كتب روحية



الكلمة الأولى: صلاة قصيرة

"فقال يسوع: يا أبتاه، اغْفِرْ لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." (لوقا 34:23)

كتب H. G. Wells قصته المشهورة "وادي العميان" يحدثنا فيها الكاتب كيف ذهب رحّالة إلى وادٍ غريب أغلق عليه النور من كل جانب يعيش فيه قوم كلّهم عميان. عاش الرحالة مدة في هذا الوادي، لكنه كان غريبًا على أهله. قال عنه حكماء الوادي: "إن رأسه متأثر بأشياء غريبة تُسمّى العينين، وهاتان تجعلان رأسه في حالة دائمة من التوتر والاضطراب. وحكم أهل ذلك الوادي أن ذلك الزائر الغريب شاذ ولا يمكن أن يصبح طبيعيًّا حتى تُقلع عيناه. وتعرّف ذلك الرحالة على فتاة عمياء من أهل ذلك الوادي أحبها فطلبت منه أن يقلع عينيه حتى يعيشا معًا في سعادة بين سكان ذلك الوادي. ولكن ذات صباح رأى ذلك الرحالة شروق الشمس على قمم الجبال وكيف سطعت على الزهور بألوان أخّاذة فضاق به الأمر ولم يقدر أن يقتنع بحياة وادي العميان، فتسلّق الصخور وعاد إلى الأرض التي يعيش فيها الناس في النور.
والقصة التي أمامنا تصوّر لنا موقف الناس نحو يسوع عندما عاش في ظلمات خطية عالمنا الشرير. حسب الناس يسوع إنسانًا شاذًا. أرادوا أن ينزلوا به إلى مستواهم العادي ولما فشلوا في ذلك صلبوه.
وفي الجلجثة نقترب اليوم فنرى في دهشة التناقض بين قلب المخّلص المحبّ وقلوب البشر المليئة بالثورة والحقد. والجلجثة هي نقطة التركيز في الوحي والتاريخ والاختبار. ففي الجلجثة قدّم الله أفضل ما عنده بينما قدّم البشر أردأ ما عندهم. وفي هذه الجلجثة تبرر الإيمان وتأكّد الرجاء، وانتصرت المحبة. إن كل ما في الجلجثة من أحداث له دلالته، ولكن أروع ما فيها هذه "الصلاة القصيرة". حاول البعض أن ينكروا هذه الكلمة الأولى معتمدين أنها لم تأتِ في أقدم المخطوطات، ولكن يقول "روبرتسون" إن هذه كلمات يسوع لأنها لا يمكن أن تصدر عن شخص آخر، وهذه الألفاظ لا تناسب أي شفاه. وحاول التقليد أن يضيف كلمة ثامنة إلى كلمات يسوع السبع على الصليب. فعندما طعن الجندي جنب يسوع نظر يسوع إليه وقال: "يا صديقي، يوجد طريق أقصر إلى قلبي." ونحن نستبعد هذه الكلمات لأن يسوع وقت أن طُعن جنبه كان قد مات.

أولاً: يسوع يصلي على صليبه – دلالة الصلاة

إنه أمر محيّر حقًا أن يصلي يسوع تحت هذه الظروف. فالمكان ليس مكان صلاة والوقت ليس وقت صلاة. وكما نفكر نحن اليوم فكّر الناس في أيام يسوع. إنهم لم يعرفوا عن الغفران إلا القليل. فقد كان الرومان يعبدون الانتقام لأنه يعبّر عن القوة، وكان لهم إله اسمه "الانتقام." وكان الناموس العبري "عين بعين وسن بسن" و "دم بدم." وكان الأمر الطبيعي أن الضحيّة التي تعلَّق على الصليب تتلوّى من الألم وتلعن وتبصق على المارة، ولكن يسوع كان يصلّي من أجل أعدائه. وكيف لا تكون الجلجثة هي مكان الصلاة، والمسامير لم تقلع من يديه، ولا لعنات تُسمع؟ وفي هدوء البستان تألم يسوع، إذ نسمعه يقول: "لتكن مشيئتك."
كان الصليب هو اختراع العقل البشري الساقط الذي يريد أن يتشفّى في ضحاياه فيجعل الموت أكثر ما يمكن ألمًا. وكان المصلوب يُترك معلّقًا وهو محموم في حالة هذيان ونصف جنون، ولكن لم يكن أحد يفكّر أن الجلجثة هي أفضل مكان للصلاة.

1- إحساسه بالبنوّة: نرى أن يسوع في وسط الألم لم يفقد إحساسه ببنوّته لله. يقول James Stalker في كتابه [محاكمة وموت يسوع المسيح]: إن كلمة "أبتاه" تبرهن لنا أن إيمان يسوع لم يهتزّ من جراء ما مرّ به وما عاناه. فعندما يُداس البرّ بأقدام الناس وتنتصر الخطية يتعرّض الإنسان لزوابع الشك فيسأل: هل هناك إله محبّ وحكيم يجلس على الكون أم أن ما يحدث في عالمنا هو محض صدفة؟
ولكن عندما صُلب يسوع وأحاط به ذئاب بشرية من كل صوب، وكان غارقًا في بحر من الألم الشديد، لم يفقد ثقته بل قال: "يا أبتاه."

2- إحساسه بإرساليته: لم يفقد يسوع إحساسه بإرساليته بل ظل ثابتًا على خدمته. إنه لم يصلِّ "يا أبتاه اغفر لي." فقد عرف أنه "حمل الله (الذي بلا عيب) الذي يرفع خطية العالم." كان يسوع مخلصًا في اهتمامه بالآخرين. وإذ نتأمله على الصليب، لا نشك لحظة أنه جاء حقًا "ليطلب ويخلص ما قد هلك." إن يسوع لم يفكر في الأذى الذي لحق به من الآخرين، لكنه كان يفكر في الأذى الذي يؤذون به أنفسهم. "يا أبتاه، اغفر لهم." أيها الآب، لا تمسك رحمتك عنهم وإن أمسكتها عني.

3- استمراره في الصلاة: يقول البشير لوقا: "فقال يسوع". وقد وردت بصيغة فعل ماض مستمرّ، أي "فظلّ يسوع يقول." ولعل الصورة تكون في أذهاننا أنه عندما وصل يسوع إلى موضع الجمجمة ونظر حوله رفع قلبه وقال: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم..."
وعندما دفعه قائد المئة لكي يوقع به على الأرض ويربط يديه على الصليب صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما وضعوا إكليل الشوك الذي مزّق جبينه صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما رفعوه على الصليب صلى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما تجمهرت الجموع تسبّه وتلعنه قال: "يا أبتاه، اغفر لهم."
وعندما اقتسموا ثيابه وألقوا قرعة على ردائه صلّى: "يا أبتاه، اغفر لهم."
كم مرة ارتفعت هذه الصلاة لكي تمزّق حجاب السماء؟ لا أحد يعرف. إنها لم تكن التماسًا صوّبه في صياح وفي لحظة رحمة. ولكن الأصح، إن نبرة التأكيد كانت تقصف عرش النعمة عن طريق كوبري (جسر) الألم فكان يردّد: "يا أبتاه، اغفر لهم."
أي نبع نستقي منه الإيمان أروع من ذلك؟ إن الذي يصلي هو المخلّص الذي أحتاجه أنا كمخِّلص. ليتنا جميعًا نقترب منه ونطلب مكانًا في صلاته.

ثانيًا: يسوع يصلي على صليبه – عبرة الصلاة
إن معظم المؤمنين لا يفهمون هذه الصلاة. الصلاة لم تكن طلبًا للصفح عن خطايا الذين كانوا عند الصليب وإلا فما معنى قول المسيح "يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكنّ، لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها: طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثديّ التي لم ترضع! حينئذ يبتدئون يقولون للجبال: أسقطي علينا! وللآكام: غطينا!" وكانت هذه نبوة لخراب أورشليم والخطاة الذين فيها.
وهذه الصلاة لا تنسجم مع العدل الإلهي والمنطق البشري. عندما يرفض الناس غفران الله لا يُفرض عليهم – الله ليس طاغية ولا يكون الإنسان ضحية. قَبِل يسوع الصليب حتى يعمل عدل الله ورحمته في انسجام مع الإرادة الحرة للبشر. إن صلاة يسوع لا تتجاهل نفس الشيء الذي جعل موته ضروريًا – لا غفران بلا إيمان – لا يُقحَم الصفح على الناس.

1) هذه الصلاة لا تبرر الجهل: في معظم الخطايا يوجد خليط غريب من الجهل والمعرفة. ربما كان بيلاطس يجهل يسوع، لكنه كان يعرف أنه بريء. ربما كان اليهود يجهلون يسوع أنه المسيا، ولكنهم كانوا يعلمون أنه سُلّم إلى بيلاطس حسدًا. قد يتجاوز يسوع عن الجهل مدة حتى يبدّده ويقلعه ولكن يسوع لا يبرر الجهل ولا يقبل الإهمال. الإهمال معناه الخطية والجهل معناه الخطية، ويسوع لا يتسامح مع الخطية.

2) هذه الصلاة ليست من أجل صالبيه
يقول البعض: ما دمنا قد خلصنا بموت المسيح، وحيث أن الذين كانوا عند الصليب هم الأداة في الموت، فمعنى ذلك أنهم السبب غير المباشر في البركة التي خلّصت العالم.
كلا! إن الذين صلبوا يسوع هم وكلاء إبليس "بأيدٍ أثمة صلبتموه." لقد قصدوا تحطيم العالم، ولكن الرب قصد به خير العالم.

3) هذه الصلاة كانت بديلًا عن الخطاة - بصفة إيجابية. لما قال: "اغفر لهم" كأنه يقول "أنا أتحمّل دينونتهم". عرف يسوع أن دَين البشرية كبير لا يوفيه غيره. وهنا يفرز نفسه لخلاصهم. وكأنه يقول للآب: "أضف خطاياهم على رصيد محبتي." "سأدفع أنا عنهم الدين..." "الذي لم يعرف خطية، صار خطية لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه."

قد قضى ديني... كله الحمل     حينما مات لذا، قال: قد كمل

4) هذه الصلاة كانت فاصلًا بين الجهل والمعرفة: لم تكن الصلاة من أجل يهوذا، فقد عرف أن سيده بريء ولم يكن جاهلاً. ولم تكن من أجل بيلاطس لأنه قال: "لم أجد فيه علة." فلم يكن لبيلاطس مكانًا فيها.
الجنود يجهلون يسوع... المارة يجهلونه... اللصان لم يعرف أحد منهما من هو ولم يعرفا شيئًا عنه – الجهال هم الذين لا يعرفون؛ يجهلون بلا تفكير وهم لا يعرفون - يهوذا وبيلاطس لم يجهلاه بل درسا تعاليمه ثم رفضاه. اللص لما دخلت المعرفة إلى قلبه طلب الخلاص، هذا اللص كان له مكانًا لأنه ميّز بين الخير والشر. المعرفة التي ترفض يسوع، لا يصرخ يسوع ولا يصلي من أجلها.

