أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012

الدكتور القس إبراهيم سعيدالناس ثلاثة: أولهم خامل كسول جمدت مشاعره، فلا يشعر بما يحيط به من ألم وشقاء، لأنه لاهٍ بذاته ولذّاته، فلا هو في العالم هدّام ولا هو فيه بنّاء.
والثاني رجل توترت أعصابه، وعصفت بنفسه أهواء الفساد، فثارت عليه نفسه، وثار هو من جانبه على المجتمع، فلا يهنأ له بال حتى يهدم جدارًا، أو يثلم شرفًا، أو يوقع الأذى بأحد بني البشر. أما ثالثهم فهو رجل غمر الإيمان قلبه، وأضاء نور الحق والفضيلة لبّه، فلا يهدأ له بال، ولا يهنأ له عيش إلا إذا قام بعمل ما من أعمال البناء. وما قصدت البناء بلبن أو بحجر، وإنما قصدت البناء المعنوي الروحي الذي يرتفع بجليل الصفات وجميل الخصال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في أحد أسفار الكتاب المقدس، نقرأ عن شاب غريب عن أرضه اسمه نحميا سمع وهو في أسره أن أسوار عاصمة مسقط رأسه منهدمة، فجمع رفاقه، وبعث فيهم روحًا من الغيرة والحماسة مناشدًا إياهم: "هيا بنا إلى البناء"!
التقى أستاذ بتلميذه ذات يوم، فرأى التلميذ قلقًا متبرمًا بالحياة، ولما سأله عن علة تبرمه، قال له: "إن العالم لا يعجبني في شيء. فلا بد من عالم جديد غير هذا العالم الذي نحن فيه عائشون". فقال له الأستاذ: "وهذه مهمتك يا بني في الحياة، أن تعمل على بناء عالم جديد".
قد يبدو هذا مستحيلاً. إذ كيف يستطيع الفرد أن يعمل على بناء عالم تقوّضت أركانه وتداعت أعمدته، وتهدمت مبانيه الشامخة. فالباطل يحلق مرتفعًا في الفضاء، والحق جاثم على الأرض كالطائر الجريح المكسور الجناح. الظلم فشا وساد، والعدالة هربت حتى خلت منها دور العدالة وحلّ محلها الشر والفساد. وإذا وجدنا في الدنيا نوعًا من العدالة فهي عدالة عرجاء عوجاء.
فالأسوار التي كانت تحيط بالأسرة فتجعل منها حرمًا مقدسًا قد تهدمت. فاستحالت إلى خيوط العنكبوت، بل أضعف وأدهى. فسكت البرهان المقنع، نطق المدفع، وغاضت ينابيع الفضائل لأن الكلمة العليا أضحت للقنابل!
فمن واجبنا إذًا، أن نعمل على بناء عالم جديد غير هذا العالم المهدم. ولا يخزن أحد منا نفسه ولا جهوده، لأن البحر من القطرة، والجبل من الذرة، والشجرة من البذرة، و "معظم النار من مستصغر الشرر".
فليبدأ كل منا أولاً ببناء نفسه وخلقه. كما قال بطرس الرسول: "كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيًا كهنوتًا مقدسًا". وقال في موضع آخر: "أما أنتم فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس".
وكما تم بناء السور في أيام نحميا بأن قام كل واحد بالبناء مقابل بيته، كذلك يمكننا أن نعمل على بناء عالم جديد إذا بنى كل منا نفسه أولاً، ومتى بُني الفرد بُنيت الأسرة، ومتى اكتمل بناء الوطن بُني المجتمع بأسره.
فلينزع الشباب من فكره كل فكرة للهدم، وليعمل على البناء. لأن الذين يسعون في هدم بيوت غيرهم، يعترفون ضمنًا أن لا بيوت لهم. إن الذين يجعلون دينهم الهدم، يعترفون في قرارة أنفسهم أن لا حياة لهم إلا في الخراب، ولا راحة لهم إلا في الاضطراب، ولا هدوء لهم إلا حيث يحلّ البلاء، ولا سلام لهم إلا حيث يخيم الشقاء.
أما إذا أردنا أن نهدم، فليكن ذلك عن طريق البناء. فالنقد الجارح يدمي ولا يجدي. والمعول يهدم ولا يبني، والمبادئ الهدامة تشيع في العالم الاضطراب والخراب. ما أشبهها بالبوم لا يحلو له إلا النعيق فوق الأطلال.
أما التوجيه البريء الصالح الإيجابي، فهو خير وسيلة للهدم الحقيقي. وكما أن الطبيعة تنتزع أوراق الخريف الذابلة بإرسال عصارة الحياة في الشجرة إبان الربيع، كذلك نستطيع أن نقتلع بذور الشر، متى زرعنا كل يوم نبتة من نباتات الصلاح والخير.
قصد شاب إحدى جامعات الغرب في طلب العلم. وبعد مضي وقت ما، مضى إليه والده ليتفقد حاله. ولما قصد الدار التي يقطنها ولده رأى غرفة... ويا لهول ما رأى! رأى كل جدرانها مزدانة – أو بالحري مشوهة بصور خليعة عاطلة – فقال في نفسه: هل أمزّق هذه الصور في غيبة ولدي حتى متى عاد إلى حجرته يعرف مبلغ غضبي ويعود عن غيّه؟ لكنه راجع نفسه وقال: إذا أنا مزقت الصور، كان هذا التمزيق عاملاً من عوامل العناد فيمعن ولدي على الإمعان في الفساد. وأخيرًا، خطر لباله خاطر جميل فنفذه في الحال. قام لفوره، ومضى واشترى صورة للمسيح في صباه من رسم المصوّر هوفمان، تجلّى فيها كل ما في المسيح من طهر، وعفاف وقداسة. وعلق هذه الصورة مقابل الصور الخليعة في غرفة ولده.
ولما تلاقيا لم يذكر لولده شيئًا عما لاحظ عليه من انحراف، نمت عنه تلك الصور العاطلة. ثم انتهت زيارته لولده وعاد إلى بلده. وبعد مضي وقت قصير عاد إلى زيارة ولده، فوجد كل الصور الخليعة وقد انتُزعت من جدران غرفة ولده ولم تبق فيها إلا صورة المسيح بجمال طهره، وطهر جماله وقداسة جلاله.
هذا هو الإصلاح الإيجابي الذي به نهدم كل معاول الفساد، بل نسخرها إلى عوامل للبناء والصلاح. ما أحوج العالم اليوم إلى بناء جسور للتفاهم وحسن المودة والثقة بعد أن حطمت قنابل الحروب جسور المودة وجميل الثقة. ما أحوج العالم اليوم إلى بناء منائر للحق والنور تهدي السفن الضالة التي كادت أن ترتطم بصخور الشر والفساد! ما أحوج العالم اليوم إلى تمهيد الطرق الصالحة لتبادل الآراء الصائبة بعد أن مزقتها القنابل الذرية وهي بعد في مهدها.
مضى ألبرت لويس ستفينسون الكاتب المبدع إلى بلاد نائية وأقام فيها الفترة الأخيرة من حياته. فأحسن معاملة سكان تلك البقاع النائية وغرس في قلوبهم الثقة المتبادلة، فما كان منهم إلا أن مهدوا طريقًا قويمًا سويًا بينهم وبين مسكنه المنفرد وقدموا له هذا الطريق خير هبة وقالوا: "طريق رجل السلام". ويقول المسيح: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون".

المجموعة: أيلول-تشرين الأول Sep-Oct 2012