من المعروف أن رسالة أفسس هي أكثر رسالة تتحدّث عن الامتيازات والبركات الروحيّة للمؤمنين بالمسيح،
إذ تخبرنا أن الله باركنا بكلّ بركة روحيّة، وأنه اختارنا قبل تأسيس العالم، وأنه سبق فعيّننا للتبنّي لنفسه بيسوع المسيح، وأنه ختمنا بروحه القدّوس الذي هو عربون ميراثنا، وأننا نحن المؤمنين جسده “ملءُ الذي يملأ الكلّ في الكلّ”، وأنّه “أقامنا وأجلسنا معه في السماويّات”، وأنه سيحضرنا لنفسه كعروسه، كنيسة مجيدة، لا دنس فيها... بل مقدّسة وبلا عيب.
ولكن الامتيازات دائمًا تصحبها المسؤوليّات. لذلك نجد في الرسالة نصائح كثيرة بخصوص سلوك المؤمن. ويُذكَر السلوك فيها 7 مرات: سلوكنا قبل الإيمان، وكيف يجب أن نسلك الآن، وكيف لا يجب أن نسلك، وفي كلٍّ منها لنا مواعظ نافعة.
1- سلوكنا قبل الإيمان
“وأنتم إذ كنتم أمواتًا بالذنوب والخطايا، التي سلكتم فيها قبلًا حسب دهر هذا العالم، حسب رئيس سلطان الهواء (أي الشيطان)، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية، الذين نحن أيضًا جميعًا تصرَّفنا قبلًا بينهم...” (أفسس 1:2-3).
هذا ينطبق علينا قبل الإيمان، لذلك تجد كلّ فعل هنا في صيغة الماضي: “كنتم... سلكتم... تصرّفنا... كنّا... وبذلك يشير إلى التغيير الشامل بعد الإيمان.
2- سلوك المؤمن في الأعمال الصالحة
“لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدّها لكي نسلك فيها” (أفسس 10:2). إن الله خلّصنا على أساس النعمة وليس على أساس أعمال في برٍّ عملناها نحن بل بمقتضى القصد والنعمة. لكنّه خلّصنا وخلقنا خليقة جديدة في المسيح لأعمال صالحة قد سبق وأعدّها لكي نسلك فيها. هذه الحقيقة - التي نحن عرضة لأن ننساها أو نتناساها تُذْكَر في أماكن أخرى في كلمة الله، فيقول في تيطس 14:2 عن مخلِّصنا يسوع المسيح أنه “بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كلِّ إثم، ويطهر لنفسه شعبًا خاصًّا غيورًا في أعمال حسنة”.
3- السلوك كما يحقّ للدعوة
“فأطلب إليكم، أنا الأسير في الربّ: أن تسلكوا كما يحقّ للدعوة التي دُعيتم بها. بكلّ تواضع، ووداعة، وبطول أناة، محتملين بعضكم بعضًا في المحبة”
(أفسس 1:4-2). يجب أن يتناسب سلوكنا مع مقامنا الجديد. فنحن سفراء عن المسيح الذي قال لنا “تعلّموا منِّي، لأنّي وديع ومتواضع القلب”.. فنحن علينا أن نمثّله أمام الناس. لنفترض أن رئيس دولة استدعى رجلًا محاميًا عيَّنه سفيرًا لدى إحدى الدول، فإنه.. قَبْلَ هذه الدعوة كانت له حياته الخاصة، وكان يصرف وقته كما يشاء. فيذهب إلى أماكن الخلاعة إذا أراد، أو يقامر بأمواله. ولكن بعد أن أصبح سفيرًا، عليه أن يسلك كما يليق بهذا المركز. ونحن قد دعانا الرب “دعوة مقدَّسة” (2تيموثاوس 9:1)، “دعوة سماويَّة” (عبرانيين 1:3). لذلك يجب أن نسلك كما يحقّ للدعوة التي دُعينا بها، والسلوك اللائق بهذه الدعوة هو السلوك بالتواضع، والوداعة، وطول الأناة، والاحتمال، والمحبّة.
