زار فلاح إنكليزي مدينة لندن لأوّل مرّة. فذهب إلى متحف للآثار الفنيّة. وكان يستمتع
برؤية الصور الجميلة. وبين تلك اللوحات البديعة كانت لوحة رائعة للمسيح، وهو معلَّق على الصليب. وبينما كان هذا الريفي البسيط يشخص إلى تلك اللوحة ويتأمّلها، تملّكت في نفسه محبّة المسيح المُعلنة على الصليب، فنسي محيطه والناس الذين حوله. وبكل احترام وخشوع صرخ قائلًا: تبارك اسمه كم أحبّه!
ساد صمت على الناس المجتمعين ثم اقترب رجل غريب من الفلّاح وقبض على يده وقال بدموع: وأنا أيضًا أحبّه يا أخي! عندئذ أضاف ثالث ورابع: وأنا أيضًا أحبّه!
ولعلّ هذا هو سرّ النعمة العظيم: أن نحبّ المسيح أكثر من الحياة نفسها... أن نحبه هكذا طيلة الحياة حتى نصبح مشابهين صورته المجيدة، وأن يكون ذلك الحبّ المالئ حياتنا وقلوبنا الدافع الوحيد لخدمة الآخرين.
أيها القارئ العزيز، هل تحبّ الربّ؟ هل تستطيع أن تقول مع هذا الفلّاح وأنا أيضًا أحبّه؟ هل يمكنك أن تردّد مع بطرس الرسول: أنت تعلم يا ربّ أنّي أحبّك؟ هل تشعر أنه مالئ قلبك وحياتك؟ هل انجذبت كلِّيًّا وراءه وتردّد مع عروس النشيد: “اجذبني وراءك فنجري؟” هل تكرّس وقتك ومواهبك وتضع كلّ إمكانياتك وطاقاتك وقدراتك في سبيل خدمته؟ إن أشدّ ما نحتاجه هذه الأيام أكثر من أيِّ وقتٍ مضى هو أن نحبّ الربّ من كلِّ قلوبنا وفوق كلِّ شيء؟ ونجدِّد له الولاء، ونقطع معه عهدًا جديدًا، عهد الوفاء والإخلاص لأنَّنا نعيش في الأيام الأخيرة، في عصر الارتداد والفشل، والخطيّة، والميوعة الروحيّة، وعدم المحبّة. في هذا القرن فترت محبّة الكثيرين من أولاد الله المؤمنين، وخارت عزائمهم، وسقطوا في ميدان الجهاد، وأخذوا يلملمون أذيال الهزيمة في منتصف الطريق لأنّهم انخدعوا في أحابيل الشيطان، وانجذبوا وراء العالم... جذبهم بمباهجه ومسرّاته. انجذبوا وراء المادة فقسّت قلوبهم وأعمت عيونهم وأبصارهم عن محبّة المسيح وخدمته. لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام تجارب العدوّ وهجماته العنيفة التي يشنّها في كلِّ يوم.
لقد أصبحوا مشلولي الإرادة ومذلولي النفس! لماذا ويسوع لا يزال في هذه الأيّام صوته يدوي في كلِّ مكان، يدقّ ناقوس الخطر، ينادي ويقول كما قال لملاك كنيسة أفسس: “عندي عليك أنّك تركت محبّتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتب، واعمل الأعمال الأولى، وإلّا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها، إن لم تتب” (رؤيا 5:2-6)؟
عزيزي القارئ! هذا إنذار خطير موجّه إليك وإليّ لكي نرجع جميعنا إلى محبّتنا الأولى، ونزيل جميع المعطّلات من حياتنا، ونقلعها من جذورها، ونتوب عنها جميعها حتى يعمل الربّ فينا من جديد، ويملأنا بروحه القدّوس، ويطهّرنا، وينقّينا بالدّم الثمين، ويفجّر فينا ينابيع محبّته، ويسكبها في أحشائنا بغزارة... فتضطرم القلوب، ويشتعل الفؤاد بمحبة المسيح، وتتأجّج النيران، وتُسبى العواطف، فتتجدّد النفس.. ويتغيّر مجرى الحياة بكاملها، فيصبح كلّ ما في العالم نفاية في نظرنا.. وجسمًا غريبًا بالنسبة إلينا.. وحينئذ نصبح أبطالًا في الإيمان، جبابرة، مملوئين حيويّة، وقوّة، ونشاطًا، ونستطيع أن نخوض غمار المعركة، وننتصر فيها، ونرفع راية المسيح عاليًا في كلِّ مكان... ونخدم الربّ بغيرة جديدة، وبعزم جديد، وزخم جديد. وسيكون دافعنا الوحيد للخدمة والتضحية والتكريس العملي هو محبّة المسيح التي أُشعلت في أحشائنا.. هذا اللهيب الناري المقدّس الذي لا يطفأ فيما بعد.. ولا يخمد.. بل يزداد اشتعالًا واندلاعًا يومًا بعد يوم.