إلى أين نذهب للإرشاد ونحن على أبواب العام الجديد؟ من ذا الذي يقودنا في سبيل الحياة

ويرشدنا إلى حلٍّ موفَّق لمشاكلنا العويصة المعقّدة؟ أين السبيل إلى معرفة إرادة الله؟ أين الطريق إلى التأكد من أننا نسير وفق ترتيب الرب لحياتنا؟ إن وعد الله لنا هو "أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ." (مزمور 8:32) وعلى هذا فإن المؤمن يجب أن ينتظر الإشارة السماوية قبل أن يبدأ في عملٍ من أعماله، كما كان بنو إسرائيل يسيرون في هداية عمود السحاب وعمود النار، إذ نقرأ عنهم هذه الكلمات: "وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ. لِكَيْ يَمْشُوا نَهَارًا وَلَيْلاً. لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ السَّحَابِ نَهَارًا وَعَمُودُ النَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ الشَّعْبِ." (خروج 21:13-22)
أجل، فإن هداية الله لشعبه أمر واضح كل الوضوح، فلنتقدّم قليلاً لنتأمّل في هذا الموضوع الخطير في ثلاث كلمات:

1- شروط التمتّع بالإرشاد الإلهي

أ- التكريس الكامل للحياة
هذا ما يعلنه لنا الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية إذ يتوسّل للمؤمنين قائلاً: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ." (رومية 1:12-2) وفي هذه الكلمات الجليلة نرى أن الرسول يطلب إلينا تكريس الحياة كلّها على مذبح الصليب، بدافع الإحساس بمراحم الله، وكذلك يطلب إلينا ألّا نشاكل هذا الدهر في تصرّفاته العالميّة الآثمة، وحكمته الإنسانيّة الغاشمة، وعندئذ سنختبر ما هي إرادة الله المثلّثة الأركان، تلك الإرادة الصالحة، المرضيّة الكاملة. وإذ نتأمّل في طلب الرسول نجده طلبًا عادلاً، لأن الله لا يعلن إرادته إلا للنفس التي سلّمت له كلّ التسليم ليتأكّد من طاعتها للإرادة السماوية المعلنة. فاختبرْ نفسك يا قارئي العزيز في محضر الرب، هل سلّمت له كل المفاتيح وأدخلته إلى مخادع نفسك. هل كرّست له مواهبك ووزناتك وأوقاتك ودقائق حياتك. إذًا فهذه خطوة أولى في طريق التمتّع بالإرشاد الإلهي.

ب- العاطفة السخيّة في العطاء
يتطلّب منا الإرشاد الإلهي سخاء في عطايانا، وعاطفة فياضة تنسكب في كرم على الآخرين، وهذا ما نقرأه في سفر إشعياء إذ يقول الرب هناك: "إن... أَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ. وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ..." (إشعياء 10:58-11) فالسخاء في الإنفاق على الجائع، والتضحية في كساء الجسد العاري، وإطلاق المسحوقين في الحريّة، هذه كلّها أمور ضروريّة في سبيل التمتّع بالإرشاد الإلهي، فبعد أن نتمّمها في حياتنا يقودنا الرب على الدوام، ويتمّ لنا وعده الجليل: "... أُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: «هذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ. اسْلُكُوا فِيهَا». حِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ وَحِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَسَارِ." (إشعياء 21:30)

ج- الصلاة المسَلِّمة لإرادة الله
إن سرّ توقّف السماء عن إرشاد أبناء الأرض، هو أنهم يعدّون برامجهم ويجهِّزون تصميم حياتهم، ثم يطلبون من الله أن يبارك هذا البرنامج وذلك التصميم... وهذا هو الخطأ الأكبر في الحياة.
كم من شاب يذهب وراء عينيه فيختار لنفسه شريكة حياته، ويذهب وراء عقله وشهواته فيجذبه بريق الذهب الوهّاج، أو تخدعه المظاهر الخلّابة. وبعد أن يتّفق على الزواج ويجهّز معدّات الحياة يطلب من الله البركة والإسعاد، مع أن الشرط الأكيد للتمتّع بالإرشاد الإلهي هو الصلاة المسلِّمة الخاضعة لإرادة الله.
إن المؤمن الذي يرغب أن يعيش في ملء إرادة الله، ينبغي له أن يتبع آثار خطوات موسى عندما توسّل لله قائلاً: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيكَ فعلّمني طريقك." واستمرّ متوسّلاً حتى سمع جواب الله: "وجهي يسير فيريحك." (خروج 14:33) لقد كاد آساف أن يفشل في حياته، وكادت مشيئة الله تغيب عن عينيه عندما رأى نجاح الأشرار، وكادت تزلّ قدماه، ولكن الرجل يقصّ علينا اختباره المؤلم بهذه الكلمات: "حتى دخلت مقادس الله وانتبهت إلى آخرتهم حقًّا في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار." (مزمور 17:73-18) ففي المقادس الإلهيّة وعن طريق الصلاة الخاضعة يعلن لنا الله مشيئته في حياتنا.

