أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012

القس رسمي إسحق"إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي، أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَتَبَلَّجُ" (أيوب 27:9)
العالم الذي نعيش فيه، يشبه برية قاحلة، وصحراء جرداء رمالها ساخنة وشمسها محرقة، تجوب فيها الوحوش الضارية. ولكي لا نُصدم بما سيواجهنا فيها أعلن الرب في كلمته المقدسة الحقيقة كاملة سأذكر بعض الشواهد الكتابية على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
"إِنَّ الْبَلِيَّةَ لاَ تَخْرُجُ مِنَ التُّرَابِ، وَالشَّقَاوَةَ لاَ تَنْبُتُ مِنَ الأَرْضِ، وَلكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لارْتِفَاعِ الْجَنَاحِ". "اَلإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ، قَلِيلُ الأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَبًا". وللعلم، لم يقل الكتاب عن الإنسان أنه شبعان إلا في التعب فقط، فالعين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع. ثم يقول الوحي بلسان أيوب: "هكَذَا تَعَيَّنَ لِي أَشْهُرُ سُوءٍ، وَلَيَالِي شَقَاءٍ قُسِمَتْ لِي".
وقال الرب يسوع له كل المجد بفمه الطاهر: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم".
ويقول الرسول بولس: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السماوات". ويقول أيضًا: "كي لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات، فإنكم أنتم تعلمون أننا موضوعون لهذا". ولعل بكاء الطفل عند ولادته لهو أكبر دليل على أن العالم الذي استقبله هو وادي الدموع والبكاء كما نقرأ عنه في كلمة الله.
وإنني أضع أمام حضراتكم حقيقة أكيدة وهي أن التجارب تقع على الجميع، مؤمنين كانوا أم أشرارًا، ولكن شتان ما بين تجارب الأشرار وتجارب المؤمنين! فعن تجارب المؤمنين يقول الكتاب: "كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجيه الرب". فهي مصحوبة بوعد بالنجاة، وأما عن تجارب الأشرار فيقول: "كثيرة هي نكبات الشرير أما الصديق فالرحمة تحيط به".
وقبل أن أخوض في غمار رسالتي هذه أريد أن أقول لكل مؤمن مجرّب: ردد كلمات أيوب:
"إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي، أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَتَبَلَّجُ [أي تنفرج أساريري وأفرح]"، وللفائدة أحدث قرائي الأعزاء في ثلاثة كلمات:

أولا: كروب الزمان

تتصف هذه الكروب بأوصاف كثيرة أذكر ثلاثة منها:
1- قوية: لو رجعنا إلى كلمات الآباء التي دونها الكتاب المقدس لرأينا فيها شدة الآلام.
صرخ يعقوب أبو الأسباط قائلاً: "يوسف مفقود، وشمعون مفقود، وبنيامين تأخذونه. صار كل هذا عليّ". وعندما وقف أمام فرعون وسأله كم هي أيام سني حياتك، أجاب: "أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة وردية". كل إنسان يرى أن كروبه أشد وأقوى من كروب الآخرين، مع أن الكتاب يقول عنها أنها يسيرة. فقد ذكر الرسول بطرس: "الذي به (بالرب) تبتهجون، مع أنكم الآن إن كان يجب تُحزنون يسيرًا بتجارب متنوّعة". كل إنسان يرى أن تجاربه وضيقاته لا تُحتمل.

2- فجائية: قد تبتسم الدنيا في وجوهنا فنظن أننا قد ودعنا الآلام والتجارب إلى الأبد ولكن فجأة تداهمنا المصاعب والكروب دون سابق إنذار. بينما كان أيوب جالسا في بيته، "أَنَّ رَسُولاً جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ: ‘الْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ، وَالأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا، فَسَقَطَ عَلَيْهَا السَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ’". وبينما يتكلم جاء آخر حاملاً خبرًا أكثر سوءًا من الأول، ولم يكد ينتهي من حديثه حتى جاء رسول ثالث ورابع...

3- تنوع الكمية: ثم حدثت لأيوب تجارب أخرى. تقول كلمة الرب أن الشيطان ضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته. فأخذ لنفسه شقفة يحتكّ بها وسط الرماد، وسمع أحاديث جارحة ومؤلمة من شريكة حياته وأصدقائه الذين كان يجب أن يقدموا له العزاء والمواساة.
يتحدث الوحي المقدس عن تنوع التجارب والآلام، أذكر منها قول الرسول يعقوب: "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة"، وأيضًا ما قاله إمام المغنين: "لأنك جربتنا يا اَلله محصتنا كمحص الفضة".