5) هذه الصلاة كانت طلبَ إيقاف دينونة خطاياهم حتى يدركوا معنى ما فعلوه أو عملوه. كان الطلب لا صفحًا بل تأجيلاً... "اتركها هذه السنة أيضًا." لاحظوا الكلمة المترجمة "اغفر"... معناها "دعوا" في عبارة [دعوا الأولاد]، ومعناها "أترك" في عبارة "أترك. لنرى هل يأتي إيليا ويخلصه!" "يا أبتاه، دعهم... أتركهم..."
كان الجميع يجهلون عظمة هذه الذبيحة على الصليب، حتى التلاميذ... ولكن لما ظهر الحق واضحًا بشّروا به ونادوا به للعالم، وكأني بالمسيح يطلب لهم مهلة من الآب. قال بطرس للذين صلبوه: "والآن أيها الإخوة، أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم، كما رؤساؤكم أيضًا... فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب." (أعمال 17:3 و19)
استجاب الرب صلاة يسوع، فقد آمن به كثيرون... ولو لم يؤمنوا لكان عليهم أن يحملوا تبعة أعمالهم. كان الرب يصلي وهو يرى له شعبًا وسط الذين التفّوا حول الصليب. كان يطلب لهم تأجيل يوم القضاء والدينونة فلربما عرفوا وآمنوا بمحبته.
لماذا لا يضربنا الله عندما نسقط؟ لماذا يتأنّى الله على الخطاة؟ لماذا يسمح للعالم بالدماء والحروب بينما ينام العدل؟ يقول الكتاب: "لا تضلّوا! الله لا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا." (غلاطية 7:6)



الكلمة الثانية: وعدٌ مدهش

"فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.»" (لوقا 43:23)

إن قصة هذا اللص التائب تُعتبر من أدهش وأروع حوادث الأناجيل. وحتى نستوعب هذه الحقيقة نعود إلى الوراء لكي نحيط بظروف القصة. كان المصلوبان معلّقَين كل واحد على صليبه، وكانت الدقائق تمرّ بالنسبة لهم كدهور طويلة من شدة الألم والعذاب. فقد ذهب تأثير جرعة الخلّ الممزوج بمرارة التي شربا منها. ويحدثنا البشير متَّى أن اللصَّين انهمكا في تعيير يسوع والتهكّم عليه: "خلَّصَ آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتّكل على الله، فلينقذه الآن إن أراد!"
وبينما انشغل هذان بالتجديف والسخرية كان يسوع يُمضي وقته في الصلاة قائلاً: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون."
وكان يسوع على الصليب في الوسط فقد حسبوه أجرم المصلوبين الثلاثة. وحتى ذلك الوقت كانت مأساة الصلب تسير سيرًا عاديًا كما سارت مع كثيرين من قبل. ولكن شيئًا ما حدث، ففي وسط سخرية التجديف واللعنات نال أحد اللصين أعظم هبة يمكن أن ينالها الإنسان. لقد حصل على وعد الخلاص في الدقائق الأخيرة من حياته. وهنا يقف اللاهوت المسيحي مندهشًا وهو يرى أعجب خلاص حدث في التاريخ المقدس. فقد نقض نظام الذبيحة والكفارة، وحصل اللص على خلاصه دون فريضة معمودية، أو عشاء رباني، أو انضمام إلى كنيسة، أو حتى إلى أعمال صالحة، وهدم عقيدة المطهر (مكان بين الجنة والنار لتطهير النفس بعد الموت). لقد نال ذلك الخاطئ الخسيس خلاصًا، وفي لحظة من الزمن تحوّل اللص إلى قديس يسكن الفردوس دون أن تلاحقه خطية واحدة من خطايا الماضي. ونقضت عقيدة الخلاص الجماعي، فقد نال واحد فقط غفرانًا دون كل العالم. إن يسوع لم يقل: "اليوم تكونون معي في الفردوس" بل قال بصيغة الفرد: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس." وكذلك تصوّر البعض أن النفس تكون بعد الموت في حالة نوم، ولكن الدلالة الحاسمة للقصة أن اللص سيكون في شركة واعية مع مخلصه في الفردوس رغم دفن جسده في أي قبر من القبور. ونركز الحديث في نقطتين هامتين:

أولاً: صرخة الاستغاثة
لا يدرك كثيرون أن اللصين كانا يصرخان ليسوع. إن صراخهما صلاتين مختلفتين تطلبان انتباه يسوع والتفاته. فقد كان اللص غير التائب يصرخ طالبًا خلاص نفسه: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." أما اللص التائب فقد عرض أن يضحي بنفسه وكانت كلماته تعني كالآتي: "أبقى على الصليب وأربح الملكوت." ونلاحظ أن اللصين أعلنا إيمانًا من نوع ما. فقد قال الأول: "إن كنتَ أنت المسيح..." ربما بدت في لهجته لغة السخرية، ولكن صيغة الجملة في اللغة اليونانية تفيد بأنه كان ينتظر إجابة وإن كانت العبارة كما لو كانت سؤالاً يحمل إجابته في ذاته. على أننا نرى تعبير الإيمان في لهجة هذا اللص الساخر أكثر من غيره، فكلماتها تشبه إلى حدٍّ كبير اعتراف بطرس "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ." وعلى أقلّ تقدير عرف ذلك اللص أن يسوع له القدرة أن يغيّر حاله وله القدرة أن يرفض الصليب ويطلق اللصين من آلام الموت الجسدي. والحقيقة أن كلمات ذلك اللص لا تحمل أدنى إشارة للخطية أو الخلاص بل لعلها كانت محاولة للهروب من المصير المحتوم.
أما إيمان اللص التائب فيختلف عن ذلك. كان إيمانه يرتبط بملك وملكوتِه. أما الملك وملكوته فيعتمدان على نجاح تجربة القوة التي يجريها الملك على الصليب. وأقلّ ما كان يطلبه ذلك اللص هو أن يكون في الحسبان عندما يتبوّأ الملكُ مُلكه. لقد كان يرغب في نصرة يسوع رغم أنه لم يفهم كل تفاصيل شخصية يسوع. وكان يقدِّم ليسوع إخلاصه الشخصي وولاءه التام به. وهنا نرى استغاثة الخلاص من لعنة الخطية، ونرى قيمة الفداء. بل ونرى الزمن وكأن لا دلالة له أمام بحار الأبدية.
والفرق الواضح بين صلاة اللصين يعيد إلى أذهاننا تجربة البرية ومحاكمة جثسيماني. فقد كرّر اللص غير التائب كلمات الشيطان في تجربة البرية وفي إغواء حواء في الجنة. هل كان الشيطان يعيد الكرة مرة أخرى مستخدمًا كلمات اللص؟
إن القرارات التي نأخذها في حياتنا كثيرًا ما تكون موضع إعادة نظر، فهل قصد الشيطان أن يعيد المسيح النظر في نفسه؟ وهل كان كلام اللص بقصد أن يمتحنه أن يختار بين النزول عن الصليب أو قبول عاره؟
وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نستطيع أن نتصوّر كيف وصل يسوع في اختبار الجلجثة إلى النقطة التي استطاع أن يتصوّر فيها الجزاء الذي يعطيه الآب لآلامه. وإن استطاع أن يشرب كأس الألم بنجاح فسيستطيع أن يكسب إخلاص اللص التائب وكل الخطاة الذين على شاكلته. والحقيقة أن ذلك اللص لم يكن يستحق الخلاص - وبالمثل كل اللذين على شاكلته.
تعالوا نتأمل لحظة في مكافأة آلام المسيح. إن النصب التذكاري لانتصار النعمة هو صوت اللص المعترف بجريمته. ففي تقديره الكامل لنفسه لم يكن يستحق شيئًا. "أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محلّه." كان اللص يرغب في الخلاص، ليس بالضرورة من الصليب ولكن من خطاياه. ولا شك أن يسوع رأى ذلك وأحبّه. والعجيب أن كل المستهزئين وغير المهتمين بخلاصهم يشبهون اللص الآخر. إنهم يريدون أن يتجنّبوا الصليب ولا يبالون بخطاياهم. إن كثيرين من الذين يعترفون بالمسيح لا يذهبون إلى أبعد من ذلك اللص الهالك. إنهم يهربون من الصليب والألم والضيق – إنهم لا يرغبون في يسوع لشخصه. لكن انظر إلى اللص التائب وهو يقول ليسوع: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." وهكذا لم تكن صرخة الاستغاثة التي أطلقها ذلك اللص سهمًا عشوائيًا أطلقه في الهواء دون هدف. بل كانت عاصفة من صرخات الاستغاثة، فقد ظلّ يقرع أذن المخلّص: "يا يسوع اذكرني..." وربما تأخر يسوع في إجابة اللصين على التماسهما، ولعله كان يوازن بين الأمرين. ولكن قفز إلى ذاكرته صورة الصراع الذي بدأه منذ المعمودية حتى جثسيماني. كانت هناك فرصة للنزول عن الصليب، ولكن هل تستحق النتيجة كل ذلك الألم؟ هل يستحق الأمر أن يُصلب من أجل خلاص لصّ؟ وكانت التجربة بالنسبة إلى يسوع أقسى ما يكون.
كان الألم يرتجف والسماء في انتظاره... لقد دخل إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلى الملكوت على أمل الموعد "نسل المرأة يسحق رأس الحية"، وفوق ذلك نرى لصًّا يناديه: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." ولص آخر ينادي: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." اصنعْ لك ملكوتًا ولا تنساني أنا الخاطئ... تُرى، ماذا تكون إجابة يسوع؟ ماذا يختار؟

ثانيًا: استجابة الخلاص
وفي استجابة الخلاص أرجو أن نلاحظ أن استجابة يسوع لصراخ اللص التائب إجابة قاطعة ناهية، "فقال له يسوع: الحق أقول لك: ..." والفعل ماضٍ لحظيّ، أي قال له مرة واحدة، وانتهى الأمر، ولا حاجة للتكرار. فقد حدّد نظرته. وإجابته هنا تنقسم إلى قسمين:

