الجزء الأول (تكوين ١ – ٢)
تختلف المسيحية عن باقي الأديان والفلسفات والاتجاهات العلمانية وكل أشكال الإلحاد

في نظرتها عن الخالق والخليقة والخلق. يعرّف اللاهوتي آر سي سپرول العقيدة بهذه الطريقة: "إن العالم لم يأتِ إلى حيّز الوجود بالصدفة الكونيّة، بل جاء بعملٍ مباشر وفوق طبيعي من خالقٍ." تُقدِّم لنا الصفحات الأولى من سفر التكوين الفكر العقائدي اليهودي/المسيحي عن الله الخالق وعمليّة الخلق. يعلّم الكتاب المقدس في تكوين ١ و٢ أن الله أزليٌّ موجودٌ وهو ربٌّ واحدٌ وخالقُ الكونِ من العدم، خلقٌ فوريٌّ ومباشرٌ ومعجزيّ لمجده الذاتي بدون أيِّ شكلٍ من أشكالِ التطوّر، ولم تكن الخليقة موجودة أزليًّا. هذه سبع ملاحظات تفسيرية:
أولًا: نتعلّم من تكوين ١:١ أن الله خلق العالم الذي لم يكن أزليًّا، وخلق الأرض والسماوات من لا شيء.
نلاحظ أيضًا في الأصحاح الأول من سفر التكوين القصة الأولى عن خلق الكون والإنسان وهي تؤكّد لنا بأن الله قد خلق من العدم، ولم ينشأ العالم بأي طريقة تطوّريّة عبرَ حقبٍ زمنيّة طويلة. لكن الكتاب لم يخبرنا بالتفاصيل كيف خلق الله العالم بهذه الطريقة العظيمة التي بها أظهر مجده وقوّته المعجزيّة وحكمته.
ثانيًا: يقدّم لنا الكتاب المقدس شخص الله في أول آيةٍ من سفر التكوين ١: "في البدء خلق الله..." الرب الخالق هو الشخص المحوري في أوّل آية في الكتاب وليست الخليقة أو الإنسان، وهو كذلك الموضوع الجوهري لبقية الكتاب المقدّس. يعرّف كاتب سفر التكوين القارئ بوجود الله كافتراض أساسيّ وأن الرب هو خالق مستقلّ وحرّ من خليقته رغم أنه هو الذي خلقها ويديرها ويحفظها. لم يقدّم موسى عشرة أسباب لوجود الله لكنه يُقرّ بوجوده باعتبار حقيقة وجود الله هو نقطة البداية في الإيمان.
ثالثًا، يُستخدم اسم الله "إِيلوهيم" في تكوين 1:1 "بصيغة الجمع" مع الفعل العبري "خلق" بصيغة المفرد للدلالة على وحدانية الله. لكن بعض المفسّرين أكّدوا أن استخدام الجمع هو إشارة للعظمة والاحترام المتداول في الأدب العبري آنذاك وليس تعليم التوراة عن الثالوث المسيحي الذي أعلنه الله تدريجيًا في العهد الجديد. بعض المسيحيين يختلفون مع هذه النقطة باعتبار أن الله أعلن عن الثالوث في العهد القديم بوضوح!
رابعًا، استخدم الكاتب نفس الفعل (بارا) في تكوين ١:١، ٢١ و٢٧؛ ٢: ٢. في كل الآيات دائمًا الفاعل هو الله مع الفعل خلق، وبعض الأحيان الفعل، بارا، يعني صنع من شيء ما. لكن عندما يخلق الله من مادة وسطية يذكر الكتاب بوضوح وفي نفس الوقت يظهر حقيقة روعة الصنع الإلهي العظيم. مثلًا في تكوين 7:2، "جبل الرب الإله آدم من تراب." كذلك تكوين 22:2، "بنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأةً وأحضرها...". لكن القرينة تثبت وتظهر إذا كان هناك مادة استخدمت للعمل والخلق أم أن الخلق كان من العدم. ومن السياق والقرينة، تكوين 1:1، نستنتج أن الله فعلًا خلق من العدم خلقًا مباشرًا ومعجزيًّا.
خامسًا، يشمل ترتيب النصّ على مقدّمة تمهيديّة لتعريف الخالق والخليقة في تكوين ١:١–٢، ثم يقدّم الكاتب سبعة نصوص كتابية مقسّمة على مجموعتين (تكوين 3:1–٣١، ثنائية في ثلاثية، ستة أيام الخليقة) ثم يختم في النص السابع الذي يعكس لنا ما فعله الرب في اليوم السابع، تكوين 1:2-٣، يوم التكريس. ترتيب أحداث عملية الخلق هي كالآتي (الترتيب مأخوذ من تفسير سفر التكوين، كينيث ماثيوس مع تغيير طفيف).
هذا ترتيب متتابع وغير شامل في كل حالة خلق من النصوص الستة:
أ. قال الله.
ب. إعطاء الوصية.
ج. حدوث عمل الخلق.
د. تقييم الله لعملية الخلق.
ه. حدود ووصف وتسمية المادة المخلوقة.
سادسًا، نلاحظ أن الله يخلق أولًا ثم يملأ ويُرَتّب أو ينّظم الكون بحسب مجموعتين متوازيتين (خلقٌ في أوّل ثلاثة أيام يقابلها أعمال ملء الكون وإنتاج في ثلاثة أيام أخرى) ثم يستريح الله في اليوم السابع.
المجموعة الأولى
اليوم الأول: النور والظلمة (ع ١–٥)
اليوم الثاني: الجلد والمياه (ع ٦–٨)
اليوم الثالث: اليابسة والبحار والنباتات (ع ٩–١٣)
المجموعة الثانية
اليوم الرابع: الأنوار (ع ١٤–١٩)
اليوم الخامس: الأسماك والطيور (ع٢٠–٢٣)
اليوم السادس: الحيوانات البرية والإنسان (ع٢٤–٣١)
اليوم السابع: استراح الله من عمله وبارك وقدس اليوم السابع (تكوين 1:2–٣)

سابعًا، خلق الله الخليقة ووضع في جوهرها إمكانية التكاثر والإنجاب والتناسل في الإنسان والحيوان والنبات، تكوين 11:1–١٢، ٢٨. وكل واحد ينجب ويلد نفس النوع "كجنسه" بدون تطوّر هائل. فالحيوان يلد حيوان، والنبات يثمر نباتًا "كجنسه"، والإنسان يتكاثر ويلد إنسانًا وهكذا.
إن قابلية الإنجاب والتكاثر، بالإضافة إلى كل الملاحظات المذكورة أعلاه، تدلّ على وجود عقل حكيم وخالق قدير وهناك تصميم إلهي بديع للخليقة وغرض مجيد ولا يمكن أن تكون كل هذه العوالم قد جاءت بالصدفة كما يدّعي البعض. لم تأتِ الخليقة بخلقٍ ذاتيٍّ من نفسها ولم تأتِ من خلال التطوّر أو الانفجار العظيم ولم تكن المادة أزليّة كما ظنّ البعض في الماضي. لكن الخليقة جاءت بسبب العلّة الأولى المسبّبة وهي الله الخالق كما يعلن الوحي المقدس في تكوين ١–٢. (يتبع)

المجموعة: شباط (فبراير) 2024