أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012

الدكتور ناجي منصورذُكرت الكلمة "مرآة" في ثلاث آيات من العهد الجديد، تحمل في كل منها معنى قويًّا ذا مذاق خاص يختلف عن الآخر، وهي:
"فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ" (1كورنثوس 12:13).
"وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إلى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إلى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (2كورنثوس 18:3).
"لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ. وَلكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ ­ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ ­ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ" (يعقوب 23:1-25).
وإذا أردنا أن نضع لكل مرآة عنوانًا نقول:
مرآة اللغز
مرآة التغيير
مرآة العمل بكلمة الرب
وهي مرتبة هنا بحسب الأسفار التي وردت فيها، إنما تعّبر عن ترتيب حقيقي للخطوات التي يمر بها كل من يجيء إلى المسيح ليتخذه مخلصًا شخصيًا له.

أولاً: مرآة اللغز


الإنسان الصادق، قبل أن تبدأ علاقته بالرب يسوع المسيح، يمر بمرحلة استفسارات وتساؤلات يريد إجابة عنها. وكثيرًا ما تبدو هذه الأسئلة وكأنها ألغاز يصعب حلّها، فنجده يتساءل:
هل حقًا يراني الله الآن ويسمعني؟
وهل فعلاً يقدر أن ينتشلني يسوع ويخلصنى مما أنا فيه؟
بل هل من الممكن أن يقبلني الله ابنًا له رغم كل عيوبي وأخطائي وذنوبي؟
وعندما يقرأ الكتاب المقدس تخطر في ذهنه نوع آخر من الألغاز عن كيف ولماذا يفعل الله هذا أو ذاك. وهكذا يتراءى له أنه ينظر في مرآة مليئة بالألغاز! فمن منا لم يمر بهذه التساؤلات قبل أن ينال الإيمان؟ من منا لم يقف أمام فكرة الثالوث المقدس، الآب والابن والروح القدس، ويحاول أن يتفهّمها بقدراته الذاتية ويفشل؟ بل من منا لم يتساءل: كيف يجيء الله القدير والعظيم إلى أرضنا، ويأخذ صورة إنسان، ويُحتقر، ويُعّذب من أجلنا ثم يُصلب ويموت؟
إنها تبدو فعلاً كألغاز، ولا نستطيع تقبّلها بدون إيمان؛ ذلك الإيمان الذي يعطى لنا بالروح القدس، كما يقول الكتاب: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كورنثوس 3:12). والواقع أننا بالرغم من تقدمنا في حياة الإيمان، وازدياد معرفتنا بالرب يومًا بعد يوم، سنظل نعاني من عدم اكتمال المعرفة، منتظرين أن نعلم الكثير عن إلهنا عندما نلتقيه في المجد وجهًا لوجه، كما جاء في الآية الأولى؛ وهي مرآة لا يتجاوب معها ولا يغلبها إلا إيماننا وثقتنا في الرب.
ومتى آمن الإنسان وقبل الرب يسوع المسيح مخلصًا له، صار ابنًا لله وابتدأ يتمتع ببركات هذه البنوة كما يقول الكتاب: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أولاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ" (يوحنا 12:1-13). فالولادة الثانية هي ولادة من فوق نكتسبها بإيماننا بالرب يسوع المسيح وهي ليست بالوراثة "ليست من دم"، ولا بأعمالنا التي هي مشيئتنا الجسدية "ولا من مشيئة جسد"، أو هبة يمنحها إنسان لإنسان "ولا من مشيئة رجل" ولكنها عطية من الله وسلطان منه لنا.

ثانيا: مرآة التغيير


عندما ينال الإنسان بركة الإيمان بالرب يسوع المسيح ويصبح ابنًا لله يسكن في كيانه روح جديد، ويشعر بتغيير في داخله، وسلوكه، وميوله، إذ يعطيه الرب طبيعة جديدة - من أبسط مكوّناتها هي القدرة على الإفلات من قبضة الخطية، والقدرة على التحرر بسهولة من قيد إبليس - فتبدأ تنهار العادات السيئة الواحدة تلو الأخرى من إدمان، وعادات غير مقدسة،  ويبدأ يشعر بأنه فعلاً يستطيع أن يعيش في حرية كاملة بلا خوف من الرجوع؛ طالما هو ممسك بتلك اليد القوية التي جرّبها من قبل، وحررته، وما زالت ممدودة له لتعينه، وتمكنه من الصعود فوق مرتفعات كانت بالأمس تمّثل له جبلاً لا يستطيع حتى الاقتراب منه، ولكن عليه أن يثبت ويتقدم في عملية التغيير هذه التي تتم يومًا بعد يوم - عليه أن يثبّت نظره على هذه المرآة التي لا يرى فيها فقط صورته هو بل يرى فيها أيضًا مجد الرب! ويكون في هذا ضمان كاف لسريان التغيير فيه يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وأثناء ذلك يراقب أعماله وقدرته على تنفيذ وصايا الله، وهذا ما تتطلبه المرآة الثالثة.

ثالثًا: مرآة الأعمال


يقول الرسول يعقوب أنه عندما ننظر إلى هذه المرآة التي نرى فيها وجوهنا وبالتالي عيوبنا وأخطاءنا، ينبغي ألا نمضي ونسير في طريقنا دون أن نقف ونفكر فيما رأيناه في المرآة، ونفكر في حالنا، ولماذا نحن هكذا، وعندئذ نطلب من الله أن يعمل فينا ويغيّرنا لكي نعمل الأعمال التي ترضيه ونكون سامعين وعاملين بالكلمة لا سامعين فقط.
أحبائي، إن الأعمال المطلوبة من الإنسان المسيحي لكي يرضى بها الله، لها مواصفات خاصة يجب أن تكتمل فيها. يجب أن يعلم أن أعماله وحدها مهما كانت صالحة، بدون الإيمان بالرب يسوع المسيح أولاً، تُعتبر أعمالاً باطلة وملوّثة وغير مقبولة من الله. "وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة كل أعمال برنا وقد ذبلنا كورقة وآثامنا كريح تحملنا" (إشعياء 6:64). فالمسيح هو الذبيحة المقدّمة إلى الله لمحو كل خطايا البشر، وينالها كل من يؤمن بالمسيح فاديًا ومخلصًا، وبدون التقدم بهذه الذبيحة لن تُقبل أعمالنا مهما كانت. "فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ ِللهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ" (عبرانيين 15:13). فأعمالنا وحدها ليست لها القدرة على التغيير "اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ" (جامعة 15:1)، ولا تقدر وحدها أن تبررنا  أمام الله "لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ" (رومية 20:3). فتبريرنا يتم بالإيمان أولاً "إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ... لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا" (غلاطية 16:2). ولكن بمقتضى رحمة الله وعمل الروح القدس فينا نخلص من جميع خطايانا ونتجدد "لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ­ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (تيطس 5:3). فالروح القدس يؤيدنا في إنساننا الباطن ويمنحنا النصرة على الشر والشرير.
"لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ" (أفسس 16:3). "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا" (أفسس 8:9–10).

المجموعة: أيلول-تشرين الأول Sep-Oct 2012