وردتنا رسالة من صديق أثارت تصميمنا على التعليق عليها من خلال هذه الحلقة.

يقول هذا الصديق: "فتحت الراديو قبل موعد نومي مساء يوم الاثنين وإذا بي أستمع إلى حديثٍ شدّ انتباهي عندما تساءل المتحدّث قائلًا:
"لماذا التخوّف من الإطلاع على معتقدات الغير؟" هذا الحديث أعاد إلى ذاكرتي ما حصل معي قبل سنوات. فقد دفعني الفضول يومًا، أن أطلب من صديق لي، نسخة من الكتاب المقدس كالذي كان يملكه. وعندما وقع الكتاب بين يديّ وقلّبت بعض صفحاته لأوّل مرّة اهتزّت مشاعري، وخانتني قدرتي من أن أحمل الكتاب وأدخله بيتي، فقد سمعت الكثير من الكلام ضدّ هذا الكتاب منذ صغري. فوقعت في حيرة وتساءلت: هل أعيد الكتاب إلى صاحبه أم ماذا؟
وما زاد حيرتي، أن صديقي الذي أهداني الكتاب، كان يؤمن بكل حرفٍ ورد فيه، ويؤكّد على سلامته بثقة بالغة. وصديقي هذا مشهود له بالصدق والأمانة وحسن السيرة، ولديه من الأدب والعلم والتقوى ما انتزع له التقدير والاحترام من كل زملائه في العمل.
تركت الكتاب المقدس يومها في درج مكتب عملي، وفي اليوم التالي وجدت طريقة للخروج من الأزمة وتخلّصت من الكتاب."
حديث البرنامج في تلك الليلة أثار فيَّ بواعث جديدة فخطَّأت نفسي وتساءلت لماذا تصرّفت بهذا الأسلوب السخيف؟ ولماذا نشأتُ أنا وغيري على هذه الصورة من التفكير الضيّق؟ ولِما التخوّف من الإطلاع على معتقدات الغير؟
عزيزي القارئ، المشكلة التي أربكت صديقنا المستمع ليست بالضرورة بسبب الاختلاف الديني. فالمجتمعات البشرية اليوم فيها الكثير من التشكيلات الدينيّة، والناس بحكم الجوار والمداخلات الاجتماعية يتعرّفون على معتقدات بعضهم البعض بسهولة.
ثم نحن كثيرًا ما نردّد القول: “إن العلم بالشيء خير من الجهل به”، والأديان لا تناطح بعضها بعضًا، إنّما المناطحة – إن جاز التعبير – فهي من غرس المتزمّتين من البشر أيًا كانت عقيدتهم. فالمشكلة من خلق الناس وما أُنشئوا عليه من تحفّظاتٍ لا مبرّر لها.
مشكلة كهذه تزداد تعمّقًا في أوساط من يوصَفون بالبساطة وكدت أقول السذاجة، إذ عندما يسمع الواحد منهم رأيًا أو تفسيرًا من أحد الناس يتبنّى السامع رأيه كليًّا من غير فحصٍ أو حوارٍ مع الذات، وكأنّه وحيٌ هبط عليه من السماء.
وهذا يحصل أيضًا مع بعض المسيحيّين المتزمّتين المتعصّبين لطوائفهم كما يحصل مع غيرهم. فأساليبنا كشرقيّين متشابهة إلى حدٍّ كبير، وكلّنا يحتاج أن يتدرّب على أسلوب الحوار العلمي المتّزن كي يقبل بعضنا بعضًا رغم الاختلاف في المعتقد، وأن لا نجعل من الدين عقدةً نحمِّله وزرها في عزل شرائح المجتمع نفسيًّا أو اجتماعيًّا عن بعضها البعض.
عزيزي القارئ، إنني لا أتبنّى رأيًا أو عقيدة دينيّة تلقّيتها من أحد - حتى ولو كان ذاك عالِمُ زمانه - إن لم يقدّم لي البرهان القاطع من كتاب الوحي. فأنا لا أبني عقيدتي على رأي الناس. وكثيرون هم أصحاب التقوى والتديّن المخلصين في تقواهم من تبنّوا معتقداتٍ معيَّنة لا أساس لها في كتاب الوحي الذي به يؤمنون... والسرُّ في ذلك أنهم استقوها بناء على رأي معلِّمٍ بارعٍ مفذلك استطاع بفذلكته أن يشدّ الناس إليه فتبنّى سامعوه آراءه ببساطة دون تفحّص وكأن ما يقوله هو وحي مُنزَل من عند الله.
ولماذا نبعد بعيدًا؟ فها هي ديانات أهل الغرب وأهل الشرق.. فلكلِّ دين منها فروع، ومدارس، واجتهادات، أو طوائف – سمِّها ما شئت – ولكلٍّ منها لون عقائدي ينفرد به حتى وصل الأمر بالبعض أن يكفِّر البعض الآخر ضمن الدين الواحد، فيصنّف هؤلاء للنار، وهؤلاء للجنة، مع أن الدين واحد، والرب واحد. ويعود السبب في تبعثر المدارس الدينيّة والآراء المتنافرة بين أصحاب العقيدة الواحدة إلى التطرّف في تفسير المبادئ الدينيّة، فالدين لا ينقسم على ذاته، ولكن مداخلات البشر هي التي تُحدِث الانقسامات وتخلق التفرّق والشتات. وها نحن اليوم نرى أحزابًا أو طوائف دينيّة معيّنة تحارب بالسلاح فروعًا أخرى من ذات عقيدتها تنتمي إلى ذات الدين الواحد. فالتطرّف في التفسير وشحن الناس بدوافع التعصّب يثير الزوابع، والعواصف، والمشاحنات، ويُعمّق الهوّة بين شرائح المجتمع الواحد.
