ثالثًا: الظروف المجهّزة من الله
أجل، لما تكون مشيئة الله في جانبنا، تسير الأمور في هوادة ورفق في أغلب الأحيان،

أقول في أغلب الأحيان، لأنه في أحيان أخرى يضع الشيطان العقبات ولكن الرب يذلّلها بيده الرفيعة.
وعندما أتكلّم عن الظروف المجهّزة من الله، لا بدّ لي أن أنبر عن حقيقة هامة هي أن هذه الظروف لا تكون من الله إلّا إذا اتّفقت مع نور كلمته الوضّاح، وقيادة روحه في إقناع صريح، أما إذا انفتح الباب ضدّ المكتوب وضدّ همسات الروح القدس فهو مفتوح لامتحان إيماننا، أو هو إغراء من الشيطان للإيقاع بنا، فالباب المفتوح ليس دائمًا دليلاً على إرادة الله.
نجد في صموئيل الأول 4:24 حادثة تعيننا على فهم هذا الفكر الجميل: فقد طارد شاول داود أشدّ المطاردة، وفي أثناء مطاردته له جاء إلى صير الغنم التي في الطريق وكان هناك كهف فدخل شاول لكي يغطّي رجليه وداود ورجاله كانوا جلوسًا في مغابن الكهف... ونام شاول، نام نوم المتعب المكدود "فَقَالَ رِجَالُ دَاوُدَ لَهُ: «هُوَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ». فَقَامَ دَاوُدُ وَقَطَعَ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ سِرًّا." وفي هذه الكلمات تظهر أمامنا حقيقة واضحة، فالباب قد فُتح أمام داود للتخلّص من الملك الذي يطارده، والذي تسبّب في هزيمة بلاده وعارها، والأغلبية التي مع داود نصحته قائلة: "هُوَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ"، وكان من الممكن أن يعتبر أن الباب المفتوح هو دليل قاطع على إرادة الله، وكان من الممكن أن يخضع لرأي الأغلبية من الرجال الذين معه، لكن داود كان رجلاً متّصلاً بالرب، وكان يتلقّى أوامره من الأعالي لا من أصوات أبناء الأرض، ولذا فقد قال لرجاله: "حاشا لي من قِبَل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيّدي بمسيح الرب فأمدّ يدي إليه لأنه مسيح الرب هو." (1صموئيل 6:24) قال هذا الكلام دون أن يخشى غضب الأغلبيّة، أو يندم على الفرصة التي أُتيحت له للخلاص من عدوّه واعتلاء العرش بدلاً عنه، ولذا فقد جاءه وقت الرب، ومات شاول بيد نفسه، واعتلى داود العرش ملكًا نظيفًا طاهر اليد والحياة. فحاذر أن تجري وتدخل من الباب المفتوح، إلا إذا وثقت أن الله هو الذي فتحه لك. فقد ركب يونان السفينة التي وجدها أمامه وهو يُطمْئِن نفسه بأن الله قد رتّبها له، ولكن سهولة وجود السفينة لم يكن دليلاً على إرشاد الله، وهكذا قضى في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تعلّم درس الطاعة للصوت الإلهي.

رابعًا: هي الرؤى السماوية
لا أدري هل يوافقني القراء الأحباء على هذا أم لا؟ ولكنني رأيت هذه الحقيقة في أجزاء متفرّقة من العهد الجديد، قبل حلول الروح القدس وبعد حلوله، فقد أصاب الشك يوسف النجار من جهة القديسة العذراء مريم، وكان يفكّر في تخليتها سرًّا، "وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّّ الَّذِي حُُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.] ... فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ." (متى 20:1، 24) فعن طريق هذا الحلم الواضح هدأ يوسف وأخذ امرأته، وفي سفر الأعمال بعد أن أغلق الروح القدس الطريق أمام بولس والذين معه يقول كاتب الأعمال: "وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!». فَلَمَّا رَأَى الرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ." (أعمال 9:16-10) وهكذا أرشد الرب خادمه برؤيا واضحة. وإذ أراد الرب أن يقنع بطرس بالذهاب مع رجال كرنيليوس أراه رؤيا سجّلها لنا لوقا بهذه الكلمات: "ثُمَّ فِي الْغَدِ فِيمَا هُمْ يُسَافِرُونَ وَيَقْتَرِبُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى السَّطْحِ لِيُصَلِّيَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاعَ كَثِيرًا وَاشْتَهَى أَنْ يَأْكُلَ. وَبَيْنَمَا هُمْ يُهَيِّئُونَ لَهُ، وَقَعَتْ عَلَيْهِ غَيْبَةٌ، فَرَأَى السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِنَاءً نَازِلاً عَلَيْهِ مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مَرْبُوطَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ وَمُدَّلاَةٍ عَلَى الأَرْضِ. وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. وَصَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ: «قُمْ يَا بُطْرُسُ، اذْبَحْ وَكُلْ». فَقَالَ بُطْرُسُ: «كَلاَّ يَا رَبُّ! لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئًا دَنِسًا أَوْ نَجِسًا». فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضًا صَوْتٌ ثَانِيَةً: «مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!» وَكَانَ هذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ الإِنَاءُ أَيْضًا إِلَى السَّمَاءِ." (أعمال 9:10-16) وعن طريق هذه الرؤيا، ذهب بطرس مع رجال كرنيليوس قائد المئة وكان واسطة بركة في بيت ذلك القائد المشتاق إلى معرفة الحق والنور. من كل هذه الآيات نرى أن الله يرشد شعبه أحيانًا بالرؤى، لكن الأمر الهام في هذه القضية، إن الرؤيا السماوية، ينبغي أن تتّفق كل الاتفاق مع كلمة الله، وصوت روح الله، والظروف المجهّزة من الله، والصلاة المخلصة في طلب معرفة إرادة الله، وهذه هي الشروط التي يجب أن تنطبع على الرؤيا السماوية التي قال عنها حبقوق: "لأن الرؤيا بعدُ إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلّم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها تأتي إتيانًا ولا تتأخّر." (حبقوق 3:2) وإلّا فإذا لم تتّفق الرؤيا مع هذا كلّه، فهي أضغاث أحلام، منبعثة من العقل الباطن، أو من تعب الأعصاب وكثرة التفكير.

