كيف يعيش المؤمن وديعًا في هذا الزمن الذي فيه يأكل القويُّ الضعيفَ، والذي ينظر إلى الوديع أنه ضعيف؟

كيف يعيش المؤمن في عالم فيه البقاء للأقوى؟ ما هي الوداعة؟ وكيف نحياها؟
في رواية عن الأم تريزا، يُقال إنها شاهدت شحاذًا مسيحيًّا فقيرًا يُعطي بكلِّ فرحٍ كسرةَ الخبز الوحيدة التي في يده لشخصٍ أكثر فقرًا منه. كما شاهدت فتى وفتاة يتبرّعان بنفقات زواجهما للمحرومين... وكان ذلك دافعًا لها أن تجوب الأرض لتهب الحبّ للمنبوذين والمرضى والضعفاء والفقراء... وأخذت تخدم في الهند وسط البطون الجائعة والوجوه البائسة والأمراض المتوطنة. وقد قيل عنها: كل ما تمتلكه ثوبين من الساري الهندي ذو الشريط الأزرق التي تميّزت به، ودلو...
وعندما نتكلم عن الوداعة علينا أن نأتي إلى شخص الرب يسوع الذي قال: "تعلّموا منّي، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم." إنه النموذج الكامل والأمثل للوداعة، بل هو الوداعة بعينها.
والوداعة ليست صِغر النفس أو ضعفًا في الشخص أو الشخصية، أو خنوعًا أو خذلانًا، أو صفةً لشخصٍ مغلوبٍ على أمره، أو مكسور الجناح. فالوداعة صفة العظماء؛ صفة الله العظيم! فمن هو الشخص الوديع؟ إنه شخص:

1– حليم: "ليكن حلمكم (وداعتكم) معروفًا عند جميع الناس." (فيلبى 5:4)
قرأت عن زوجة "متى هنري"، مفسّر الكتاب المقدس المشهور، أنها جمعت الأوراق التي كتب فيها مسودّة تفسير الكتاب المقدس الذي استغرق منه مدة سبعة سنوات كاملة، وأحرقتها كلّها إذ كانت شريرة، ولكن الرجل قابل هذا التصرّف بهدوء ووداعة، وبغير غضب، وبدأ يكتب تفسيره من جديد، وقدّم تفسيرًا أفضل.
يقول الكتاب المقدس عن موسى: "أما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض." (العدد 3:12)
الإنسان الوديع لا ينتقم لنفسه بل يتقبَّل الإساءة بصدرٍ رحب ملتمسًا العذر للمسيء إليه.
عند القبض على الرب يسوع، استلّ بطرس سيفه وقطع أذن ملخس، ويذكر إنجيل متى "وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ... اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إلى مَكَانِهِ... أتظنّ أنّي لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدِّم لي أكثر من اثنَيْ عشرَ جيشًا من الملائكة؟]" هذا هو يسوع الوديع!

2– مسالم: يتنازل عن حقّه لأجل السلام، كما فعل إبراهيم مع لوط؛ ليس هو الشخص الضعيف ولا هو العاجز المسكين، بل هو الشخص القوي الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ومشاعره - محبة في السلام؛ لأن مالك نفسه خير من مالك مدينة.

3– يقرّ بعجزه ويعترف بذنبه مثلما فعل العشار الذي صرخ: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ."

4– متواضع: في كل حياة الرب يسوع من مولده إلى يوم ارتفاعه وهو يعيش حياة التواضع. فهو الذي تنازل لخلاصنا (فيلبي 2) وغسل أرجل تلاميذه. يقال عن فرنسيس الأسيسي أنه شاهد شخصًا أبرص في طريق خال من الناس... فترجّل عن جواده ومنح الأبرص بعض المال، ولما أحسّ أن هذا العمل وحده لا يكفي، مال عليه وقبّله. وبعد ذلك صار يسعف المرضى في مستشفياتهم.

5- طيب وخدوم يعمل الخير للجميع... ليس أنانيًّا بل يحب الجميع.
توجه الطبيب للكشف على جرح رجلٍ كان ينظر إلى ساعته من وقت إلى آخر، وبينما يقوم بإجراء ما يلزم له دار بينه وبين الرجل هذا الحديث؛ قال له: "يبدو أنك في عجلة من أمرك، هل لديك موعد مع طبيب آخر؟" أجاب الرجل: "كلاّ، ولكن عليّ اللحاق بموعد الإفطار مع زوجتي التي تعيش في إحدى دور الرعاية." سأله الطبيب: "هل هي بصحة جيدة؟" قال الرجل: "في الواقع، زوجتي تعيش منذ زمن وهي تعاني من مرض أَلزهايمر." وعندما قارب الطبيب من وضع الضمادات الجديدة أكمل حديثه معه وقال: "هل تظن أنها تقلق عليك لو تأخّرت قليلًا عن موعدك؟" رد الرجل: "هي لم تعدْ تعرفني منذ حوالي خمس سنوات." ويقول الطبيب: "قد أذهلني ردّه فبادرته بالقول: "وما زلت تواظب على الذهاب إليها كل صباح بالرغم من عدم قدرتها على التعرّف عليك؟!" ابتسم الرجل ثم ربّت على يدي وقال: "هي لا تعرفني من أنا، ولكني ما زلت أنا أعرف من هي!" هذا الرجل هو مثال المحبة والوداعة والتواضع!

6- يحترم الجميع ويقدِّر الجميع: قرأت عن أحدهم ويُدعى الدكتور "براكت" أنه أحبّ الآنسة "ألڤيرا كرامويل" ابنة صاحب أكبر مصرف في نيويورك. وفي يوم العرس، دُعِي إلى قريةٍ لعلاج طفل مكسيكي وحيد لأبويه، فجنّ جنون العروس ألڤيرا فصرفت شهود العرس، وأنهت الارتباط به. عندئذ، لم يفكّر الدكتور "براكت" في الزواج إلى نهاية عمره وكرّس نفسه لعلاج المرضى، وأصبح الطفل المكسيكي الذي أسعفه هو الطبيب المساعد له فيما بعد.

7- هادئ: كان يسوع "لا يخاصم ولا يصيح..." (متى 19:12)

8- قابل للتعليم: كما كانت مريم أخت لعازر التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه.

9- قانع الذي يرضى بنصيبه من الله.

وبركات الشخص الوديع كثيرة أذكر منها:

1– بركة السعادة والسلام "طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض." (متى 5:5)

2– بركة الرفعة والمجد: "الرب يرفع الودعاء..." (مزمور 6:147)

3– الرب يقودهم ويرشدهم ويعلمهم: "يدرّب الودعاء في الحق..." (مزمور 9:25)

4– يسمع صلواتهم في الضيق. "تأوّه الودعاء قد سمعت يا ربّ." (مزمور 17:10)

5– والرب يجمّل الودعاء: "يجمِّل الودعاء بالخلاص." (مزمور 4:149)

كيف نقتني ونكتسب صفة الوداعة؟

هذا يتمّ عندما نرتبط بشخص المسيح الذي هو الوداعة بعينها، ونتعلم ونعيش الكلمة المقدسة: "لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة شرّ، فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلِّص نفوسكم." (يعقوب 21:1) ونمتلئ بالروح القدس لأنه يثمر فينا الوداعة.
لنتعلّم الوداعة من الرب يسوع المسيح الوديع والمتواضع القلب...

المجموعة: أذار (مارس) 2023