2- الوسائط الأكيدة للإرشاد الإلهي

أ- الواسطة الأولى للإرشاد الإلهي هي الكلمة المقدسة
إن أول وسيلة يستخدمها الله لإرشاد ابنٍ من أبنائه أو بنت من بناته هي الكلمة المقدسة، ويسجّل إشعياء هذه الحقيقة قائلاً: "وَإِذَا قَالُوا لَكُمُ: «اطْلُبُوا إِلَى أَصْحَابِ التَّوَابعِ وَالْعَرَّافِينَ الْمُشَقْشِقِينَ وَالْهَامِسِينَ». «أَلاَ يَسْأَلُ شَعْبٌ إِلهَهُ؟ أَيُسْأَلُ الْمَوْتَى لأَجْلِ الأَحْيَاءِ؟» إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ..." (إشعياء 19:8-20) ومن هذه الكلمات نرى أن الوحي المقدس هو أول وسائط الإرشاد الإلهي كما هو مكتوب "فتح كلامك ينير يعقّل الجهال." "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي." وهنا ينبغي لنا أن نفهم أن كل موضوع قد أعلن الكتاب رأيَ الله فيه بوضوح، لا يجب الصلاة من أجله بل يجب طاعته... فالله قال: "لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟" (2كورنثوس 14:6-15) وهذا إعلان واضح في الكلمة بضرورة الابتعاد عن الشركة مع شخص غير مؤمن، فإذا تقدّم إليك شخص غير مؤمن يريد أن يدخل معك في شركة تجارية، فحاذر أن تصلّي لأجل هذا الموضوع إذ أن الصلاة لن تفيدك، لأن الله قد سبق وقال: "لا" في كلمته، وليس الله إنسانًا فيكذب أو ابن إنسان فيندم، وستكون صلاتك إذا جرّبك الشيطان أن تصلي كصلاة بلعام بعد أن قال له الله "لا تذهب مع رجال بالاق" فعاد يصلي إليه ويسأله تحت إغراء الذهب والربح القبيح.
وكما في الشركة التجارية كذلك في شركة الزواج، حاذر أن تصلي حتى يفتح الرب الطريق إلى فتاة جميلة وغير متجدّدة، أو إلى شاب غني غير مؤمن، فإن الصلاة في هذه الحال تكون بمثابة كلمات مشبعة بالأوهام، ومغلّفة بالغيوم، لن يسمعها ساكن السماء. وهكذا الأمر في كل موضوع قد قال فيه الكتاب المقدس قوله الفصل سواء أكان يمسّ الحياة أو يتعلّق بالعقائد، هنا يتحتّم عليك الطاعة للقول الإلهي إن كنت تريد أن تتمتّع بالإرشاد السماوي، لأجل هذا قال المسيح: "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم، هل هو من الله، أم أتكلّم أنا من نفسي." (يوحنا 17:7)

ب- الواسطة الثانية للإرشاد الإلهي هي صوت الروح القدس
أعلن الرب لتلاميذه هذه الحقيقة فقال: "مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ." (يوحنا 13:16) ومن كلمات ربنا نتعلم أن الروح القدس هو روح الإرشاد، الذي يقود أبناء الله وبناته في سبيل هذه الحياة. "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ." (رومية 14:8)
لكن إرشاد الروح لنا يتطلب جوًّا خاصًا يستطيع فيه الروح أن يقودنا ويرشدنا، ونحن نقرأ في سفر الأعمال هذه الكلمات "وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ». فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. فَهذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ انْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ." (أعمال 2:13-4) وهذه الآيات تعلن لنا كيف يقود الروح القدس أولاد الله قيادة حكيمة واضحة، وكما أفرز برنابا وشاول للخدمة كذلك هو يفرز اليوم خدامًا أمناء لخدمته، لكن ما هو الجوّ المجهّز لتلقّي الإرشاد؟
إن هذا الجوّ هو جوّ الخدمة الأمينة "بينما هم يخدمون الرب"، وهو جوّ الصوم وإخراج العالم والأفكار العالمية من حيّز العقل "ويصومون"، في هذا الجوّ السماوي يهمس الروح القدس همساته الإلهية ويرشد شعبه بمحبّته... لكن السرّ في عدم تمتّع أولاد الله وبناته بالإرشاد الإلهي هو في كثرة مشغوليتهم، في تعجّلهم الأمور، في أنهم لم يدركوا أهميّة الهدوء في محضر الله حتى تصدر الإشارة الإلهية بالعمل. وفي سفر الأعمال نحن نتتبّع قيادة الروح القدس، فقد أرشد فيلبس أن يتكلّم مع الخصي الحبشي "فقال الروح لفيلبس: [تقدّم ورافق هذه المركبة]" (أعمال 29:8) وكما أرشد فيلبس للخدمة، كذلك منع بولس ورفقاءه من الخدمة. ذلك لأنه يعرف حالة كل مكان، ولا يريد أن يضيع وقت خادمه الأمين سدى فيفشل في عمله، ولذا فنحن نقرأ هذه الكلمات: "وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ." (أعمال 6:16-7) وهكذا نرى أن الروح القدس قد منعهم من الكلام، بل ومنعهم من السفر أيضًا، وكانوا هم في تمام الخضوع لصوته فأطاعوه... فهل أنت متمتّع بهذا الاختبار أيها القارئ الكريم؟ هل أنت تعيش تحت قيادة روح الرب؟

المجموعة: شباط (فبراير) 2024