ويقول الرسول بولس إلى أهل فيلبي: “فقط عيشوا كما يحقّ لإنجيل المسيح” (فيلبي 27:1)؛ ولأهل كولوسي: “لتسلكوا كما يحق للرب، في كلِّ رضًى، مثمرين في كلّ عملٍ صالح، ونامين في معرفة الله” (كولوسي 10:1)؛ وللمؤمنين في تسالونيكي: “ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحقّ لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده” (1تسالونيكي 12:2).
4- كيف يجب أن لا نسلك
“فأقول هذا وأشهدُ في الرب: أن لا تسلكوا في ما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا ببُطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر، ومتجنِّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم” (أفسس 17:4-18). للأسف الشديد كثيرون من المؤمنين يقلّدون أهل العالم، لا في الأمور النجسة طبعًا، ولكن في الأمور التي بلا فائدة الناتجة عن بطل ذهنهم (أي عقم ذهنهم، كما تقول الترجمة التفسيرية). فالذهن البشري لا يُنتج ما يفرِّح قلب الله، “لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله.. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله” (رومية 7:8). لذلك يقول: “وأما أنتم فلم تتعلّموا المسيح هكذا...”
(أفسس 20:4-24).
5- السلوك في المحبة والمسامحة
“فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء، واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضًا، وأسلم نفسه (للموت) لأجلنا”
(أفسس 1:5-2). المحبة هي أول صفة تُذكر في ثمر الروح في غلاطية 22:5، ويذكر المحبة بمناسبة كلامه عن المسامحة، إذ يقول “وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضًا في المسيح. فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء، واسلكوا في المحبة...” (أفسس 32:4– 2:5). إن كنائس كثيرة لن ترى نهضة روحية قبل أن يتعلم أعضاؤها المسامحة المبنية على المحبة والتمثّل بالله الذي أحبنا وسامحنا في المسيح. وكم أسفر نقصان المحبة التي تسامح كما سامحنا الله عن حزن وبؤس وشقاء.
6- السلوك في النور
“لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور”
(أفسس 8:5). قال المسيح: “ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور”
(يوحنا 36:12). هذا هو النور الناتج عن الإيمان بالمسيح الذي قال أيضًا: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يوحنا 12:8). فالإيمان بالمسيح يجعلنا أولاد النور، ولذلك علينا أن نسلك كأولاد نور. والسلوك في النور يعني أن كلّ ما نقوله أو نعمله أو نفكر فيه لن نخجل منه إذا فُحص في نور قداسة الله. لذلك يقول: “لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبّخوها” (أفسس 11:5). ولنتذكّر أن ”الله نور وليس فيه ظلمة البتَّة. إن قلنا: إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحقّ”
(1يوحنا 5:1-6).
7- السلوك بالتدقيق مفتدين الوقت
“فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأن الأيّام شريرة” (أفسس 15:5-16). “الأيام شريرة” تعني أنها غير مضمونة، ولذلك علينا أن نفتدي الوقت. للأسف، كم من المؤمنين يبحثون عن وسائل للتسلية لكي يصرفوا (وبالأدق ليضيّعوا) الوقت. قال موسى رجل الله: إحصاء أيامنا هكذا علمنا فنؤتى قلب حكمة”. كم يجدر بالشاب أن يخدم الرب في شبابه قبل أن تأتي الأيام الصعبة (جامعة 1:12)، أي قبل أن يصبح غير قادر على الخدمة، وأن يختزن كلام الله في قلبه وذاكرته قبل أن تضعف الذاكرة.
الخلاصة
هذه الرسالة تخبرنا أولًا عن امتيازاتنا وبركاتنا الروحية.. ومتى أدركنا وقدّرنا قيمتها فهذا يساعدنا على السلوك المرضي أمام الله. فقد سلكنا قبلًا في الذنوب والخطايا، أما الآن فعلينا:
أن نسلك في أعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها؛ وأن نسلك كما يحقّ للدعوة التي دُعينا بها؛ وأن لا نسلك كما يسلك الآخرون بعقم ذهنهم؛ بل نسلك في المحبة كما أحبنا المسيح؛ ونسلك في النور لأننا أولاد النور؛ ونسلك بالتدقيق مفتدين الوقت.