1- مصير يسوع، قبول قضاء الصليب: "فقال له يسوع: الحق أقول لك..." وفي هذا إجابة للّصّين. رفض طلب الأول، وقال: "آمين" للثاني. يسوع يقبل صراخ الخطاة لأنه جاء يطلب ويخلّص ما قد هلك. وصيغة الإجابة في اليونانية تفيد أن يسوع قال، ثم صمت علامة على التركيز والاهتمام. الوقفة معناها "آمين، أو نعم". وكأنه يقول للّص: "سأمضي في معركة الملكوت... لن أخذلك... تستطيع أن تعتمد عليّ... سأنال قصاص الخطية... سأعود لك والفردوس في يدي... إنني أقبل صلاتك لأنك تحب ملكوتي ولا تبالي بعذاب الصليب. أما ذلك اللص الذي لا يفكر في الأبدية فلا شيء عندي له. أيها التائب، لقد أجبتُ طِلبتك. آمين لك... وليس له..."
واستجابة طلبة اللص معناها أن يسوع يقبل قضاء الصليب. ثم فيها قول زكريا: "استيقظ يا سيف على راعيّ، وعلى رجل رفقتي." كان السيف ينتظر كلمة "آمين" علامة على قبوله عملية الفداء ونهاية صراع موت الصليب.
ومعنى "قبوله الصليب"، أنه سيذهب إلى الآب وفي يده الصليب كي يضعه عند قدميه كتذكار لفداء البشرية... ومعنى ذلك عودة آدم إلى الجنة، وأيضًا معنى ذلك أن المحبة لم تفشل في العالم. معنى ذلك أنه لا يستطيع أحد أن يُنزل يسوع من على الصليب: لا قيصر، ولا السنهدريم، ولا الشيطان نفسه. وهنا في هذه النقطة العجيبة في خدمة الرب نرى أعظم معجزة في كل حياته، معجزة لا تساويها أية معجزة أخرى لأنها تشير إلى كمال إعلان التجسّد.

2- مصير اللص – القسم الثاني من الإجابة: "إنك اليوم..." لم يقدّم الكلمات بصيغة سؤال، "هل تريد أن تكون معي؟" إن يسوع لا يعذبنا بالأماني الخادعة بل يبهجنا بالإعلانات المباركة: "أيها اللص، أنا أتحدّث إليك شخصيًا وأعلن لك أنك اليوم..." وأتخيّل اللص يقول: "... لم أكن أطمع في إجابة الآن... كنت أرجو منه لحظة في المستقبل عندما يؤسس ملكوته، ولكنه قال لي: "إنك اليوم تكون معي..."
إن الفردوس لا يعرف الزمن... مفتوح دائمًا... لا ليل ولا نهار في الأبدية. إنها اليوم دائمًا. لن يرى اللص ليلاً أسودَ، لا صراخ ولا أنين ولا دموع... أيها الخاطئ، هل تعلم أن يسوع يحلّ مشاكلك اليوم وليس غدًا. إنه يلقاك اليوم... لذلك قال المرنم: "اليوم يوم خلاص..." وإن لا تبدأ حياة جديدة اليوم فلن تكون غدًا.
قال اللص: "اذكرني يا رب." وأجاب يسوع: " اليوم تكون معي في الفردوس." لا إلى لحظة أو سنة، ولا في الملك الألفي ولكن "معه إلى أبد الآبدين." إن الخلاص من الخطية هو اتحاد مع المسيح، أي شركة مع الذي اشترك بدمه على الصليب. فالخلاص هو شخصي، أن تقبل المسيح مخلصًا وفاديًا لحياتك. إن المسيح يدعوك ويقول لك: أيها التائب، إن كنت تفتّش عن مكان في قلبي فاقبلني أنا.
وقدّم المسيح فردوسًا لذلك اللص. وقد علّم اليهود بالفردوس، أي بعالم روحيّ بعد الموت وقسموه إلى سبعة سماوات. والسماء السابعة هي سماء الفردوس وفي وسطه شجرة الحياة. الفردوس كلمة فارسية معناها الحدائق المسوّرة. وكانت هبة ملوك الفرس لتكريم المقرّبين. هي نزهة في الفردوس مع الملك. وقد استجاب يسوع إلى نداء اللصّ. وهذه الاستجابة خير برهان على روعة الأمجاد. فهل نتوب عن خطايانا؟
أخذ الراعي يعظ ويحذّر من أخطار التسويف. ماذا لو شكّ اللص؟ ماذا لو أجّل خلاصه؟ فصاح أحد الحاضرين: ماذا تقول في اللص الذي تاب على الصليب؟ فأجاب الراعي: "أي واحد من الاثنين؟" إنه أمر خطير أن نؤجّل.
إن كنت بعيدًا عن نعمة الله، إنه مستعد أن يقبلك فلا تيأس. الرب مستعد أن يقبلك في أي وقت، حتى لو كنت على فراش الموت كما حدث مع ذلك اللص. لا تقل إن وقت خلاصي قد مضى... ولا تتعلّل أنك تقدّمت في السن فلا مكان لك. إن الله يرحّب بك ما دمت تفتح قلبك له بالتوبة. ما دمنا في حياة الجسد فهناك رجاء في الخلاص. فلا تفقد الأمل بل اصرخ: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." وهو يجيبك: "اليوم تكون معي في الفردوس."



الكلمة الثالثة: أمرٌ ملكيّ

"فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ." (يوحنا 26:19-27)

في هذه الكلمة الثالثة التي نطق بها يسوع على الصليب نرى شخصيات الذين بكوا على موته. نعم، فقد كان هناك من يبالي بالمصلوب. كان هناك جماعة شفوقة مثكلة مأخوذة ببشاعة ما يحدث. وكم كان التناقض واضحًا بين هيئة الشفقة الصغيرة وجمهور الشامتين الساخطين حول الصليب.
وعلى رأس هيئة الشفقة وقفت امرأة ثكلَ الحزنُ قلبها. فقد كان المصلوب هو ابنها الوحيد. وكانت تعاني كثيرًا في حياته لأنه لم يكن ابنًا عاديًا كباقي الأبناء. فقد كان تجار الإشاعات يجرحون قلبها وهم يتهكّمون على ولادته الشاذة والمعنى الوحيد الذي يمكن أن يفسر مثل هذه الولادة: "إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد وهو الله." (يوحنا 41:8)
وفي مرات كثيرة وجد يسوع نفسه مضطرًا أن يضحي بوقت العشرة مع أمه وعائلته ويفتدي الوقت من أجل خدمة النفوس المحتاجة. وكم كان ذلك يحزّ في نفسه... جاء إليه واحد يقول له: "هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلّموك. فأجاب يسوع وقال له: "من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟" ثم مدّ يده نحو تلاميذه وقال: "ها أمي وإخوتي." (متى 46:12-50) أما الآن حيث تقف مريم عند الصليب كانت تسترجع كلمات سمعان الشيخ التي تنبّأ بها في الهيكل عندما حمل يسوع على يديه في طفولته "وأنتِ أيضًا يجوز في نفسك سيف." (لوقا 35:2)
ومن بين جماعة الشفقة الصغيرة كانت خالة يسوع وهي أم ابنَي زبدي يعقوب ويوحنا. كانت هناك شفقة بابن أختها وما آل إليه أمره ورحمة بأختها مريم الأرملة الحزينة. وكان هناك أيضًا مريم زوجة كليوباس أخو يوسف النجار. كانت قد جاءت إلى أورشليم حتى تكون مع الأسرة في محنتها. وعلى رأس الكل كانت مريم المجدلية، المرأة التي أبرأها يسوع من سبعة شياطين. المرأة التي كان قلبها يلهج في كل نبضة منه بالشكر والعرفان لجميل محبته وصنيعه معها. وهي المرأة التي خفق قلبها بحب يسوع أشدّ الخفقان، وكانت المجدلية تمثّل جماعة الذين باركهم يسوع بخدمته ومعجزاته.
وكان يوحنا الحبيب هناك. كان الوحيد من الثلاثي المقرّب ليسوع "بطرس ويعقوب ويوحنا" عند الصليب. ظل يوحنا مخلصًا لسيده حتى اللحظة الأخيرة رغم خطورة وجوده عند الصليب في ذلك الوقت. وهكذا اجتمع عند قدميه أقرب وأعزّ الناس إليه في الأرض، فهل كان عند يسوع شيئًا يقوله لهذه الجماعة؟ إنه لا يخذلهم فيختار اثنين من المجموعة، مريم أمه ويوحنا تلميذه ويتحدّث إلى كل واحد منهما. ونحن إذ نتأمل فيما قاله لهما نندهش. فقد جاءت كلماته مخالفة لما كنا ننتظره منه. إنه يتحدث كرب فيعطي أمرًا إلى مريم ويوحنا كما لو كان ملكًا على عرشه. إنه يعيّن الواجبات ويحدّد المسؤوليات لأمِّه وتلميذه ونفسه. إنه ينظِّم الذين أحبوه بعلاقتهم بالصليب.

أولاً: مريم أمه
تكلم يسوع وهو على الصليب إلى أمه أولاً. ونحن نتساءل: أي مركز وامتياز يمكن أن يقدمه لها؟ وأي مكانة تنتظرها في ملكوته المنتظر؟ إن الكلمة الثالثة التي نطق بها يسوع على الصليب تشير إلى العلاقة القريبة التي تربط بين يسوع ومريم. باعتبار الجسد، هي أمه وهو ابنها. وقد كانت هذه العلاقة علاقة ثمينة بالنسبة لمريم. أما بالنسبة ليسوع فإنه يعبّر عن هذه العلاقة بقوله: "يا امرأة، هوذا ابنك." والحقيقة أنه يكسر العلاقة التي تربطه بها. فهو يطلب منها أن تنظر إلى ابنها الجديد ولا يثير التفاتها إلى نفسه بل إلى تلميذه يوحنا. ولعله أراد أن يقول لها: من الآن فصاعدًا ليكن يوحنا ابنك لا أنا.
ونلاحظ أنه لا يناديها من على الصليب بلقب الأم بل يقول لها: "يا امرأة". ونحن لا نشك في طبيعة الاحترام والتقدير التي تضمنتها هذه الكلمة، ولا نقدر أن نتساءل، لكن منذ هذه اللحظة فصاعدًا انقطعت صلة الجسد بين يسوع ومريم بسبب العمل الفدائي على الصليب.

