آب (أغسطس) 2006

كانت تبكي بحرقةِ قلب والدموع الغزيرة تنسابُ على خدّيها. فهي الأخت الصغرى لسوزان التي فقدَتْها العائلة. أما الوالدان فقد ظهرا هما الآخران أمام المشاهدين بغاية الأسى والحزن على فراق ابنتهم الصبية ذات التسعة عشر ربيعاً. استضافتهما مع ابنتهما شخصيةٌ كبيرة ومعروفة في التلفزيون وعلى قناة ABC الأمريكية، أميرةُ Talk Show كما تُلقّب "أوبرا Oprah" في برنامجها المميَّز، وراحت تسألهم جميعاً عن هذا الحدث الأليم الذي سرق منهم كل بسمة وأمل في الحياة وتركهم فريسةَ اليأس والفشل.

 

تكلم الأب والألم يعتصر قلبه وقال: قبلتُ أن أظهر على شاشة التلفزيون وأتحدّثَ عن مأساتي ومأساة عائلتي على أمل أن لا  يتكرَّر هذا المصابُ الجسيم مع أية عائلة.  فاسمعوا أيها الآباء والأمهات وانتبهوا إلى ما سأقول. كانت ابنتنا سوزان صبية ظريفة، ولطيفة، ومؤدّبة، ومرحة، ومجتهدة جداً في دروسها، ومعروفة بين أصدقائها وصديقاتها، واجتماعية إلى أكثر الحدود. حصلت سوزان على منحة لتكمل تعليمها الجامعي في ولاية فلوريدا. وما أن مضت تسعةُ أشهر على انتقالها إلى الجامعة حتى وصلَنا نبأُ وفاتها الذي وقع كوقع الصاعقة علينا جميعاً. ومن شدة وقع الخبر علينا لم نصدِّق بادئَ ذي بدء إلى أن قرأنا فيما بعد الرسالة الإلكترونية التي وجَّهتها لنا ابنتُنا سوزان وفيها تخبرنا بأننا عندما نقرأ هذه الرسالة ستكون هي قد فارقت الحياة إلى العالم الآخر الذي طالما تاقت إليه كل حياتها. لقد كانت رسالتها تلك هي رسالة الوداع الأخيرة لنا. لكن كيف قضت ابنتنا؟ وأين؟ ولماذا؟ كانت هذه أسئلة محيّرة لم نجد لها حلاً في عقولنا المذهولة من هول الخبر وعظم المصاب. وهنا تحشرجَ صوتُ الأب وهو يحاول كبتَ مشاعره. 

عندها أضافت الأم والدموع تملأ مآقيها: تبيَّن لنا فيما بعد أن ابنتنا سوزان قد استطاعت أن تزور موقعاً على شبكة الإنترنت يدعى "SEP" يقدّم مواد ونصائح تشجّع على الانتحار. ومن غير وعي منها صارت من رواده الدائمين. وبقيت تسعة أشهر تدخل إلى هذا الموقع الذي يدعو إلى الانتحار ويشرح وسائله. وكان الموقع يشجع زواره على إرسال تجربتهم الخاصة، ومعاناتهم، ومشاركة باقي الأعضاء المنتمين إليه. نعم، وبعد تسعة أشهر من زيارة الموقع أقدمت ابنتنا على الانتحار. لم تنفِّذ ابنتنا ما خططته لنفسها وهي في الجامعة بل توجهت إلى الفندق Motel وهناك تناولت سم السيانيد الذي قضى عليها في دقائق قليلة. ووُجدت فيما بعد مرتميةً على السرير جثة هامدة. 

عاد هنا الأب ليقول: أنا أتَّهم هذا الموقع الإلكتروني وأدّعي أنه تسبب في موت ابنتي المحبوبة سوزان لأن من خلاله استطاعت سوزان الحصول على السم القاتل، وبطرقٍ غير شرعية بالطبع، لكي تستخدمَه في قتل نفسها. إنَّ موقع الموت هذا هو الذي يعرضُ أنواعاً متعددة من الوسائل التي يستطيع عن طريقها الشاب أو الفتاة الإقدام على الانتحار.

لكن لماذا نفَّذت سوزان حكم الإعدام في نفسها؟ هل كانت مكتئبةً مثلاً، أم متضايقة، أو منزعجة أم  مريضة؟ كلا؟ أبداً. أجابت عن هذا السؤال أختها الصغرى. كنت وسوزان مقرَّبتين جداً،  ونتشارك معاً في كلِّ ما يمر في حياتنا ونقضي وقتاً طويلاً على الهاتف النقّال نتحدث  في كل موضوع. وهذا ما جعلني مذهولةً حتى الآن من كل ما حصل. لم أرَ على وجه أختي سوزان أيةَ دلالة على الاكتئاب أو الحزن أو اليأس. وهذا ما صدمني وصدم العائلة بأكملها.

