ورد لقب “ابن الإنسان” في العهد الجديد اثنتين وثمانين مرّة. وكلّها تردّدت

على لسان السيد المسيح باستثناء مرّتين. وهو الذي لقّب نفسه بهذا اللقب. ولم يردْ هذا اللقب عن غير لسان المسيح إلّا مرّتين حين قال استفانوس: “ها أنا أنظر السماوات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله” (أعمال 56:7).
جاء هذا اللقب في البشائر وحدها إلّا في المرّة الوحيدة الذي جاء ذكره على لسان استفانوس في أعمال الرسل – وهو لقب اختاره المسيح ليشير به إلى نفسه بدلًا من أن يقول “أنا”. ماذا يعني لقب ابن الإنسان بالنسبة لنا؟

حقيقة إنسانيّته
إن دارس تاريخ الكنيسة يكتشف أن الصعوبة عند المسيحيّين الأوائل لم تكن في أن يؤمن المسيحيّون بألوهيّة المسيح - لقد كانت هذه الحقيقة واضحة لا تقبل جدلًا - لكن الصعوبة كانت بأن يؤمنوا بإنسانيّته الكاملة.
اختار المسيح هذا اللقب ليؤكّد لنا أنه الإله الكامل وهو أيضًا الإنسان الكامل. فهو إنسان وُلد... ويتحدّث الكتاب عن نموّه “كان الصبيّ ينمو ويتقوّى بالروح ممتلئًا بالحكمة” (لوقا 39:2). وقد تعب... “إذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر.” (يوحنا 6:4) ثم نام... “غطّت الأمواج السفينة وكان هو نائمًا” (متى 24:8). ثم جاع... “عندما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا” (متى 2:4). ثم عطش... “قال: أنا عطشان” (يوحنا 28:19). وهو اغتاظ... “لما رأى يسوع هذا اغتاظ وقال: دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم” (مرقس 14:10). ثم غضب... “فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم” (مرقس 5:3). ثم تحنّن... “لما رأى الجموع تحنّن عليهم، إذ كانوا... كغنمٍ لا راعيَ لها” (متى 36:9).
ثم أحبّ... “فنظر إليه يسوع وأحبّه” (مرقس 21:10). ثم حزن... “وابتدأ يحزن ويكتئب” (متى 37:26). وبكى... “بكى يسوع” عند قبر لعازر (يوحنا 35:11). وجُرِّب... (متى 4، لوقا 4). وصلّى... عدّة مرّات (متى 23:14) وأطاع... “مع كونه ابنًا تعلَّم الطاعة ممّا تألّم به” (عبرانيين 8:5) ومات... “وأسلم الروح” (متى 50:27)، وفرح... وقد قرأنا عن ذلك في مواضع كثيرة في أكثر من مناسبة.
كلّ هذه الصفات تؤكّد لنا بشريّته وإنسانيّته. وكان لا بدّ للفادي أن يكون إلهًا كاملًا وإنسانًا كاملًا. ما كان من الممكن أن يفدينا لو لم يكن إلهًا بغير خطيّة، أو إنسانًا عاش وعرف تجارب الخطيّة وانتصر عليها كلّها. فالمسيح حين يتحدّث عن نفسه أنه “ابن الإنسان” فهو يتحدّث عن طبيعته البشريّة.

ابن الإنسان
هو ليس ابنًا لنجار، ليس ابنًا ليهودي، لم يكن ابن جنس معيّن، لم يكن ابن حضارة من الحضارات، لكنه كان “ابن الإنسان”، هو الإنسان الكامل الذي يمثّل الإنسان في كلّ مكانٍ وزمان.
وحين نرى المسيح معلّقًا على الصليب، علينا أن نرى أنفسنا أيضًا معلّقين أمواتًا معه على الصليب. وحين نراه قد قام علينا أن نرى أنفسنا مُقامين مع المسيح وفي المسيح. وحين نراه جالسًا عن يمين العظمة في السماوات، فَلْنَرَ أنفسنا وقد جلسنا معه في السماوات لأنه أقامنا وأجلسنا معه في السماوات.
ليس هو ابنًا لإنسان معيّن، وليس مقصورًا على العذراء.. لكنّه ممثّل لكلّ إنسان في كلّ وقت وفي كلّ مكان.

ابن الله
إن أهمّ مصدر لهذا اللقب نجده في سفر دانيآل 7 وهو يتحدّث عن حلم رآه دانيآل. فقال: “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسانٍ أتى وجاء إلى القديم الأيّام، فقرّبوه قدّامه. فأُعْطِي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبّد له كلّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبديٌّ ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض” (دانيال 13:7).
وهذا يدلّ على أن كلّ ممالك هذا العالم هي ممالك تقوم على الدماء والقتل والخراب والحروب.. لكن جاء بعدها ابن الإنسان الذي أزال هذه كلّها وأقام ملكوته هو لتتعبَّد له كلّ الشعوب والأمم... سلطانه سلطان أبديّ لن يزول.
إذًا، لقب “ابن الإنسان” يتحدّث لا عن مجرّد إنسان، ولكن يتحدّث عن الله الذي جاء في صورة إنسان، والذي سيملك وسيحكم في نهاية هذا العالم.
والمسيح حين استخدم لقب “ابن الإنسان” لم يَصُغْ هذا اللقب من فراغ، لكنّه كان يؤكّد لهؤلاء التلاميذ بأنّه هو ذات الشخص الذي رآه دانيآل قديمًا وأنه هو المسيح المنتظَر، والله الذي سيأتي في الجسد ليملك... ستخضع له كلّ الشعوب وستنحني له كلّ ركبة ويعترف به كلّ لسان.
ويقول: “ماذا يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟” لم يكن يتحدّث عن إنسانيّته فحسب لكنّه كان يعلن ألوهيّته، الله الذي ظهر في الجسد.
في إنجيل لوقا 10:19 يحدثنا المسيح عن سبب مجيئه؟ قال: “لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلِّص ما قد هلك”. في إنجيل متى 18:20 قال المسيح: “ها نحن صاعدون إلي أورشليم، وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم”.
لا سبيل آخر لخلاصنا إلّا في كفّارة المسيح... في موت ابن الإنسان عنّا... لأنه بموته عنّا رفع موتنا، ففيه متنا... وفيه ماتت خطايانا. في إنجيل متى 9:17 يقول: “وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم يسوع قائلًا: لا تُعْلِموا أحدًا بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات”.
وكان لا بدّ أن يقوم لكي نتأكّد أن كفارته قد قُبِلَت، وأن كفارته كاملة وكافية لمغفرة خطايانا. وحدثنا أيضًا عن مجده. ففي إنجيل متى 64:26 يستخدم هذا اللقب قائلًا: “وأيضًا أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء” فأعلن لنا عن مجده ومجيئه ثانية. في إنجيل متى 28:16 يقول المسيح: “الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته”.
تحدّث عن موته... وقد تمّ. تحدث عن قيامته... وقد تمّت. تحدّث عن مجده... وقد تمّ وصعد إلى المجد. وتحدّث عن مجيئه ثانية... ولا بدّ أن يتمّ.
وتحدَّث عن قضائه في هذا العالم.
هذا هو ابن الإنسان... هو ابن الله. هذا هو الإنسان الكامل... والإله الكامل... الذي اختار أن يتّضع لأجلنا... وأن يموت عنا... وأن يتراءى ويشفع فينا... وسيأتي ثانية ليختطفنا إليه.

المجموعة: تموز (يوليو) 2025