ثانيًا: يوحنا التلميذ
وعندما يشير يوحنا إلى وجوده عند الصليب، يعرفنا دائمًا بشخصه أنه "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه" وهذا تعريف مجيد! ولا نقدر أن نقول إن يسوع أحبّ يوحنا أكثر مما أحب الآخرين. ولكن يبدو أن يوحنا كانت له طاقة كبيرة وعزيمة للشعور بهذه المحبة والامتنان بها أكثر من الباقين. إنه شيء رائع حقًا أن يعرف الإنسان أنه التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. إن الكلمة الثالثة على الصليب تجعل يوحنا مسؤولاً عن أم يسوع بقية أيامها في الجسد. ثم قال للتلميذ: "هوذا أمك." إنها مسؤوليتك يا يوحنا أن تكون ابنًا بديلاً وهو عملك في ضوء تضحيتي أن تكون عزاءًا ملازمًا لها.
ويحدثنا التقليد المسيحي أن يوحنا فهم مكانه، ومسؤوليته تتضمن الحياة المادية لمريم طوال أيام عمرها. ويقول مصدر من مصادر التقليد: إنها عاشت مع يوحنا في أورشليم نحو 11 سنة حتى ماتت. ويقول مصدر آخر: إنها عاشت معه في أفسس ثم ماتت هناك. لكن الشيء الأهم هو أن يكون يوحنا مُخلصًا في المسؤولية التي حملها، وقد كانت هذه المسؤولية تعني الكثير بالنسبة له. كانت إرسالية يوحنا أن يكون بديلَ يسوع. وهل هناك إرسالية في الوجود أعظم وأجمل من ذلك؟ وهو شيء قانوني لكل واحد منا أن يعتبر كل المؤمنين ممثَّلين في شخص يوحنا في هذه المهمة. وهل نقدر أن نقول إن جسد فادينا المادي قد عاد بالصعود إلى الآب، فلا يخيم في الأرض حتى ينتهي عصر الإنجيل، لذلك يجب أن يحمل تلميذه المحبوب كل المسؤوليات التي كان عليه أن يتممها لو أنه بقي في الجسد. إن يسوع يتوقّع أن يذهب كل منا إلى الأماكن التي تحتاج إلى إرساليته، ونخبر بقصة النعمة المخلِّصة كما فعل يوحنا وأمثاله.
لاحظ هنا أنه في العهد الجديد المسيح هو رأس الكنيسة، والعضوية تتكوّن من الجسد. والجسد البشري له أعضاء كثيرة، ولكل واحد عمله. وهذا الجسد الذي نسمّيه الكنيسة له أعضاء كثيرة تقوم بأعمال مختلفة. وكل عضو يجب أن يكون تحت قيادة الرأس، يفعل ما يأمر به الرب بدلاً عنه وكأنهم يعملون نيابة عن الرب. إن الرب يسوع هو القادر على كل شيء، فحتى لو فشلنا في الخدمة فهو يستطيع أن يجول ويكرز بنفسه بطرقه الخاصة... صحيح أن الرب يريدنا أن نكون شهودًا لإنجيله لكنه يبقى هو الشاهد الأمين.
وهنا مسؤولية لا نقدر أن نتجاهلها باحتقار الصليب. فعندما تصل محبته لك ولي من مكان صليبه، فهي تأتي بالمسؤولية المحددة لإرسالية مقدسة لا تجرؤ على إهمالها. إن امتيازنا هو أن نسدد احتياج الرب بأن نكون شهودًا أمناء له.
كان "ميكونيس" واحدًا من أصحاب مارتن لوثر الأعزاء، بل أخًا زميلاً لسنوات عديدة معه في نفس الدير. وكان قد عرف بعزم لوثر على ترك صومعته مستجيبًا لدعوة الله فيذهب إلى العالم مناديًا بالإنجيل. وقد عبّر عن رغبته ومشاركته ومشاعره، ولكنه قال: "ربما أستطيع أن أساعدك أكثر حيث أنا، فسوف أبقى هنا في الدير وفي سكونه وعزلته أصلّي لك وأنت تحدّث العالم الخارجي. كان "ميكونيس" صادقًا في تعهّده، فقد كان يصلّي كل يوم حتى يبارك الرب مجهودات لوثر. ولكنه بعد أن صلى شعر بعدم الراحة فلم يقوَ على النوم ليلاً كما كانت عادته في صومعته. وفي ليلة من الليالي القلقة حلم حلمًا غريبًا، فقد ظهر له المخلص وأظهر له جروحه في اليدين والقدمين من أجل خطايا العالم. ولم يتأكد ميكونيس من ثمن خلاصه قبل ذلك. ثم قال له المخلّص: "اتبعني أنت." وأخذه الرب إلى جبل عالٍ وطلب إليه أن ينظر إلى الشرق، ورأى سهلاً كبيرًا واسعًا كما استطاعت له الرؤية، مليئًا بآلافٍ مؤلَّفة من القطعان، ورأى واحدًا يحاول أن يقودها، وخُيِّل إليه أن الراعي هو مارتن لوثر. ثم أشار المخلّص إلى الغرب، فرأى حقلاً من القمح ممتدًّا كما لو كان إلى نهاية العالم، وظهر شخص واحد يحاول أن يحصد الحقل كله. ونظر الرجل مدقّقًا فعرف في الحاصد شخصية مارتن لوثر وكان متعبًا ومجهدًا لكنه مثابرًا في عمله. وكان الأمر قاسيًا على ميكونيس فقد قال له الرب: "ارعَ غنمي. واحصد حقوله." وصرخ الرجل بعد أن استيقظ: "لا يكفي أن أصلي في صومعتي... يجب أن أرعى غنم الرب وأحصد حقوله... هأنذا يا رب أرسلني... وخرج من الدير حتى ينضم إلى لوثر في عمله.

ثالثًا: نفسه
وبهذه الطريقة التي تعامل بها يسوع مع مريم ويوحنا كان بأي فرصة يضع نفسه تحت الاضطرار. وهل هو يفترض واجبًا مقدسًا على نفسه؟ والحقيقة نعم. فهذه هي الدلالة الابتدائية للكلمة الثالثة. ويجب ألاّ ننسى أن يسوع، وليس مريم، ولا يوحنا، وليس اللص التائب، ولا الجمع الثائر، هو وحده الشخصية الرئيسة في المنظر كله. وقد نختلف مع كثيرين من المفسرين للكلمة الثالثة من على الصليب أنهم يجعلون مريم الشخصية الرئيسية. إن يسوع هو الشخصية العظمى على هضبة الجلجثة.
وأقلّ ما يمكن أن يُقال عن الكلمة الثالثة ليسوع ودلالتها أن يسوع كان يعلن عن رغبته في تتميم آخر تفاصيل الناموس. فقد قال موسى في الناموس: "أكرم أباك وأمك." إن العقلية الحرفية والعالمية للإنسانية تفسّر ذلك في نطاق الطعام والملبس والمأوى. لذلك نراه يعطي تعليمات إلى يوحنا حتى يمدّ مريم بالطعام والملابس والمأوى كابن يصنع الواجب. وهكذا يقدر يوحنا أن يقدم خدمة يسدّد بها جزءًا من دين المحبة الذي أحبه بها الرب. وحينئذ لا يتمكن أحد من تذكُّر حضور أمّه عند الصليب ويقول إنه أهملها.
وكم كان يسوع حريصًا دائمًا لتجنب رائحة نيران الخطية على ثيابه. لقد أفلس الشيطان من كل سبب عادل لأي اتهامٍ أمام الله. كل كلمة وكل إشارة في الناموس قد أُكملت. وهذا ما يمكن أن يُقال عن دلالة الكلمة الثالثة لنفسه ولكنها ليست آخر الكلمات أهمية.
إن الشيء الأكثر دلالة الذي يمكن أن يُقال عن الكلمة الثالثة للمخلص أنها أوضحها وأسهلها فهمًا.



الكلمة الرابعة: صرخة من الأعماق

"وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (متى 46:27)

عندما نطق يسوع بهذه الكلمة الرابعة كانت الأحوال والأحداث قد تغيّرت. كانت الساعة التاسعة حسب توقيت البشير متّى – أي الثالثة بعد الظهر. وخيّمت الظلمة من الساعة السادسة إلى التاسعة على الجلجثة فغطّت هيئة المسيح عن العيون البشرية، فتراجع الساخرون، وخرست ألسنة المتهكّمين، وسيطر على الناس خوف رهيب ملك على قلوبهم. وفي وسط الصمت كانت حشرجة الضحايا وأنّاتهم تقطع الصمت، وهكذا حلّت ساعة سلطان الظلمة والموت، ودخل يسوع حسب النبوات في الظلمة والدينونة.
وعلى حين غرّة مزّقت عنان السماء صرخة خرجت من أعماق يسوع. كانت لغة هذه الصرخة هي اللغة الآرامية، أي لغة طفولة يسوع. قال يسوع بصوت عظيم: "إيلي إيلي..." وفسّر البشير القول: "إلهي إلهي..." ولم أجد بين آراء المفسرين واللاهوتيين ما يشبع. لكنه كان يسوع يكرر بنوع خاص افتتاحية المزمور 22 "إلهي إلهي..." هذا التفسير لا يقوم لأن يسوع تمّم كلمات النبوة عن آلام المسيا.
قال آخرون إنه مات كالشهداء فزلقت هذه الكلمات من شفتيه قسرًا. عتاب رقيق من شدة آلام الجسد – لم يكن يسوع شهيدًا - لأن الفرق بين الشهيد والبديل هو في قول يسوع: "لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا."
درس لوثر هذه الكلمة مدة طويلة وهو صائم ولم يتحرّك من مكانه. ثم قال وهو متعجب ومندهش: "هل ترك الله نفسه؟ من يستطيع أن يفهم ذلك؟ أشعر أنه من المحال أن نصل إلى أعماق هذه الصرخة، ولكي نفهمها، يجب أن ننزل إلى الجحيم بدون خطايانا وعارها. وبذلك نكون كالمسيح فنفهم لماذا صرخ إلى الآب." وحيث أنه محال أن ننزل إلى الجحيم بهذه الصورة لذلك لا يوجد من يفهم دلالة صرخة يسوع، ولا حاجة بنا أن نفهمها أو نختبرها...
إن هذه الصرخة تعلن لنا ثلاثة إعلانات يمكن أن نفهمها وندرسها معًا:

أولاً: ذبيحة المسيح
هذه الصرخة تسلط أفضل نور على تضحية المسيح وبذله من أجل الخطاة. كان يسوع يتألم بشدّة – مع أننا لم نرَ نحن آلام المسيح البدلية عنا – لكن الصرخة كشفت الستار عن كل ما نحتاج أن نعرفه. كشفت الصرخة المسافة التي سارها يسوع للخلاص. بدأ يبحث عن الضال مبتدئًا من العرش، فلبّى حاجة الخطاة حتى وصل إلى درجة ترك الله الآب له، وسار الشوط إلى آخره، إلى الظلمة لكي يحقق هدف التجسد. كان يعرف هدفه ومصيره ولذلك لم يكن الأمر مباغتًا لذلك لم يتحوّل عن الطريق من العرش إلى جحيم الصليب.
تصوّر لنا هذه الصرخة رأس التيس الذي كان يُطرد في البرية رمزًا لخطايا الناس. "ويضع هارون يديه على رأس التيس الحيّ ويقرّ عليه بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيّئاتهم مع كلّ خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس، ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة، فيطلق التيس في البرية." (لاويين 21:16-22)
هذه هي صورة مخلصنا الذي حمل خطايا العالم وذهب بها إلى أرض مقفرة فتم فيه قصاص ذبيحة الخطية. لا يرى الناس في قصة الخروف الضال أكثر من عودة الراعي ومعه الخروف. لكن أهم نقطة هي النقطة التي وجد فيها الراعي الخروف. في هذه النقطة تشوَّه جسد الراعي حتى صار يدمي... هذه النقطة هي لحظة صراخ يسوع: "إلهي، إلهي!" لقد صوّر الرسول بولس ذبيحة المسيح وبذل نفسه بهذه الكلمات: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ." (فيلبي 6:2-8) وأيضًا جسَّم نفس الحقيقة في قوله: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه." (2كورنثوس 21:5)
يحدثنا علماء البيان أن عبارة "جعل الذي لم يعرف خطية، خطية" هي نوع من الرمزية أو الكناية أو المجاز المرسل. والمعنى ليس أن الله جعله تقدمة خطية بل بديلاً للخطاة، وعلى البديل يقع القصاص لكل الخطايا. "احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه." (عبرانيين 3:12)
وجميل أن نفهم ذبيحة المسيح في ضوء القول "احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه":
إن الله جعل يسوع الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، وجعله كفارة لجميع الخطايا كالفسق، والنجاسة، والشهوة، والعداوة، والغيرة، والحقد، والتحزّب، والانقسامات، والسُّكر، والبغضة... لقد كفّر يسوع عن كل هذه الخطايا فسحقها الله في سحق يسوع على الصليب. ووقف يسوع أمام الآب لكي يشفع فينا ويطهرنا من كل خطية تألّم بسببها.
إنه يوجّه دعوة عريضة لكل الخطاة بقوله: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم." الدعوة للعشارين والقتلة والزناة... "من يُقبل إليّ لا أخرجه خارجًا." تحمّل يسوع كل الآلام، وكان يصرخ من أجل حملِ الآلام التي لا نهاية لها. صرخ من أجل القصاص الأبدي الذي سيعاني منه الإنسان. في فترة الصلب القصيرة نال يسوع العقاب الأبدي لجميع الذنوب والخطايا. ولما صرخ يسوع كان جحيمي أنا وجحيمك أنت يلظى سعيرًا وعليه تألم يسوع أقسى الآلام التي لا نهاية لها من أجلي ومن أجلك.

ثانيًا: عذاب الجحيم
حاول الواعظ أن يُفهم الصيادين عن التبرير وعمل المسيح الكفاري على الصليب، فسأل: هل يخبرني أحد ماذا صنع المسيح على الصليب من أجلنا؟ ووقف صياد عجوز وقال: "لقد بادلني... كان بديلي أنا."
في آلام يسوع نرى عذاب الجحيم الذي نزل إليه في الصليب بديلاً عني. آلامه هي الآلام التي كان يجب عليّ أن أتحمّلها أنا في الجحيم إن رفضته أن ينوب عني. إن آلامه وجراحه وصراخه هي إعلانات نبوية للذين ينتظرون ويستمرون في الخطية. فبسبب عذابه، لنا فرصة للهرب من العذاب... إنه يصرخ لكي يحذرنا من عذاب الجحيم الذي ينتظر من يرفض عمله النيابي.
ثم حلت الظلمة فلم يرَ أحد آلام يسوع لكيلا نظن أن هذه الآلام هي كل شيء. هناك ما هو أردأ وأبشع. وعذاب الجحيم له جانبين:
1) الجانب الأول نراه في صراخه: "لماذا؟" لماذا؟ هي لغة ضياع الأمل... لغة القلب المعذّب... ولغة المشاكل المعقّدة... "لماذا؟" هي الكابوس الذي لا نهاية له؟ ولغة من ينادي بلا مجيب. تصرخ والسماء من نحاس. تكرر السؤال: لماذا، ولا صدى؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ إن عذاب الضمير والفكر أقسى من آلام الجسد، والعقلية المضطربة هي ثمرة الخطية. وهكذا يرى علم النفس في الذنب.
2) الجانب الثاني للعذاب في كلمة "تركتني" أو نسيتني – وهي كلمة حزينة مكوّنة من ثلاث كلمات: يترك، وهي أسفل إشارة للهزيمة وعدم القدرة، ثم حرف الجرّ "في"، وهو يشير إلى مكان أو ظرف. إن تركَ شخصٍ معناه حالة من الهزيمة في وسط ظروف مضادة أو معاكسة.
عرف يسوع الترك والنسيان - من عائلته، وبني وطنه من الناصريين، وأمته، حتى أن تلاميذه تركوه عند الصليب – لكنه كان له شركة مع الآب. أما الآن فقد تركه الآب - لقد تراجع نور الشمس – إنه ينكره. ما أبشع أن ينفصل الإنسان عن الله، عن كل خير! لا نور لأنه إله نور، ولا محبة لأنه محبة، ولا حياة لأنه هو الحياة. حرمان من كل شيء إلا الموت واليأس والأسف والضيق... نصرخ ولا مجيب. كل من لم يكن اسمه مكتوبًا في سفر الحياة يُطرح في الظلمة الخارجية حيث النسيان من الله.

ثالثًا: غضب الله
الصليب إعلان محبة الله وهو أيضًا إعلان غضبه. يقول سفر القضاة عن الله: "فحمي غضب الرب." وفي تثنية قال موسى: "لأني فزعت من الغضب والغيظ الذي سخطه الرب عليكم." (تثنية 19:9) ويقول أيضًا في عبرانيين "غيرة نار عتيدة". "لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم..." لقد صبّ الله غضبه على الابن ممثل البشر لأن الخطية دفعته ليحوّل وجهه. "حجبت وجهك فصرت مرتاعًا... إن حجب وجهه فمن يراه؟... لا تحجب وجهك عني."
لما كان يسوع يصارع في البستان جاء إليه ملاك، وفي البرية انتصر. كان الله معه حتى وقف عاريًا أمام العدل الإلهي. لقد حلت الدينونة على الابن الوحيد بدلًا عنا ولم يشفق الله على ابن مسرته الوحيد، ثم حلّت الظلمة حتى تُخفي المنظر لأنه "مخيف هو الوقوع بين يدَي الله الحي!" (عبرانيين 31:10)
في يوم الدين، سيقف كل الخطاة أمام إله غاضب بلا رحمة. "أنت بلا عذر أيها الإنسان."
في قصة لعازر والغني، طلب الغني نقطة ماء من شدة غضب الله عليه في الهاوية.
لم يشفق الله الآب على ابنه يسوع بل بذله من أجلنا أجمعين، ولذلك لا رحمة لمن يرفض نداء المحبة. وسيأتي اليوم الذي سيكون فيه المسيح ديانًا. "الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن." "لأنه أقام يومًا هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجلٍ قد عيّنه، مقدّمًا للجميع إيمانًا إذ أقامه من الأموات." إن الذي يدين هو الذي مات وبذل نفسه كفارة عن خطايانا. لقد تحمّل العذاب وقَبِل غضب الله. ماذا قال الناس عندما صرخ يسوع "إلهي، إلهي!"
لقد سخر الجميع منه وقالوا: "إنه ينادي إيليا. لننظر إن كان إيليا يأتي ويخلصه." لقد رفضوا محبته، لكن الله قَبِل اللص الذي قَبل المسيح بالإيمان.
من أجلك صرخ يسوع... فما هو موقفك؟ِ



الكلمة الخامسة: أنين ما بعد المعركة

"بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كَمَلَ، فلكي يتم الكتاب قال: [أنا عطشان]." (يوحنا 28:19)

عندما نطق يسوع بهذه الكلمات كانت الشمس قد عادت لتشرق بعد ظلمة دامت ثلاث ساعات. لم يكن أحد يظن أن الظلمة التي غطت الأرض ستنقشع. فقد كان رئيس سلطان الظلام يحاول أن يطمس شمس البر فلا تشرق... ولكن هيهات، فقد عاد النور ليسطع في الأرض وفي قلوبنا فنفهم صرخة "أنا عطشان" التي جاءت ما بعد المعركة.
والكلمة التي أمامنا تختلف عن غيرها، فقد أثار يسوع الانتباه إلى نفسه. في الكلمات الأخرى لم يطلب شيئًا لنفسه ولم ينتظر اعتبارًا خاصًا لذاته، ولكن ها هو في الكلمة الخامسة يقول: "أنا عطشان." والطلبة التي طلبها جسدية بحتة، فقد فهم الجنود طلبه لذلك قدّموا له الخلّ، وكان ذلك الخلّ نوعًا من النبيذ الذي اشتهر بأنه شراب العبيد والمساجين لا الأمراء والملوك.
إن عذاب العطش رهيب تعجز أمام وصفه اللغة، ولكن لا يُقارن بالعذاب الروحي الذي نتج عن ترك الله له – لم يكن هدف يسوع أن يثير الاهتمام بآلام الجسد – ولكن الأمر هكذا: لماذا سمح الله أن يغطي الظلام أبشع جانب من العذاب عن أعين الناس؟ رفض يسوع أولاً الخلّ الممزوج بمرارة حتى لا تتخدّر حواسه فيغيب عن وعيه، كان يريد أن يكون في كامل وعيه وصوابه. أما الآن فهو يشرب خلاً بلا مرارة. عندما صرخ: "أنا عطشان" لم يكن يطلب ماء من الجنود. لم ينتظر من الجنود شيئًا، بل أعلن حقيقة شعوره الفعلي بالعطش.
وفي عطش يسوع نرى حقيقتين:

