تتحكَّم بالإنسان وتسيطر عليه فيقع في حبائلِه وسرعان ما يسقطُ صَريعًا بسببه.
في إحدى الرسائل الإلكترونية التي وصلتني، وردَتْ قصة حقيقية مختصرة جدًا في هذا المنحى بالذات، أي عن "عدم الغفران" وهي قصة إِليزابيث باريت براونينغ Elizabeth Barrett Browning التي قمتُ فيما بعد، بالبحث والاستقصاء عن تفاصيلها بنفسي عبرَ الإنترنيت. كانت إليزابيث تُعتبر من أهم وأشهر الشعراء في عصر الملكة فيكتوريا في إنكلترا. إذ بدأتْ في كتابة الشعر وهي بعد في السنة الرابعة من عمرها. وبعدَ ذلك قامت عائلتها بتجميع هذه الأشعار على مرّ السنين في كتابٍ قيّم خاص بها. وفي العام 1846 نشأت علاقةُ صداقةٍ حميمة بينها وبين الشاعر والموسيقي الإنكليزي روبرت براونينغ Robert Browning ما لبثَتْ أنْ تحوَّلتْ إلى حبٍّ جارف، حتى إنَّ الرسائل التي تبادلاها خلال سنة من تعارُفهما بلغتْ أكثر من 575 رسالة. ومن بعدها قادهُما هذا الحبُّ الكبير إلى الزواج في إنكلترا سرًّا بسبب اعتراض والدها على هذا الزواج. ومن ثمَّ انتقلا ليعيشا في مدينة فلورنس في إيطاليا على أمل أن تتحسَّن صحة إليزابيث هناك كما نصحها الأطباء. أما والدُ إليزابيث فلم يكن راضيًا البتة على زواج ابنته الكبرى وهي البكرُ بين أولاده الاثني عشر، فكم بالحري انتقالها إلى بلدٍ آخر بعيد عنه! لذا لم يتكلَّم معها البتة ورفضَ أيَّة علاقةٍ معها ومع زوجها روبرت. لكنَّ إليزابيث لم تتوقّف قطُّ عن التواصل معه عبرَ كتابة الرسائل وبشكل مستمرّ لأبيها في إنكلترا. وفي العام 1849 وبعد أن تحسَّنتْ صحتُها استطاعت أن تُنجب وزوجها روبرت طفلًا ملأ حياتهما بالفرح والسعادة.
أما الأمر الذي حزّ في نفسها كثيرًا فهو وفاة والدها الذي بثَّت له حبَّها الشديد عن طريق الشعر. ليس هذا فحسب، بل بعد أن تُوفّي أبوها فوجئت بوصول علبة كبيرة تحتوي على رسائلها الكثيرة له، وهي غيرُ مفتوحة بعد، مما كان بمثابة صدمةٍ كبيرة لها. لقد حاولَتْ كثيرًا ولمدة عشر سنوات من حين زواجها بأن تستردَّ العلاقة بينها وبين أبيها، لكنَّ محاولاتها كلَّها باءت بالفشل الذريع.
لقد كانت إليزابيث بحاجة إلى حضن والدها الدافئ - هي التي ترعرعتْ وكبُرت في المنزل وتلقَّت علومها منذُ صغرها فيه وبدأتْ بكتابة الأشعار في سنٍّ صغيرة حين ظهرت موهبة الشعر لديها - كانت تشتاق إلى حنانه وعطفه خاصة لأنَّها منذُ صِغَرِها تعرَّضت لأمراض في العمود الفقري لم يفْقَهِ الأطباءُ كنهَها. لذا أمضت معظم حياتها في أوجاع الرأس والمرض. وبعد ذلك تدهورت صحتها وتوفيت في العام 1861 من مرض السل الرئوي الذي قضى على رئتيها. اعتُبرت إليزابيث من أكثر الشعراء المحبوبين في بريطانيا. كانت امرأة مؤمنةً ومتحمّسةً جدًا لإيمانها المسيحي. حيثُ قامت بخدمَات متعدّدة للعمل المُرسَلي في كنيستها وهي بعد في عزِّ شبابها. ولم تكن أشعارها الكثيرة مقتصرةً على موضوعٍ واحد بل كانت تحكي في أشعارها عن مشاكل المجتمع أيضًا التي كانت مثقلةً بها. أما أكثر ما اشتُهر من أشعارها فهو هذا الشعر الرومانسي الذي كتبته لزوجها روبرت: "آه، كيف أحبُّك How Do I love Thee".