التقيت يومًا شابًا في ساحة الجامعة. لاحظ الشاب نسخة من الإنجيل بين كتبٍ لي على المقعد المجاور فاستأذن مني وابتدأ يقرأ فيه بصمت، وبعد لحظات نظر إليّ وقال: “هل هذا هو الإنجيل المحرّف؟”
فضحكت لسخافة السؤال، “فبعض البليّة ما يُضحِك”. ثم تجاوزت الصدمة، وبكلّ هدوء اتجهت إليه وقلت: “هيا بنا نجلس حول تلك الطاولة لنتحاور حول ما طرحت، وجلسنا.
فقلت له: في أي سنة من الدراسة الجامعية أنت؟
قال: في الثالثة.
قلت: وما هو التخصّص؟
قال: الفلسفة.
قلت: ما هو برهانك حول تحريف الإنجيل؟
فصَمَتَ قليلًا ثم هزّ رأسه وقال: لا أعرف.
قلت: هل قرأت القرآن؟
قال: نعم.
قلت: هل وجدت فيه نصًّا يقول بأن الإنجيل محرّف؟
قال: لا أعتقد.
قلت: على ماذا بنيت المصطلح الذي طرحته بأن الإنجيل محرّف؟
فزاغت عينا الشاب شمالًا ويمينًا، وبدت الحيرة عليه وصمت لثوانٍ ثم قال: “هيك علّمونا”.
فقلت: أنت شاب جامعي، وتدرس الفلسفة، والمنطق، والأصول، كيف تتبنى فكرةً تحكم بها على كتابٍ سماويّ هو كتاب وحيٍ من عند الله بأنه محرّف ولا تملك الدليل، فتبني معتقدك على قولِ من قال؟ ولما لم يجب قلت: ثم، هذا كتاب يقدِّسه زملاء لك من حولك ومواطنون آخرون من أهل بلدك من الدين الآخر، فكيف تتجرّأ فتتّهمه بالتحريف بهذه البساطة ولا تستند على علم! هل تقبل هذا لنفسك؟ ولما أحسّ الشاب بالحرج تمتم معتذرًا بكلماتٍ مبهمة وانسلَّ بإحساس من الخيبة.
عزيزي القارئ، في بحثنا هذا نحن لا نخطِّئ دينَ أحد، فهذا ليس من عادتنا. إنما أشرنا إلى هزالة الادعاء الذي لا تقرّه كتب السماء، ولا يستند إلى علم صحيح أو شاهد مقنع.
تحتوي مكتبتي على تشكيلات أعتزّ بها من كتبٍ ومجلداتٍ وأبحاثٍ متنوِّعة. بين هذه الكتب نسخًا من القرآن وتفاسيره، وكتبًا أخرى تمثّل وجهات النظر الإسلامية، وكتبًا درزيّة، وماسونيّة، ووجوديّة، وشيوعيّة، وكنفوشيّة، وبوذيّة. وفي مكتبتي ما يسلّط الضوء على مذاهب منحرفة نبتت في أوساط المسيحيّة لكنّها انحرفت وخرجت عنها بعيدًا، مثل المورمون وشهود يهوه، ولديّ في مكتبتي من الكتب ما يتعارض مع المسيحيّة ويعاديها، ورفوف مكتبتي مفتوحة، حرَّة، بلا أقفال. وهي في متناول أيدي أبنائي، وأهل بيتي، وأصدقائي. لا يقلقني ذلك، فأبنائي نشأوا في أجواء العائلة أحرارًا في اختيار ما شاءوا، وهذا عزّز فيهم الثقة بالنفس في اختيار ما يريدون، بلا إكراه أو تهديد، أو تحديد ما يجب أن يقرأوه وما لا يجب.
والحصيلة، أنهم اليوم مؤمنون مسيحيّون مفخرة لوالديهم وللكنيسة التي ينتمون إليها. وهم والشكر لله عيّنة من عيّنات أخرى كثيرة يحتاج لمثلها الوطن.
ملخَّص الحديث: إن الفكر الحرّ الذي لا يتعرّض للضغوط الهادفة أو لغسل الدماغ... يسهل عليه أن يتعرّف على الحقيقة بلا إكراه.
عزيزي الكريم، حريّتك هي منحة من الله، منحها الخالق لآدم ونسله من بعده منذ بدء الخليقة. فالإنسان فرد حرّ، مسؤول عن تصرّفه أمام ربّه، والحريّة ليست الإباحية.. وليست القفز فوق الأنظمة، واللوائح، والقوانين، وهي ليست الاستهتار بالقيم والآداب العامة كما يريد البعض أي يصوّرها، فبالحريّة ميّزك الله عن الحيوان. الإنسان حرّ مُخَيَّر... والحيوان مخلوق مُسَيَّر. هكذا خلقنا الله.
تمسّك بحرّيتك، لا تجيّرها لغيرك، فهي ليست سلعة تُباع وتُشترى، ومع الحريّة تمسّك بالأدب وخوف الله.

المجموعة: تموز (يوليو) 2025