أولاً: إنه يعلن نفسه بأنه الظافر المنهوك
أعلن يسوع نفسه كالظافر الذي أنهكته المعركة. وتتضح حقيقة هذا الإعلان من تقديم البشير: "بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل". وعبارة "بعد هذا" تدلّ على التوقيت. قالها بعد ساعات الظلمة البشعة. وبعد أن تمّ الجانب الرهيب من ذبيحة الفداء بأن "كل شيء قد كَمُل" التي تدلّ على عملية الألم البدلي، احتفظ يسوع بإعلان العطش حتى تمّ كل شيء. وكل شيء هنا هي ذبيحة الفداء... ذبيحة الصليب! لم يكن هناك شيء آخر يعمله، فقد قدّم جسده مرة واحدة إلى الأبد... سحق نسلُ المرأةِ الحيّةَ، انتهى الصراع مع سلطان الظلمة رئيس هذا العالم. "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق..."
الصورة التي أمامنا صورة ظافر منهوك، أنهكته المعركة فوقف ينظر إلى عمله بعد أن انتهى. ولما رأى أنه حقق النصر للبشرية العاجزة التفت إلى جسده المتعطّش.
ينسى الإنسان إعوازه الجسدي وسط المشغولات الذهنية العنيفة. الحاجة إلى النوم أو الطعام التي تغيب وتذوب وسط الانحصار الذهني. وعندما ينفك الحصار يشعر الإنسان بما بذل من جهد وما حلّ به من تعب. ويسوع في وقت التجربة في البرية كان في جهاد روحي كبير، فلما انفكّ الحصار بعد أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا. والآن بعد انحصارٍ يعجّ ويموج بالآلام المُرَّة القاسية، شعر يسوع بالعطش. كان عطشًا شديدًا جارفًا غطت شدّته سائر الآلام، فقال وهو على شفا النهاية: "أنا عطشان."
في صورة الظافر المنهوك نرى الحنان. فقد سكب ماء الحياة الأبدية نفسه حتى الجفاف في جهنم الصليب. القتال مرير والنار تتلظى سعيرًا. قدّم كل ما عنده حتى تشوّه جسده وكان الموت هو الثمن الذي دفعه للنصر. وهكذا رد يسوع عدوّ الخير إلى الخلف.
في صورة الظافر المنهوك نرى عزاء وراحة. رد المقاوم عندما قال: "أنا عطشان". يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويُعتِق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية." وهنا نرى المحارب الذي أهمل نفسه واحتياجاته الشخصية حتى استطاع أن يمسح ميدان المعركة ويرى خصمه خاسرًا مهزومًا، وبعد ذلك بدأ يشعر بحاجته هو فقال: "أنا عطشان."
في صورة الظافر المنهوك لا شكوى. كان أمرًا مألوفًا أن يجزع المحكوم عليهم بالصلب، فيستعطفون ويتوسّلون بصراخ ودموع، وأحيانًا يهدرون تذمّرًا ولعنًا بشراسة. أما يسوع فلم يلفظ كلمة واحدة تنمّ عن الشكوى. حتى هذه اللحظة كان ضابطًا لنفسه محصورًا بالاهتمام بالآخرين والصلاة إلى الآب. المرة الوحيدة التي طلب فيها شيئًا كانت عندما قال: أنا عطشان.
في صورة الظافر المنهوك صبر رائع. إننا نخجل من أنفسنا لأننا بسهولة نتذرّع بأشياء تافهة لنبرّر تذمّرنا وضيقنا. ألم بسيط، صداع صغير يجعلنا نثور ونغضب. لقد انتصر يسوع بنبل على آلامه. هل نتبع مثال المخلص المتألّم في صبره؟
في صورة الظافر المنهوك لا تزمّت. لم يكن يسوع ضابطًا لنفسه عن تزمّت أو كبرياء. الناس يحملون الألم في صمت خشية شماتة الأعداء. كان حول يسوع أعداء أساؤوا إليه وفرحوا في بليّته. كان ممكنًا أن يكتم مشاعره ولا يسأل خدمة أو معروفًا، لكن يسوع قَبِل الشفقة من الجنود، كانت رسالته أن يكشف شيئًا حسنًا في الأشرار. إننا ننسب أحطّ الصفات لمن يختلفون معنا في الرأي ونرفض أن نسمع عنهم كلمة طيبة... لم تكن هذه طريقة يسوع... فقد توقع قطرات من الإنسانية في قلوب الرومان القاسية.

ثانيًا: إنه يعلن نفسه بأنه المخلص المنتظر
لما قال: "أنا عطشان"، أعلن نفسه بأنه المخلص المنتظر الموعود به في الكتب. قال البشير: "فلكي يتم الكتاب قال: [أنا عطشان.]" لم تتكهّن الكتب أن المسيا سيصرخ: [أنا عطشان] ولكنها تكلمت عنه في صورة العبد المتألّم. في مزمور 69 هناك نبوءة تشير إلى أنه في عطشه يسقونه خلاً، فلما صرخ يسوع من العطش كان يعلن عن نفسه أنه الوحيد الذي يتمّم صورة النبوّة عن المخلص المنتظر. يضع يسوع نفسه هدف داود: "وفي عطشي يسقونني خلاً." هل نجهل يسوع في مزمور 69؟ اقرأ الأعداد 1-4؛ و7-9؛ و19-21. لم يكن الماء هو الشيء الوحيد الذي صرخ من أجله يسوع بل إنه الاعتبار. أراد أن يعلن أنه المصالِح الذي تكلم عنه أيوب: "ليس هو إنسانًا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعًا إلى المحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا."
سأل إسحاق على جبل المريّا: "أين الخروف للمحرقة؟" وعند الصليب يصرخ يسوع: "أنا عطشان" لكي نعرف أنه "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم." هذا هو بديل إسحاق!
جاء حكماء المشرق يسألون: "أين هو المولود ملك اليهود؟" وها هو الملك على الصليب يصرخ: "أنا عطشان"، والكتابة على الصليب تقول: "هذا هو ملك اليهود." وهل يوجد ملك يستحق عرش الصليب سوى يسوع؟
وضع الرب علامات صحيحة تعلن عن شخصية يسوع في العهد القديم. ونحن نستطيع أن نكتب عن حياة يسوع من العهد القديم:
الولادة من عذراء: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل." (سفر إشعياء)
الولادة في بيت لحم: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل." (سفر ميخا)
الهروب إلى مصر: "لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني." (سفر هوشع)
هو أعظم من علّم بأمثال: "أفتح بمثل فمي. أذيع ألغازًا منذ القدم." (مزمور 2:78)
يحب الأطفال: "من أفواه الأطفال والرضّع أسست حمدًا..." (مزمور 2:8)
الغيرة على بيت الرب: "لأن غيرة بيتك أكلتني." (مزمور 9:69)
يدخل أورشليم منتصرًا: "قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آت." "اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان." (زكريا 9:9)
يخونه واحد من أتباعه: "رجل سلامتي، الذي وثقت به، آكل خبزي، رفع عليّ عقبه!" (مزمور 9:41)
ويحصى كواحد من المجرمين: "من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصِيَ مع أثمة." (إشعياء 12:53)
تُلقى على ثيابه قرعة: "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون." (مزمور 18:22) ثم أخيرًا، عظمة منه لا تُكسر "يحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر." (مزمور 20:34)
هل ترينا هذه استحالة الخطأ في معرفة المخلص المنتظَر؟ إن صرخة "أنا عطشان" هي التي ميّزته عن غيره. كل ما عمله دلّ عليه، ولكن أهم شيء هو إعلانه الأخير عن نفسه في الجلجثة. إن دعوة الالتفات إليه جاءت في وقت إرهاقه وعطشه لكنها كانت أقوى الكل. من يخطئ هنا في معرفة المخلّص يقع في مأساة أبدية.
رأينا في صرخةِ يسوع الظافرَ المنهوك والمخلِّصَ المنتظر. ولكن هذه الصرخة تذكرنا بصرخات أخرى تتباين معها:
هل يمكن أن يكون هذا الذي قال: "إن عطش أحد فليُقبِل إليّ ويشرب"؟
أهذا هو الذي وقف عند بئر يعقوب مع السامرية يقول لها: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية."؟
أيمكن أن يكون هذا الذي كان على استعداد لأن يطفئ عطش العالم كله، هو نفسه الذي بهمسة ضعيفة يقول: "أنا عطشان"؟ إنه لم يزل يقول: "أنا عطشان!" كيف يا سيد وأين؟ اسمعوه يقول: "عطشتُ فسقيتموني." فنسأل: "يا رب، متى رأيناك عطشانًا فسقيناك؟" فيقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم."
ارفع كأس الماء البارد إلى شفاه إخوة يسوع اليابسة...
قدّم كأسك له فهو عطشان إلى حبك له، وصلاتك إليه... وخدمتك له... وقلبك المكرَّس... في مثل هذه الكأس يرى الرب من تعب نفسه ويشبع! هل تبلّ شفاه يسوع اليابسة؟



الكلمة السادسة: إعلان النصر

"فلما أخذ يسوع الخلّ قال: [قد أُكمل]." (يوحنا 30:19)

عندما قال يسوع: "أنا عطشان" كان يركز الاهتمام على شخصه. أما عندما قال "قد أُكمِل" كان يركز على عمله. ولا يوجد في كلمات الجلجثة أروع من الكلمتين الخامسة والسادسة حيث نرى شخص المخلص وعمله.
وقول المسيح "قد أُكمل" يذكرنا بثلاثة مواضع كتابية: ففي أول سفر من الكتاب نجد القول: "فأُكملت السماوات والأرض وكل جندها." (تكوين 1:2) وكذلك نجد القول "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا." (تكوين 31:1) ومن القول نجد الخالق وقد أكمل عمله، فلا يمكن إضافة شيء لتحسينه وكذلك لا يمكن إنقاصُ شيءٍ منه. وفي منتصف الكتاب المقدس جاء قول يسوع من على الصليب "قد أُكمل"، ومن القول نجد الخالق وقد أكمل عمله الكفاري فلا يحتاج إلى شيء آخر. وفي نهاية الكتاب المقدس نقرأ في سفر الرؤيا عن الملاك السابع الذي صبّ جام غضبه "فخرج صوت عظيم من هيكل السماء من العرش قائلاً: قد تمّ." ومن النص نفهم أن ملك الملوك ورب الأرباب قد أكمل خدمة المصالحة.
وكلمة المسيح من على الصليب هي أعظم ما جاء في الكتاب المقدس من النصوص الثلاثة: فالعمل الذي أكمله يسوع على الصليب هو أعظم من الخليقة، وأعظم من الملكوت الأبدي. ولا يوجد شيء في الحياة الدنيا والآخرة "قد كمل" أعظم من العمل الذي أكمله يسوع على الصليب.
وصف كثيرون كلمة المسيح السادسة من على الصليب بأنها إعلان النصر أو رسالة إلى الآب، أو إعلان للناس، والحقيقة أن كلمة المسيح من على الصليب هي كل ذلك بل وأكثر. وفي دراستنا لهذا الإعلان نعالجه من زاويتين: الزاوية الأولى هي معنى الإعلان. أما الزاوية الثانية فهي أثر الإعلان.