إنَّ قصة إليزابيث والمعاناة التي عاشتها بسبب عدم تواصل أبيها معها بعد زواجها، وفقدانها لحبه وحنانه بسب حالة عدم الغفران التي عاش فيها، هذه القصة لا يستطيع الواحد منا إلا أن يتعاطف معها. لماذا؟ لأنها يا صديقي تمثِّل قصةَ الإنسانية بشكل عام، إذ من خلالها نجد خيبة الأمل، وحبّ السيطرة، وعدم الغفران بين الناس. فإن لم يكنْ بين الآباء والأبناء، فهو بين الإخوة والأخوات، وبين العائلات وكذا الأصدقاء وحتى بين الأفراد في الكنائس. كما لا يكاد يخلو بيتٌ أو عائلة أو كنيسة من عدم الغفران فنجده في كل مكان وزمان.
ألم يعلّم الرب يسوع المسيح المعلم الصالح عن الغفران وأهميته؟! أجل، لقد فعل ذلك بكل صراحة ووضوح. حتى إنَّه قال: "فإنه إن غفرتمُ للناس زلّاتِهم، يَغفرْ لكم أيضًا أبوكم السماوي. وإن لم تغفِروا للناس زلّاتِهم، لا يغفرْ لكم أبوكم أيضًا زلّاتكم." (متى 14:6-15) بمعنى أنه إذا لم نغفرْ نحن للمسيء إلينا من كلّ القلب، أي لم نُطلقِ الشخص من تحت تأثير أفكارنا وعقولنا المستاءة منه والغاضبة عليه والمَدينة له، لا نقدرُ نحن أن ننالَ غفران الله. ولقد عبَّر أحد المؤمنين عن هذه الآية الهامة وبطريقة مبسّطة فقال:
إذا لم يكن باستطاعتنا أن نتخلَّى عن الضغائن التي نتمسَّك بها في قبضة يدِنا، فهذا معناه أنَّ أيدينا المغلقة لا تقدرُ أن تستلم أيَّ شيءٍ من قِبَل الله. فالغفران أولًا يحتوي على عنصر لاهوتي عميق وهو: غفران الله يخلِّصنا من خطايانا. وثانيًا: الغفران يحتوي أيضًا على عنصر فوري مباشر ألا وهو: حين نغفر للآخرين، فنحن نُطلق سَراحَ الآخرين من دينونتنا لهم، أو حُكمِنا عليهم. لا بل إنَّنا بالأحرى، نُطلق أنفسنا نحن من تأثيره. وحين نتركُ الغضب ونتخلّى عنه يعود فرحُ الرب ليمكُثَ في قلوبنا ويستمرّ. لا عجب إذن: "لأنَّ فرحَ الربِّ هو قوَّتُكم." (نحميا 10:8)
إنَّ مأساة القصة آنفًا هي أنَّ والد إليزابيث السيد باريت خسر الكثير لأنَّه افتقد العلاقةَ الحميمة مع ابنته فلْذَة كبده. كما فاتته الفرصةُ ليُسَرَّ بإنجازاتها وليتعرَّف على أشعارها الجميلة وكتاباتها المبدِعة كالسيدة إليزابيث باريت براونينغ. كما وليقوم بدور الجد لطفلها الذي أنجبتْه. فلا تدعِ الفرصة تفوتك صديقي لتنالَ غفران الله الدائم لكَ لأنَّه غُفرَ لك أولًا من أجل خطاياك الكثيرة، وأكثرَ بكثير ممَّا غَفرت به أنتَ للآخرين.
