الأخت أدما حبيبينظرتُ بين الأقراص المضغوطة سي دي على رفوف مكتبتنا الموسيقية واخترتُ واحدًا منها يحوي ترانيم منوّعة لمجموعة من المرنمين. وحين شَرعتُ بالاستماعِ إليه فوجئت بأنَّ الترنيمةَ الأولى في هذا القرص كانت من الترانيم المفضلة لديّ والتي أنشدتها الأخت ليديا شديد. ولما أنصتُّ إليها ترقرقتِ الدموعُ من عينيَّ وأحسستُ بداخلي حنين إلى أوقاتٍ مضتْ وسنينَ عبَرتْ تلك التي قضيتها في بيروت في السبعينيات.

تلك السنين التي رحلتْ إلى غير رجعة.
لقد أثارتْ فيَّ كلمات هذه الترنيمة التي سمعتُها أحاسيسَ عميقة، وأيقظتْ فيَّ ذكرياتٍ دفينةً لِما تحمله أولًا من معانٍ وحقائقَ كتابية رفيعة وبليغة كنا نتأمل فيها ونحن نرنمها في اجتماع العبادة صباح يوم الأحد في كنيسة الأشرفية في بيروت. وثانيًا لأنها ذكَّرتني أيضًا بأشخاصٍ مؤمنين كان لهم في سني الإيمان باعٌ طويل، لكنَّهم لم يعودوا موجودين، لأنهم رحَلوا عنا إلى الديار الأبدية وصاروا في حضرة السيد الذي رنّموا له وسجدوا وسبَّحوا في حضرته، وكانت لهم معه عِشرة طيبة وعلاقة حميمية، رافقتهم حتى آخر لحظةٍ من حياتهم.
نعم، أقول الصدق، عملت فيَّ هذه الترنيمة عجبًا، إذ أهاجت فيَّ أحاسيس عميقة أرجعتني إلى أيام الحرب في لبنان. صدحتْ ليديا بصوتها الرخيم العذب وقالت:
أرومُ قربًا منكَ يسوع
أجثو لديكَ بروحِ الخشوع
بين يديك ضمَّ فتاك
فإنَّ أمني جراح ُ حشاكْ
وإنَّ روحي المنسحقة
خيرٌ لديك من المحرقة
ما ليَ برٌّ ولا صلاحْ
بل كلُّ برّي بتلكَ الجراح

بالقربِ منكَ أسلو الدُّنى
إذ لكَ نفسي وأنتَ المنى
لا شيءَ يُلهي عنكَ القلوب
إيَّاكَ أهوى يسوعَ المصلوب

ما دمتُ حيًّا في ذي الربوع
زدْني اقترابًا حبيبي يسوع
بعدَ انتقالي إلى سماك
أزدادُ قرْبًا إليكَ هناك
(معرَّبة عن الإنكليزية للكاتبة الأمريكية ليليا موريس من أوهايو)
Nearer Still Nearer Hymn
(Lelia Morris 1862-1929)
ذكرتُ مسبقًا بأنَّ هذه الترنيمة أثارت في نفسي ذكرياتٍ حلوةً ومُرّةً في آنٍ واحد. أما المُرّة منها فلأنَّها ارتبطتْ بمؤمنٍ قديم كان يطلبُ أن تُرنَّم دائمًا في اجتماع العبادة حتى صارتْ جزءًا لا يتجزأ منه. هذا الإنسان المؤمن كان أستاذًا له مقامُه ومركزه الرفيع في المدرسة الإنجيلية في زقاق البلاط في بيروت. الأخ "جميل صفّوري" وهذا اسمه، كان مؤمنًا صريحًا وواضحًا، يشهدُ دائمًا لطلابه عن فاديه الرب يسوع المسيح. لم يهمّه قطُّ من أي فئة كان طلابه، بل كان جريئًا يبلّغ كلمة الله ويكرز برسالة الإنجيل أينما حلَّ وحيثُما وُجد. وفي أحد الأيام، وبينما الحرب الأهلية مستعرةُ الرّحى في بيروت، ما بين المنطقة الشرقية (المسيحية) والمنطقة الغربية (غير المسيحية) حيثُ تقع المدرسة الإنجيلية، اختفى هذا الأستاذ فجأةً ولم يعد يوجَد. سأل عنه الأقرباء والأصدقاء وطاقم المعلمين والمعلمات والإدارة ولكن دون جدوى. فتش عنه الكثيرون لكن دون أن يصلوا إلى نتيجة. فالحرب قائمةٌ ولا نظامَ ولا قانونَ، بل شريعة الغاب هي التي كانت تسيطر في ذلك الآن. وحين استُقصي أكثرَ عن أمر اختفائه، عُرف أنَّ هناك امرأةً كانت ترتدي الحجاب قد حضَرتْ إلى المدرسة مدّعيةً أنَّها أمٌّ لأحد طلابه، وطلبت منه أن يصحبها إلى بيتها ليعطي ابنها دروسًا خاصة فذهب معها ولم يعد يُرى من حينذاك.
وبعد مرور أيام عديدة قاربت الأسبوع، أُعلن في الجريدة بأنَّ هناك جثةً وُجدتْ مرميةً تحت أحد الجسور في بيروت. وحين تحقَّق المخفرُ من حقيقتها جاء الخبر المحزن والمفزع. نعم، لقد تمَّ التعرُّفُ على الجثة المقطوعة الرأس، إنها للأخ الأستاذ جميل صفّوري. لقد غدرتْ به يدُ الإجرام والكراهية.
وعندما انتشر الخبرُ الصاعق بين الكنائس في بيروت، كان الوضعُ حرِجًا للغاية بالنسبة للمكان الذي يمكن أن تُقام فيه مراسيم الجنازة. وبعد التداولِ بين الكنائس العديدة في المنطقتين وأخذٍ وردٍّ ارتأى الجميع وبسبب الخوف الذي عمّ الكبير والصغير، بأن تُجرى المراسيم في كنيسةٍ معروفة واقعة على الخط الفاصل بين المنطقتين تدعى المتحف. وجاء اليوم الأليم، وذهبنا أنا وزوجي وكلُّ فريق العمل في مكتب الإذاعة آنذاك برفقة المسؤول عنا إلى تلك الكنيسة. وما أن دخلنا وجلسنا على المقاعد حتى أُوتيَ بالنعش محمولًا على الأكف، واستقبله القس خادم الكنيسة حينذاك بصوتٍ متحشرجٍ وبعيونٍ دامعة وبكلمات مؤثرة فاه بها أبكت الجميع. قال:

JamilSaffouri

"نستقبلك أيها الأخ الشهيدُ البطل جميل صفّوري، أيها المؤمن الفذُّ والجريء، الذي بموتك تتبَّعت آثارَ يوحنا المعمدان، إذ فُصلَ رأسُك عن جسدك بسبب إعلان الحق، ورفع اسم المسيح عاليًا."
وفاضت مآقينا جميعًا بالدموع ولم نعد نسيطر على عواطفنا، وبكى المجتمعون من الكبير إلى الصغير. وما أنِ انتهتِ المراسيمُ حتى أُخذ الجثمان ليُوارى الثَّرى وسطَ أجواءٍ محمومةٍ ومشحونةٍ بالبغضِ والكراهيةِ بين منطقتيْن تشتعلان يوميًا بالنار والكبريت.
عُدنا إلى بيوتنا، وأحداثُ ذلك اليوم لم تبرحْ مخيلتنا، لا ولن تبرحَ من ذاكرتي ما دمت حيّةً لأنها هناك مطبوعةٌ فيها ومدفونةٌ في أحاسيسي في أعماق نفسي. نعم، لقد انضمَّ الأخُ في ذلك اليوم الذي انفصل رأسه عن جسده، إلى قائمة أبطال الإيمان المشهود لهم في سفر العبرانيين. وهناك في الفصل الحادي عشر منه، سجَّل لنا الوحي المقدس أسماء طائفة طويلة من أبطال الإيمان الذين ماتوا في سبيل الحق، ولدحْض الباطل. ماتوا استشهادًا في سبيل الحق، ولدحض الباطل. ماتوا لأجل إيمانهم القويم ووقفتهم الشجاعة. قال الروح القدس على فم الكاتب:
"... وآخرون عُذّبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجرّبوا في هُزء وجلْد، ثم في قيود أيضًا وحبس. رُجموا، نُشِروا، جُرّبوا، ماتوا قتلا بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين مكروبين مُذلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض. فهؤلاء كلُّهم، مشهودًا لهم بالإيمان..." (35:11 و39)
إلى هناك آلَ به المآل، وفي حضن راعيه الصالح حطَّ به الرحال، وبين أذرع فاديه الذي أحبَّه، واستَشهد من أجله، انضمَّ إلى بقية الحِمْلان ليبقى إلى الأبد معه وفي حضرته البهيَّة. وهكذا سكَن في بيت الآب إلى مدى الأيام.
ترى، هل نروم، أنا وأنتَ وكلُّ قارئ كريم، قربًا إلى يسوع؟
هل نحب أن يكون لنا معه عشرة قوية في هذه الربوع؟
هل نبغي أن نكون في حضرته دائمًا وفي كل حين؟
كلّما قضينا وقتًا مع فادينا، اكتشفنا أنفسنا بأنها صغيرةٌ صغيرة، وأنها لا شيءَ دونَه هو. فبالقرب منه نسلو الدُّنى، ولا يعود يُلهينا عنه أي شيء. إيَّاه وحده نهوى، وهو وحده الرفيق والخليل الذي يحلو الحديثُ معه سرًا ولا رفيق. هو رجاؤنا الأكيد في هذه الربوع، ورجاؤنا القريب حين نلقاه وجهًا لوجه. عندها مرامُ القُرْب منه وعدمِ الانسلاخ عنه يتحقَّق بالكامل، ونصبح في حضرته إلى أبد الآبدين. فهل ترومُ وتتوقُ إليه يا صديقي؟

المجموعة: حزيران (يونيو) 2018