نتائج طاعة الإرشاد الإلهي

أولاً، الألم في سبيل مجد الله: إن كثيرين يعتقدون أنه إذا كان الإنسان يسير في مشيئة الرب، فهو في حرز حريز من الألم، والاضطهاد، والأتعاب، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي يتعرّض له أولاد الله... فقد يمكن أن يقودنا الرب بقيادة واضحة ومع ذلك فنحن نتألّم لأجل مجده، فقد كانت الرؤيا التي جاءت لبولس وهو في ترواس واضحة كل الوضوح، وقد تحقّق هو وزملاؤه أن الرب يدعوهم للذهاب إلى مكدونية، ولكن ما كاد بولس يصل إلى فيلبي التي هي أول مدينة من مقاطعة مكدونية، حتى قابلته المرأة التي بها روح عرافة فأخرج بولس الروح العرّاف منها، الأمر الذي دفع مواليها أن يجرّوه مع زميله سيلا إلى الحكام، وهناك قام الجمع معًا عليهما ومزّق الولاة ثيابهما وأمروا أن يُضربا بالعصي، فوضعوا عليهما ضربات كثيرة وألقوهما في السجن وأوصوا حافظ السجن أن يحرسهما بضبط وهو إذ أخذ وصية مثل هذه ألقاهما في السجن الداخلي وضبط أرجلهما في المقطرة (أعمال 19:16-24). لكن شيئًا حسّاسًا يبدو لنا في هذه القصة هو، أنه عندما نسير في إرادة الله، ونتألّم لأجل مجده، ويتعذّب الجسد الخارجي، فإن سلام الله الذي يفوق كل عقل سوف يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح، ولذا فنحن نقرأ عن بولس وسيلا أنهما "نحو نصف الليل" كانا يصليّان ويسبّحان الله والمسجونون يسمعونهما" وهذا عكس ما يحدث عندما تُتّخَذ إرادتنا ونسير في عناد قلوبنا، فإننا نحزن ونكتئب ولا نجد رجاءً أو عزاء.

ثانيًا: خلاص النفوس: لقد أطاع فيلبس الروح القدس، ورافق المركبة، وتكلّم مع وزير كنداكة، فخلص الوزير واعتمد بالماء ومضى في طريقه فرحًا. ولقد أطاع بولس وذهب إلى مكدونية، فخلصت ليدية بائعة الأرجوان، وخلص حافظ السجن مع جميع بيته، وتأسست في فيلبي كنيسة مباركة قوية لامعة الحياة. كذلك أطاع بطرس الرؤيا السماوية فكان سبب بركة لبيت كرنيليوس، وامتلأ الجميع في ذلك البيت من الروح القدس. فعندما نطيع الصوت الإلهي الذي يدفعنا للكلام مع شخص معيّن أو للذهاب إلى زيارة معيّنة، أو لبدء حديث معيّن، فلا بدّ أن تخلص النفس التي أرسلَنا إليها روح الله.

ثالثًا، الرعاية الإلهية: قال الرب لخادمه إيليا: "انْطَلِقْ مِنْ هُنَا وَاتَّجِهْ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَاخْتَبِئْ عِنْدَ نَهْرِ كَرِيثَ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الأُرْدُنِّ، فَتَشْرَبَ مِنَ النَّهْرِ. وَقَدْ أَمَرْتُ الْغِرْبَانَ أَنْ تَعُولَكَ هُنَاكَ." ولما أطاع إيليا وسمع الصوت الإلهي "كَانَتِ الْغِرْبَانُ تَأْتِي إِلَيْهِ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ صَبَاحًا، وَبِخُبْزٍ وَلَحْمٍ مَسَاءً، وَكَانَ يَشْرَبُ مِنَ النَّهْرِ." (1ملوك 2:17-6) ومرة ثانية يتكلّم الرب إلى إيليّا بعد أن جفّ نهر كريث، ونضب المورد الإنساني، ولاحظ أن الغربان لم تتوقّف عن المجيء، لكن المورد الإنساني الأرضي هو الذي جفّ، وبعدئذ نادى الله إيليّا أن يذهب إلى صرفة صيدا وهناك أعالته امرأة مسكينة أرملة، ولم يفرغ كوار الدقيق، ولم ينقص كوز الزيت في بيت تلك السيدة التي أضافت رجل الله.
وهكذا على طول الخط نجد عناية الله ورعايته تحيط بكل ابن من أبنائه وبكل بنت من بناته ما دام ذلك الابن وتلك البنت يعيشان في إرادته الصالحة المرضية الكاملة.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2024