قال الرب يسوع: "وإنْ أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبْه بينك وبينه وحدكما. إن سمعَ منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع، فخُذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين، لكي تقوم كلُّ كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقُلْ للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكُن عندك كالوثني والعشّار." (متى 15:18-17)
هذا هو الشقّ الثاني للموضوع يا صديقي، أن تكون هناك مصارحة وعتاب بين المُساء إليه والمُسيء له. بمعنى ينبغي تصفيةُ الأمور وعدمُ ترْكها للزمن لتُنسى. وتصفيةُ الأمور وحلّ المشاكل الحاصلة بين الإخوة لن تُحَلّ إلا إذا حدثت هناك مناقشة فعليَّة في الموضوع. وليس هذا فحسب، بل يجب على المسيء أن يتنازل عن كبريائه ويتواضع ويعترف بأنه فعلًا قد أخطأ. فمَن منا لا يخطئ؟ وإلا فلن تُحَلَّ المشكلة. وأقول من المؤسف له إن مؤمني هذه الأيام لا يعترفون بأخطائهم بل يعتبرون أنهم على صواب ولذلك فلماذا البحث أو حتى المناقشة! ولسانُ حال بعضهم تكفي زيارة شخصية اجتماعية للحفاظ على الصداقة، ليس إلا... ويصبح كُلّ شيء صافيًا كاللبن كما يزعمون. لكن ما علَّم به المسيح هو عكس ذلك تمامًا. فالذي لا يعترف بخطئه تجاه أخيه أو أخته يجب أن يُهمل أو يترَك تمامًا كما يبتعد الإنسان عن عابد الوثن أو العشار جابي الضرائب (أي غير المرغوب أو المرحَّب به من قبَل الناس أجمعين.)
ترى أين نحن اليوم من تطبيق ما يمليه علينا تعليمُ الرب يسوع في الكتاب المقدس؟ هل نلجأ إلى حلول نضعها نحن بحسب ما يحلو لنا؟ كأن لا نبالي مثلًا ونترك الأمر للقدَر أو الزمن. فلا نكترث ولا نهتم! إنَّ عدم المبالاة أو اللاكتراث هو الطريقة الدارجة التي يتصرّف بها كثيرون في هذه الأيام. وفي هذا ما يحزُّ بالنفس فعلًا أكثر من المواجهة والخصام نفسه. فهل نحرِص بالحق على الحفاظ على العلاقات وطلب الغفران أم نترفّع عن فعل ذلك فنفرِّط حتى بأغلى أصدقائنا وإخوتنا دون أن نبادر لتصحيح ما انهدم؟
حين سُئل زوجان ما هو سرُّ قوة علاقتكما الزوجية بعد أن احتفلا بعيد زواجهما الثمانين – إذ كانا قد تزوّجا وهما في المدرسة الثانوية - قال كلٌّ منهما: المحبة التي تمارس الاعتذار والغفران. ماذا يعلمنا الرسول بولس في هذا المنحى يا ترى؟ يقول: "فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات، ولطفًا، وتواضعًا، ووداعةً، وطول أناة، محتملين بعضكم بعضًا، ومسامحين بعضكم بعضًا إن كان لأحد على أحدٍ شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا. وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال." (كولوسي 12:3-14) تذكَّر صديقي أنَّ يوسف سامح إخوته الذين سبَّبوا له العيش المكرب والبكاء المرير، لكن متى؟ حين أراهم أخطاءهم وفضَح مؤامراتهم، فاعترفوا له، ووضعوا أنفسهم بين يديه. ترى أين نحن اليوم من تطبيق الكتاب المقدس في حياتنا اليومية وعلاقاتنا الأسرية وخاصة وسط كنائسنا؟!

المجموعة: أذار (مارس) 2023