أولاً: إعلان النصر ومعناه
إن كان هناك نصٌّ كتابيٌّ يجب أن نسعى لتوضيح معناه يكون هذا النص "قد أُكمل". فالنص الذي نحن بصدده يتصل بشوق البشرية جمعاء في أمر خطير. وهي مأساة بحق إن تجاهل المرء أو أساء في فهم هذه الحقيقة. وأرجو أن نلاحظ أن يسوع لم يقل: "لقد انتهيت أو اكتملت" ولكنه كان يشير إلى تمام وكمال العمل الذي بدأه على الصليب. والكلمة كما وردت في اللغة اليونانية كلمة واحدة Tetelestai ومعناها اللغوي "العمل قد أُكمل ونتيجة لذلك أُكمل إلى الأبد. والترجمة الصحيحة "العمل يقف كاملاً وتامًا. وهنا يقرر يسوع حقيقة هامة عن المهمة التي أوكلت إليه، كما أنه يعلن راحته واقتناعه بالعمل الذي عمله والنصر الذي أحرزه.
والكلمة اليونانية "تتلستاي" هي كلمة الفلاح التي يستخدمها عندما يولد في حظيرته حيوان صغير كحمل جميل خالٍ من الأخطاء والعيوب. كان الفلاح ينتظر وينظر إلى المخلوق الصغير بإعجاب وسرور ويقول "تتلستاي! تتلستاي!" أو كامل... كامل!
وهي كلمة الفن، يستخدمها الرسام أو النحّات بعد أن يضع اللمسات الأخيرة في لوحة أو تمثال ثم يتراجع إلى الخلف بضع خطوات وينظر بإعجاب إلى تحفته فلا يرى فيها أخطاء تحتاج إلى تصحيح. وبعد أن يجد أنها لا تحتاج إلى لمسات أخرى يتمتم بإعجاب وزهو "تتلستاي، تتلستاي!" أي قد كملت، قد كملت! وعمل المسيح على الصليب هو التحفة الإلهية الكاملة التي تصوِّر قصة الخلاص الإلهي للبشر.
وهي كلمة الكاهن يستخدمها العابد التقيّ الذي فاضت عليه خيرات الله فامتلأت نفسه بالامتنان والعرفان بمراحم الله عليه. وعند ذلك يُحضِر حملاً إلى الهيكل بلا عيب يختاره من وسط القطيع كله. ويأتي به إلى الكاهن الذي تعوَّد أن يرى الناس تقدِّم إلى الرب الأعمى والأعرج ذبيحة فإذا به من فرط إعجابه بالحمل الخالي من العيوب يهتف قائلاً: "تتلستاي، تتلستاي!" أي بلا عيب وكامل.
وفي ملء الزمان عندما قدّم حمل الله نفسه على مذبح الدهور والأجيال ابتهج الله الآب بالذبيحة الكاملة التي رفعت عن العالم ثقل خطاياه. كانت الذبيحة تامة بلا عيب وكاملة. لذلك صرخ يسوع وقال: تتلستاي، "قد أُكمل."
ونائب الفاعل في جملة "قد أُكمل" هو شيء واحد من ذاته. فما هو الشيء الواحد الذي أُكمل؟ إنه عذاب استحقاق خطايا البشرية المتراكمة... إنه ألم العقاب الكامل لكل الذنوب في تاريخ البشرية الطويل. إنه اختبار الجحيم الذي نزل إليه بسبب كل الذين رفضوا الله.
ويوضح الكتاب المقدس نائب الفاعل في جملة "قد أُكمل" بما قاله إشعياء "والرب وضع عليه إثم جميعنا." (إشعياء 6:53) وأيضًا في 2كورنثوس 21:5 "جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه." نائب الفاعل واضح في قول الرسول (1تيموثاوس 6:2) "الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع." وكذلك ما أعلنه الرائي في رؤيا 9:5 "ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة."
كما أن يسوع عندما قال هذه الكلمة كان يتكلم بلغة ربّ العمل الذي ينظر إلى عمله بعد نهايته في اكتفاء لا يشوبه الخجل ويقول: "كامل... تام!"

ثانيًا: إعلان النصر وأثره
تعال معي لكي نسافر بالخيال إلى ثلاثة أماكن لنرى تأثير إعلان النصر الذي قاله المخلص. كانت السماء ترقب هذا التحوّل العظيم. وكانت مقادس المجد مكدّسة برؤساء الملائكة والقديسين يرقبون من بعيد المأساة. ونحن نريد أن نرى أثر قول يسوع "قد أُكمل" على هؤلاء. والإجابة ليست صعبة. فما أن وصلت هذه الكلمة إلى العرش حتى امتلأ المكان بفرح لا يُنطق به ومجيد. لقد كسب المعركة واكتمل النصر.
والآن يستطيع الآب السماوي أن يقبل الخطاة بفرح ويرحب بهم في ملكوته الأبدي دون أي مساس بكرامة عدله المقدس. لقد وضع الإنسان نفسه خارج دائرة الله وهو في حالة الخطية. بل وضع نفسه في دائرة الدينونة العادلة. أما الآن فقد استطاع الابن بعمله البدلي أن يحمل محبة الله إلى دائرة عصيان الإنسان، كما استطاع الابن بعمله أن يوفي مطاليب العدالة الإلهية، والذي صار هو أنه أصبح للإنسان الحق أن يرجع إلى حظيرة محبة الله. لقد دفع يسوع الثمن، ثمن الفداء البشري بدمه الثمين. ويستطيع الله أن يقبل الخطاة التائبين إليه كإله محب وعادل. (رومية 19:3-26؛ وغلاطية 10:3-14)
أما الملائكة القديسون الذين لا يعرفون الخطية فكانوا في دهشة من النعمة الغنية التي انحدرت من رب السماوات في شخص ابنه يسوع. ويقول بطرس إن الملائكة كانت تشتهي هذه النعمة (1بطرس 10:1-12) "التي تشتهي الملائكة أن تطّلع عليها." والآباء القديسون الذين انتظروا الخلاص برجاء الموعد يسبّحون الله ويمجدونه ويحمدونه بأن إيمانهم لم يكن باطلاً.
كان إبليس مهتمًا بما حدث في الجلجثة بصورة عجيبة. فلما قال يسوع "قد أُكمل" كان اليأس قد ملك على إبليس تمامًا. فقد سحق المسيح رئيس هذا العالم فأصبح الشيطان سجين يسوع ملك الملوك. ويؤكد كاتب العبرانيين "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس." (عبرانيين 14:2) وهكذا يحمل يسوع مفاتيح الهاوية والموت. كما يقول يوحنا: "لي مفاتيح الهاوية والموت." (رؤيا 18:1)
والذين دخلوا الجحيم قبل يسوع في الجلجثة، لأنهم أمالوا آذانهم لوعود الخطية الجميلة لا أمل لهم الآن بتاتًا، وهم يضلون ويصرخون لسكان الأرض من عذاب الجحيم، ولكن بلا أمل كما صرخ الغني: "يا أبي إبراهيم، ارحمني، وأرسل لعازر ليبلّ طرف إصبعه بماء ويبرّد لساني..." لقد أغلق المسيح عليهم في الجحيم بخاتمه وصار بينهم وبين الفردوس هوة سحيقة لا يعبرها أحد.
والأرض اهتمت بما حدث في الجحيم. نحن نرى تأثير عبارة "قد أُكمل" في الأرض. فذلك الإعلان يعطي فرحًا عجيبًا لكثير من النفوس. فقد صار الخلاص في متناول الجميع، وليس من أعمال صالحة الآن. وكل المفديين من الأرض يصرخون مع بولس: "وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم." (غلاطية 14:6) وبالنسبة لكثيرين يبدو أن إعلان المسيح "قد أُكمل" غامضًا بدون وضوح. إنهم يشعرون أن يسوع لم يؤمّنهم على كل مطاليب الخلاص. فيجب عليهم أن يعملوا شيئًا، ويحبون أن يضيفوه إلى ما عمله المسيح لهم حتى يكون لهم شيء شخصي يعتمدون عليه. إنهم لا يفهمون كمال عمل النعمة. إنهم لا يعرفون... ويحزنهم لو علموا أنهم يهينون الصليب والمصلوب الذي مات عليه.
وفئة أخرى تشعر أن عمل المسيح كامل ولكنهم لا يبالون. ولكن مباهج العالم كالملبس والمأكل والمال... كل هذه هي أهم من ذلك. يا لها من نفوس مسكينة. إنهم يحتاجون إلى هزة كبيرة أو تجربة محرقة حتى يستفيقوا قبل الموت الأبدي. إن عدم المبالاة بشخص المسيح هو أقصى مستوى للخطية.
وهناك فئة أخرى يجعلها عمل المسيح وإعلانه أن تتخذ موقفًا عدائيًا. يكرهون الله ويحبون الخطية. يقولون: اتركونا لوحدنا... لا شأن لكم بنا. ويومًا ما سيكون هذا العداء هو خجلهم المحرق وآلامهم المبرحة. أما للجميع فإعلان المسيح هو هبة ورجاء. لأن المسيح عمل كل شيء ويستطيع كل إنسان أن ينال الخلاص. ولكن قبول عمل المسيح الكفاري يعتمد على التوبة والإيمان. إن الله يحزن عندما ترفض عمله الكامل لأجلك. إن الشيطان سيتعزّى عندما تشاركه الجحيم. لن تستفيد شيئًا من العمل الذي قدّمه المسيح للأجيال إن كنت ترفض الثقة بشخصه. لا ترفض الرب يسوع المسيح!
لقد أتقن يسوع عمل الخلاص على الصليب. نعم، فهذه هي الحقيقة التي أعلنها يسوع عندما قال: "قد أُكمل." وما على الإنسان إلا أن يركع على ركبتيه عند الصليب ويقبل بالإيمان المخلص وعمل النعمة الكامل من أجله. هل فعلت أنت ذلك؟ أم لا تزال ترفض عمل يسوع الكامل من أجلك؟

 



الكلمة السابعة: نهاية مرضية

ثم "نادى يسوع بصوت عظيم وقال: [يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.] ولما قال هذا أسلم الروح." (لوقا 46:23)

