بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ يذكر العالم في جميع العصور إنجازاتٍ حصلت على أيدي مخترعٍين ومكتشفين عملوا نقلاتٍ نوعيّة في

تقدُّم البشريّة وسبلِ العيش. وما يتمتّع به العالم اليوم من تقدُّمٍ هو نتيجة تراكم المعرفة وتحسين الأداء، إذ تُضاف إلى العلوم الموجودة تحديثاتٌ وكمالاتٌ لا حدّ لها. إلّا أن بعض هذه الإنجازات تحوّل مع الزمن إلى عكسِ ما ابتغاه المكتشفون حيث صارت اختراعاتهم تُستخدم لشقاء البشرية وبلائها، وللخوف والقتل والتدمير!
فحين اخترع الكيميائي السويدي "ألفرد نوبل" مادة الديناميت عام 1867 كان هدفه من ذلك شقّ الطرق في الجبال والأماكن المحجرة، وقطع الحجارة لتسهيل العمران، ولكن هذه المتفجّرات وأمثالها استُعملت فيما بعد لقتل الناس وتدمير ما بنوه!
ولكن في لحظة ليس لها مثيل، تلك العبارة الصارخة بقوّة غلبت المستحيل: "قد أُكْمِل" - كان قائلها معلّقًا على صليبٍ من خشب، وكان بالجسد "مسحوقَ الفؤاد ومجروحَ الجبين". كان مسمَّرَ اليدين والرجلين وعلى رأسه تاجٌ من الشوك، وأحشاؤه تحترق عطشًا لشدّة النزف الذي أصابه. أما أعظم آلامه النفسيّة فكان حين حجب الآب وجهه عنه كحاملٍ لخطايا البشرية. وبعد أن أدّى ذلك الدَّيْن العظيم، نطق بتلك العبارة بثقة الظافر المنتصر! فقد أنجز خلاصًا تامًا للبشريّة بأسرها يستطيع الاستفادة منه كل من يؤمن بموت المسيح وقيامته المجيدة، بأنه حمل خطيّته على الصليب وأقامه معه مبرَّرًا من الذنوب!
إنه لا يحقّ لنا أصلاً أن نقارن أو نشابه بين الإنجاز العظيم بالفداء الذي أتمّه الرب يسوع على الصليب وأيّ إنجازٍ بشريٍّ آخر، ولكن القصد من هذه المقدّمة هو إيضاح صورة فريدة وإجلاء فكرة مفيدة بالنظر إلى الشيء وضدّه في وقت معًا وذلك حسب القول المأثور: "وبضدّها تتميّز الأشياء."
ومن هذا المنطلق فالعناصر الرئيسية لأيّ إنجازٍ هي: الرؤية، والفكرة، والخطّة، والكلفة، والنتيجة. وعناصر ذلك الإنجاز العظيم بحسب كلمة الله هي:


1- الفكرة الرحيمة: لقد كانت رحمة الله هي الدافع الكريم في قلبه منذ بدء العالم لخلاص الإنسان الذي كان تاج خليقة الله. فهو المخلوق الوحيد الذي يقول الكتاب أن الله بعد أن جبله من التراب "نفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيّة." (تكوين 7:2) وقد عرف الله القدير أن آدم وحواء سيسقطان في خطية العصيان لوصيّة الرب بسبب غواية عامل الشرّ الممثّل بالشيطان، وأنّ نسلهما سيرث الخطية فيكون آدم هو مُدخِل الخطية إلى العالم كما يقول بولس الرسول: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ." (رومية 12:5) والموت المقصود هنا هو "الموت الأدبي، أي انقطاع الشركة مع الله، والانفصال الكامل عن الله إلى الأبد. ولكن الله المحبّ الرحوم قرّر منذ الأزل أن يعيد الإنسان ونسله إلى الشركة معه كما يقول الرسول بولس: "اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ­ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ." (أفسس 4:2-5)