ثانيا: محاولة النسيان


يمكننا أن ننسى كربتنا عن طريق بعض الأمور:
1- أعظم معية: تذكر أخي المؤمن وأختي المؤمنة أننا لسنا بمفردنا في تجاربنا، فإن معنا أعظم إله، وأروع صديق! إنه يلازمنا في مسيرتنا في البرية المتعبة. ولنقرأ ما يقوله الوحي المقدس في المزمور 91: "يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي". ألم يكن مع الفتية الثلاث في وسط أتون النار؟ وألم يكن مع يوسف في السجن؟ قال الرب يسوع: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر". عندما نتذكر أن الله معنا يمكن أن ننسى كربتنا وآلامنا.

2- نظرة واقعية: ننسى كربتنا عندما ننظر إلى من هم أصعب منا حالاً. تحضرني واقعة حدثت في إحدى قرى مصر: كانت عائلة فقيرة جدًا تسكن في بيت لا سقف له. وعندما سقطت الأمطار قامت الأم بخلع الباب ووضعه في أحد أركان البيت وجلسوا تحته. فقال أحد الأبناء: "نحن عندنا باب احتمينا تحته. فماذا تعمل الأسرة التي تسكن في بيت بلا سقف وبلا باب؟".
ثم نظرة واقعية للغرض من التجربة - أحيانًا يضيّق الرب علينا لكي نلجأ إليه، "أضيّق عليهم لكي يشعروا... في ضيقهم يبكرون إليّ".

3- مواعيد غنية: ننسى كروبنا عندما نتذكر المواعيد الإلهية الكثيرة. لقد وعدنا الرب بالنجاة،
"أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي"؛
"لأنه تعلق بي أنجّيه. أرفّعه لأنه عرف اسمي"، "ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم". الرب لا يعدم وسيلة في إنقاذنا لأن له ملايين الطرق والوسائل لإنقاذنا من تجاربنا وآلامنا. فقد أخرج يوسف من السجن بحلمي فرعون، وأنقذ بطرس بملاك، وأنقذ بولس برؤيا لأن الرب الله له في الموت مخارج.

4- فترة التعزية: ننسى كروبنا عندما نتذكر قول الكتاب "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك (تعزيات الله) تلذذ نفسي". نعم، إن الله يعزينا في كل ضيقاتنا. تقول كلمة الرب: "مثل وحيد تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا". إن تعزيات الله ليست قليلة علينا. ألم يقل الرب يسوع: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون"؟؛ "هذه تعزيتي في مذلتي لأن قولك أحياني".

5- الأمجاد السماوية: يقول الرسول بولس: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السماوات". عندما سأل يوحنا عن الذين في السماء من هم ومن أين أتوا، قيل له: "هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وغسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف". ننسى كربتنا عندما نتذكر أن "خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا". وأن "آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا". "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه".

ثالثا: تبديل الأحزان


عندما ننسى كروبنا وضيقاتنا وآلامنا تتبدّل أحزاننا. يقول داود بالوحي المقدس: "حوّلت نوحي إلى رقص لي. حللت مسحي ومنطقتني فرحًا". لقد تبدّلت أحزان يايرس وزوجته عندما دخل يسوع إلى بيتهما وأقام ابنتهما الميتة. وتبدّلت أحزان مرثا ومريم عندما أقام المسيح أخاهما لعازر بعدما كان له في القبر أربعة أيام. إن القلب الذي حل فيه المسيح بالإيمان لن يدخله الحزن أبدًا وإذا حدث أن عبر أحدنا في وادي البكاء سيتحوّل إلى ينبوع عزاء وأفراح.
أعلن ربنا يسوع المسيح حقيقة مجيدة في قوله "الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح". هذا الفرح هو فرح كامل وقلبي وأبدي، ولا يستطيع أحد أن ينزع هذا الفرح منا. وسيسمع كل منا صوت الرب يسوع تبارك اسمه قائلاً: ادخل إلى فرح سيدك.
أخي وأختي، عندما تدخلون في تجارب وآلام، لا تفكروا في التجربة، ولا تتذمّروا منها بل حاولوا أن تنسوها، وافرحوا بها لأنكم بها ستكونون شركاء في آلام المسيح وأمجاده.

المجموعة: أيلول-تشرين الأول Sep-Oct 2012