ثلاثةٌ من كلمات المسيح في الجلجثة تقودنا إلى قمة الشركة بين الآب والابن، ولا شك أن هذه الشركة هي أغرب علامة قامت بين الآب والابن، ويبدو الأمر أمامنا كما لو كنا أمام ثلاثة مشاهد:
في المشهد الأول يرفع الابن صلاة إلى الآب من أجل صالبيه: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم... وفي المشهد نرى الابن يتوسَّل إلى العدالة لكي تمسك سهام غضبها عن المذنبين وتحوّلها عليه وحده.
وفي المشهد الثاني يصرخ الابن إلى الآب من الأعماق: "إلهي، إلهي! لماذا تركتني؟" وفي هذا المشهد نرى الابن داميَ الجسد منسيًّا من الآب ويصرخ بألم يشوبه استفهام إلى سماء من نحاس لا تجيب.
أما في المشهد الثالث فنسمع نداء الابن إلى الآب: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي." وفي هذا نجد الابن المنتصر يسلِّم نفسه كلية إلى أبيه.
ترددت هذه الكلمة السابعة على ألسنة كثيرين. قال المرنم في القديم: "في يديك أستودع روحي. فديتني يا رب إله الحق." (مزمور 5:31) وهنا الفرق واضح بين المرنّم والمخلّص. صرخ المرنم كخاطئ يهرع إلى الله من أجل الخلاص، أما صرخة ابن الله فهي لغة المنتصر الذي جاء إلى الآب بالخلاص.
قال "فان تاسل" في العظة على الصليب" الحقيقة الفسيولوجية أن الذي يموت في وضع كوضع يسوع يرفع رأسه في اللحظات الأخيرة. ورفع الرأس في اللحظات الأخيرة هو المجهود الطبيعي لكي يستنشق الأكسجين الذي يملأ رئتيه بالحياة – ولكن القلب يتوقّف عن الضربات فتكون النتيجة الحتمية أن الرأس يسقط بعجز على الصدر – ولكن الصورة التي مات بها يسوع تختلف تمامًا عن الموت الطبيعي عندما يسقط الرأس أو يقع بعجز، لأن يسوع قبل أن يموت نكس رأسه بإرادته – أي حناه إلى الوراء - ومعنى ذلك أنه سلّم روحه عمدًا وهو في كامل وعيه وحسّه.
في هذه الكلمة نرى يسوع النبي والكاهن والملك:

أولاً: يسوع النبي
لكل قول من أقوال يسوع دلالة نبوية، ولكل فعل من أعماله دلالة نبوية. فإن كلماته وأعماله كشفت أحداث المستقبل. التكهن بالمستقبل هو أحد الجوانب النبوية. إن النبي يتحدث بلسان الله سواء كان ذلك فيما يختص بالماضي أو الحاضر أو المستقبل.
لغة الأمان
كان نبي الجلجثة يتحدث بلغة الأمان والضمان عندما قال: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي." لا أمان ما لم نسلّم كل شيء بين يدي الله. إن الصليب هو الظاهرة العظمى على ذلك. الأمان في يد الله هو السلامة التي يتوق إليها قلب كل إنسان فيحتمل اللعنات والصليب والعذاب.
لغة النبوّة
كان نبي الجلجثة يتحدث بلغة النبوّة عندما قال: "يا أبتاه..." هذه هي المرة الأولى التي تكلم فيها بعد أن انتهى من عمله العظيم. إن لغة هذا النبي هي نبرة الابن المطيع الذي سلّم نفسه لله. لغة النبوّة هي كلمة السر لكل أولاد الله. قال كاتب العبرانيين: "مع كونه ابنًا تعلّم الطاعة مما تألّم به." هذه نبوّة تفرّح قلب الآب. كان شعار يسوع: "الصليب من أجل مسرّة قلب الآب." "من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب." إن كنا نسأل كيف يتصرّف أولاد الله فإن يسوع على الصليب هو الإجابة.
لغة الخدمة
تحدث نبي الجلجثة بلغة الخدمة عندما قال: "يا أبتاه..." وهنا نرى الابن المنتصر يقدّم للآب قوته وما يملك كوديعة بين يديه يفعل بهما كيفما يشاء. قصد يسوع أن يكون أداة تحت أداة الآب وسلطانه، عرف قصد الله في الأزمنة الأزلية. التسليم التطوّعي للنفس بين يدي الآب هو الطريق الوحيد للخدمة والخير. لا خير ما لم نكون بكليتنا وما نملك له. هذا هو طريق النجاح.
قدّم أنبياء العهد القديم عظاتهم ونبوءاتهم بالتمثيل التعبيري:
إرميا حمل النير على عنقه علامة على سبي الشعوب تحت سلطان نبوخذنصر.
حنانيا أخذ النير من على عنق إرميا وكسره.
هوشع أخذ لنفسه امرأة زانية تعبيرًا عن محبة الرب لشعبه وهم متلفتون إلى آلهة أخرى.
وقصد نبي الجلجثة يسوع أن يستخدم الدراما الحية عندما قدّم عظة الصليب. كان الحق واضحًا في هذه العظة لا يقدر أحد أن يتجاهله. كل الخير والتعليم الذي قدّمه يسوع نفهمه في نور عظة الصليب. الجلجثة هي مفتاح الحق الإلهي والمصلوب هو ملك الحق. هذا النبي فيه ضمان لا حدّ له.

ثانيًا: يسوع الكاهن
عندما قال يسوع: "يا أبتاه..." كان كرئيس كهنة في يوم الفصح يقدّم نفسه لله كالذبيحة التي تكفّر عن خطية الإنسان. صليب من خشب هو مذبح يفوق مذبح إبراهيم على جبل المريّا، ويفوق مذبح المحرقة في هيكل سليمان. الجسد على الصليب هو الذبيحة الدموية وصاحب هذا الجسد هو الكاهن الذي يقدّم الذبيحة لله. واستطاع هذا الكاهن أن يحمل ذبيحته بموته التطوّعي إلى قدس الأقداس أمام العرش.
في وقت صلبِ يسوع كانت آلاف الذبائح تقدَّم في الهيكل. وموكب الخدمة في الهيكل رهيب. إذ تُرنَّم مزامير وتعزَف أبواق من الفضة إلى 24 فرقة من الكهنة يتسلّمون آلاف الذبائح التي تُنحر. قاعدة المذبح غارقة بالدماء الحمراء. لقد ذُبحت ملايين الذبائح في آلاف السنين ولم يُكمل العمل. هناك خطايا لا تغسلها الذبيحة مثل خطية العمد والنيّة المبيّتة. وهناك خارج المدينة قدّم رئيس كهنة عظيم نفسه حملاً وذبيحةً وبذلك ختم به عهد الذبائح إلى الأبد. قدّم ابن الله جسده كاملاً بلا عيب ولا دنس. نزف دمًا غاليًا مطهِّرًا. انشقّ حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل. انطلق الله ونزل إلى شعبه ليقول: "هذا يكفي! لا أريد كاهنًا سوى يسوع... لا حاجة إلى دم آخر... دم يسوع يكفي... قد أكمل العمل الكفاري." "يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا، قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدّم ذبائح أولًا عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل هذا مرة واحدة، إذ قدّم نفسه."
شعر مارتن لوثر بحالة من الفشل ورأى يدًا تكتب أفكاره الشريرة وأفعاله النجسة وخطايا السهو والعمد – السرّيّة والعلنية – وتصوّر لوثر أنه لا نهاية لهذه القائمة المُرّة. وذهب في الصلاة وأحنى رأسه ثم رفع رأسه وقال بغضب: "لقد نسيت شيئًا واحدًا: أيتها اليد، خذي القلم واكتبي: [ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية.]" ولما نطق بدم المسيح اختفت اليد. من يُقبل إلى هذا الكاهن المصلوب لا يُخزى. إن خدمته الكهنوتية هي أنه، من يُقبل إليه لا يخرجه خارجًا.

ثالثًا: يسوع الملك
لم تكن الكلمة السابعة صرخة ضحية منهزمة بل إعلان النصر. ذهب يسوع إلى الصليب كملك اعترف أمام بيلاطس أنه ملك... أدانه اليهود لأنه ملك... دخل أورشليم كملك، حتى أن العلة فوق صليبه تقول: "هذا هو ملك اليهود." كان ملكًا غريبًا يرتدي تاجًا من شوك. الموت كان إعلان المُلك: "قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك."
كان هذا الملك على عرش الصليب بلا ضعف أو تردُّدٍ سيّدَ الموقف. أسرع الملك من عذاب الجحيم بلا خوف إلى حضن الآب. لقد صار خطية من أجل البشر رغم أنه لم يعرف خطية ولا وُجد في فمه غش. كان أقوى من سلطان الجحيم فلم يمسكه أو يحتويه، ومعنى ذلك أنه قهر الشيطان. إنه والآب متساويان في القوة والقصد... لا يستطيع سجين الشيطان أن يخاطب الله كآب.
هذا الملك أمر الموت ليكون تحت أمره. أمر الموت أن يحمل روحه وديعة عند الله. كان آدم الأول ضحية الموت. أما آدم الثاني فهو قاهر الموت. هذا الملك حوّل الصليب من علامة عار إلى رمز الخلاص والنصرة. لقد حطّم يسوع الموت الذي من أجله وُجد الصليب.
في جزيرة جامايكا في عام 1938 حدثت جنازة غريبة... الناس تهتف: وضعوا في النعش سوطًا من سياط البيض رمز العبودية. لقد دفنوا رمز العبودية إلى الأبد!
وهذا الذي حدث... أخذ يسوع الموت رمز عبودية العالم للخطية وانتصر عليه إلى الأبد. ودّع كثيرون من القديسين هذا العالم وعلى أفواههم هذه الكلمة، ولكنها كانت بالنسبة لهم صدى الرحمة. أما بالنسبة ليسوع فهي إعلان العدالة. فقد كان موت يسوع يختلف عن غيره لأنه موت النصرة الذي أحضر فيه غنيمته معه. ولم يكن له مزاعم شخصية غير كونه يمثل الخطاة. مات موتهم بديلاً عنهم طوعًا واختيارًا. "لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا." (يوحنا 17:10-18)
مات يسوع وصلاة على شفتيه: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي." وهي نفس كلمات المزمور 5:31 مضيفًا إليها كلمة "يا أبتاه". وكان ذلك العدد من المزمور هو الصلاة المسائية التي كانت الأمهات العبرانيات تصليها مع أولادها قبل النوم. وهكذا كان الطفل العبري يقول كلما حلّ المساء وقبل النوم: "في يديك أستودع روحي." واستعار يسوع هذه الكلمات كي يجعل منها معنى جميلاً عندما قال: "يا أبتاه". مات يسوع على الصليب وهو أشبه بطفل صغير تأخذه سنة من النوم بين يدي أبيه.

 

المجموعة: كتب روحية