2- الخطّة الحكيمة: نظرًا لعلمه الكامل بالنهايات منذ بداياتها فقد رتّب الله القدير خطّته في المشورات الأزليّة لجميع المراحل التي مرّت فيها حياة الجنس البشري الذي أحبّه. فعندما خلق الله مخلوقاته على الأرض وكان آخرها آدم وحوّاء، يقول الكتاب: "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًّا." (تكوين 31:1) ولم يقل آنذاك "قد أُكمل" لعلمه بأن هذا المخلوق بسبب الحرية الكاملة التي مُنحت له من الله، سيقع تحت عصيان وصية الله بواسطة غواية إبليس، وبدوافع معرفة الخير والشر حيث صارت إرادته الحرّة ميّالة للاستقلال عن خالقه واتّخاذ طريقه بنفسه. وكان هذا في منتهى الأهميّة لدى الله المحبّ ليردّه إلى تلك العلاقة مع عدم المساس بالحريّة التي وهبها له سابقًا، وبما أن الخطية كانت في فظاعتها لا تُطاق لأنّها عصيان لوصيّة الله فلا يوجد هناك حلّ ولا يوجد مخلوق يقدر أن يحتمل العقاب عن الجنس البشري كلّه. وهذا ما يعبّر عنه قول الربّ في سفر إشعياء: "فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ." (16:59) فقد قرّر أن يحمل ابن الله البارّ خطايا البشريّة في جسدٍ يتّخذه من الأرض ويموت عنهم بإرادته ورضاه مكمّلًا عمل الله العجيب، حيث نطق على الصليب "قد أُكمِل." وذلك ما أعلنه الله في عدد كبير جدًّا من النبوّات التي وردت على ألسنة أنبياءٍ وقدّيسين كثيرين وقد تمَّت في شخص المسيح بحذافيرها، بكلّ دقّة ووضوح.

3- الكلفة الكريمة: كان أمر الفداء جَلَلاً، وكان اهتمام الله به عظيمًا كما رأينا في الفقرة السابقة، لذا فقد هانت الكلفة الباهظة في نظر الله في سبيل الهدف الذي ابتغاه. إذ بذل الابن الحبيب، ليحمل خطايا الإنسان، حيث نزل من السماء وأخذ جسدًا في هذه الأرض التي لُعِنَت بسبب الخطيّة وليس سهلاً على كرامة الله وسلطانه أن يُهان ابنه الذي شهد له بنفسه. فعند معمودية الرب يسوع في نهر الأردنّ أمام يوحنّا المعمدان، يقول البشير متى: "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.»" (متى 16:3-17) وتكرّر هذا القول في مشهد جبل التجلّي (متى 5:17). فقد كان الرب يسوع موضوع مسرّة الله، ويقول عنه كاتب رسالة العبرانيين: "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي." (3:1) فكم كان غاليًا ذلك الثمن، وكم كان عزيزًا على الله الآب أن يُهان هذا الابن السماويّ البارّ ويُحتَقَر، ويُتفَل عليه، ويُجلَد، ويُلْكَم، ويُعرّى، ويُصْلَب بين المجرمين ثمّ يموت، ويوضع في قبرٍ في الأرض لأجلِ إتمام عمل الخلاص! ولكنّه قام في اليوم الثالث بقوَّةِ لاهوته. فقد تمجّد بعد تواضعه على قدرٍ أعظم وأسمى وأرفع!

4- النتائج العُظمى: في كلِّ مشروعٍ مهمّ حينما يضع صاحبه الخطّة فأهمّ ما يدرسه أوَّلًا هو مقدار الجدوى أو الفائدة، وهل تتناسب مع مقدار الكلفة أوّلاً، وكلّما كانت الجدوى أعظم يكون العمل ناجحًا أكثر. وهكذا فإن مسرّة قلب الله ورضاه على تضحيات الابن الحبيب سببها تلك الجدوى العظيمة التي أحرزها الرب يسوع بموته وقيامته حيث أعاد الإنسان إلى دائرة الشركة مع الله، بمجرّد الإيمان بكفّارة دم المسيح المصلوب لأجل خلاصه، وبقيامته المجيدة لأجل تبريره، وبالتوبة والإيمان يعود فيصبح ابنًا لله من جديد. ويصف الكتاب بكل أسفاره عظمة هذا الخلاص... ونبيِّن هنا بعضًا من جوانب هذه العظمة التي هي على مقدار عظمة هذا المخلّص نفسه وهي:

أولاً، هو خلاصٌ فاضل: أي بدون أعمال ولا مقابل، بل هو عطيّة مجانيّة من الله بالنعمة. تقول النبوة: "أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً، لأَنَّ غَضَبِي قَدِ ارْتَدَّ عَنْهُ." (هوشع 4:14) ويقول الرسول بولس: "لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ­ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ." (تيطس 5:3)

ثانيًا، هو خلاصٌ شامل: يقول الرسول بولس: "بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ." (رومية 22:3-23)

ثالثًا، هو خلاصٌ دائم: يقول كاتب رسالة العبرانيين: "وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا." (12:9) ويقول أيضًا: "لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ." (14:10)
"وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ." (عبرانيين 9:5)

عزيزي القارئ الكريم، إن كنّا لا نستطيع أن نتحكّم بموضوع أجسادنا في جهة صحّةٍ أو مرضٍ أو حياةٍ أو موتٍ، فكيف نستطيع أن نتحكّم بأبديّتنا؟ لقد أُكمِل هذا الخلاص العظيم من أجلِ كلِّ واحدٍ، ونحصل عليه بالإيمان فقط.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2024