نعم، يا قارئي، موقع إلكتروني ينشر نصائح للانتحار.. شتّان ما بين موقع الموت هذا وبين الموقع الذي توجهتُ إليه يوماً على Google لكي أبحث عن إحدى الترانيم المعروفة بالإنكليزية التي تعلَّمتها منذ أيام المدرسة. ولشدة دهشتي وجدت أن الموقع قد أدرجَ لي كلَّ الترنيمة بأعدادها وقرارها والسنة التي كُتبت فيها واسم المؤلف، مع أنني لم أذكر إلا الكلمات الأولى من القرار حين طلبت البحث عنها في هذا الموقع. أجل، شتَّان ما بين الاثنين. موقع الموت ذاك وأمثاله كثـُر يوردون الإنسان موارد الموت البطيء تماماً كالمواقع التي تعرضُ صوراً مبتذلة لا أخلاقية، بالإضافة إلى Pornography والصور الخلاعية . هذه المواقع التي أسرَتْ ولا زالت تأسر كلَّ يوم العديد من المنحرفين المدمنين وتوقِعُ في حبائلِها الشباب والمراهقين فتكبِّلهم بقيودها فيصبحون في قبضة الشر والخطيئة. ترى، أين نحن قرَّائي الكرام ممَّا يشاهده أولادُنا على التلفزيون؟ أين نحن ممَّا يزورونه من مواقع على الانترنت؟ هل عيوننا مفتوحة نراقب بها ماذا يجري في بيوتنا وفي غرف أولادنا؟ هل نحن منتبهون إلى ماذا يفعل أولادنا أمام الكمبيوتر لساعات متتالية في كل يوم؟ هل ترانا نعرف بالحق مع مَنْ يتكلمون في الغرف التي يدخلون إليها عبرَ الإنترنت؟ هذه بحد ذاتها تشكل خطراً جسيماً ينبغي أن نأخذ كامل الحذر منه. نعم، الإنترنت هذا العالم المتطوّر والمرهب في آن. هل ننتبه إلى ما يمكن أن يفعله في عقول أولادنا وما يغيِّر في سلوكهم وتصرفاتهم؟ أم أننا نحن أيضاً منشغلون بعالمنا الخاص، بأشغالنا وبيوتنا التي لا نكفُّ عن توسيعها وطلب المزيد؟ لهذا ليس لدينا الوقت الكافي لنقضيه مع فلذات أكبادنا نتكلم إليهم ونسمع منهم ونراقب ماذا يرون؟ أولادنا كنز لا يمكن أن يُعوَّض إذا ما فُقِد. هم عطية من الله وهم أمانة في أعناقنا، منحَنا إياهم الله لكي نكون وكلاء عليهم فنربِّيهم وننشئـُهم في خوف الرب وإنذاره. فهل نصرف الوقت معهم نعلِّمهم طريق الرب أولاً، وشرائعه ووصاياه؟ هل نغرس فيهم بذرةَ الحياة لتنمو فيهم وتثمر؟ هل نقرأ لهم الإنجيل المقدس في كل يوم أو في كل فرصة سانحة؟ حتى يشبُّوا عارفين الخير من الشر، لا بل  قادرين على التمييز بين الصالح والطالح؟ وهكذا ننشئُ فيهم مخافة الله وكلمته المقدسة الحية، الإيمانَ والطاعة والخضوعَ والاحترام لوصايا الله أولاً ومن ثم  توجيه الأهل ثانياً؟ هل نذكِّرهم بما يقوله سليمان الحكيم للأولاد وبما يوصيهِ بهم: "يا ابني، احفظ وصايا أبيك ولا تترك شريعة أمك. اربطها على قلبك دائماً. قلّد بها عنقك. إذا ذهبت تهديك. إذا نمت تحرسك، وإذا استيقظت فهي تحدّثك. لأن الوصية مصباح والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة" (أمثال 6: 20-23).

ويقول أيضاً: " يا ابني، لا تبرح هذه من عينيك. احفظ الرأي والتدبير فيكونا حياة لنفسك، ونعمة لعنقك. حينئذ تسلك في طريقك آمناً ولا تعثر رجلك" (أمثال  21:3-23).

هل نتبع خطى ”لوئيس“ جدة تيموثاوس الشاب التي علَّمته ووجَّهته في إيمانه؟ وهل نقتفي آثار أمه أفنيكي التي صرفت معه الوقت لكي تزكِّي هذا الإيمان وتقويه؟ لنتذكر يا إخوتي أن ما نزرعه في قلوب أولادنا هو الذي سيوجِّه حياتهم في المستقبل.

فماذا تُرانا نزرع في هذه القلوب الصغيرة الغضَّة؟ وما هو التراث الذي نتركُه لهم؟ هل هو تراثٌ غني بالإيمان بمواعيد الرب كما جاءت في الكتاب المقدس؟ أم تراث عدم الاكتراث بالأمور الروحية والاهتمام بالأمور الفانية الزائلة؟ كثيرون منا وخاصة في هذه البلاد المادية منخرطون لا بل منغمسون في كيفية تحصيل المال والمزيد منه، وينسون أنَّ لديهم في البيت أولاداً أنجبوهم، وهم في أمس الحاجة إليهم، وليس للمال الذي يعجز عن سدَّ عوزهم النفسي والروحي. قال أحد الشباب مرة: أنا مستعد أن أتخلَّى عن كل ما منحني إياه والديّ من مال وجاه وبيتٍ فخم أعيشُ فيه وحيداً، مقابلَ يومٍ واحدٍ فقط أقضيه مع أمي وأبي، ويقضيانه معي نتحدث ونتكلم أحاديث القلب والنفس والوجدان. نعم، فإلامَ سنبقى غير مكترثين بالكنز الذي بين أيدينا، أولادنا فلذات أكبادنا؟ وحتى مَتى نتركهم غير آبهين بما يشاهدون، وغير منتبهين إلى مَنْ يصاحبون، أو مع مَنْ يخرجون؟!

هذه كلها أسئلة تتحدّى الآباء والأمهات جميعاً في عصر التطوّر والعولمة هذا، لأنه أيضاً هو عصر التدهور والبلبلة الذي سرعان ما سيؤدي بنا إلى كوارث ومآسٍ، ومآزق عويصة، إن لم نكن حذرين ويقظين.

المجموعة: آب August 2006