الأخ منيرفرج الله"هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد." محبة مكلفة، غالية، غالية جدًا.
تعوّدت أذناي في الولايات المتحدة، أن تسمعا كلمة "أحبك كثيرًا"، ولم تعودا تهتزان لها أو تطربان بها. كلمة عابرة تُقال في كل مناسبة ولكل شخص حتى فقدت معناها.

هناك في زمن غير الزمان، وبلد غير هذا البلد، هي كلمة نادرة شحيحة غالية ولها وقع كبير على الأذن وتقدير خاص يُمتِع السمع ويطرب النفس.
كثيرون في هذا الجيل يرون الحب متعة يتمتّعون به ليشبعوا احتياجًا أو شهوة أو نزوة. يهينون الحبّ ويمسخونه ويشوّهونه. الحب أسمى عاطفة وأغلى المشاعر. الحب عطاء لا أخذ. الحب ليس استنفاعًا بل إنفاعًا. الحب عاطفة إلهية سماوية، فالله محبة. الله أحب حبًا جعله يبذل ابنه الوحيد. ويسوع المسيح أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا. الحب جعل الله يبذل ابنه على الصليب. والحب جعل يسوع المسيح يسلم نفسه للموت. ويوصينا السيد بكلماته المباشرة لتلاميذه ودوّنها يوحنا في الأصحاح الخامس عشر من بشارته، قال:

– "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم."

ويفسر كلمة "أحببتكم" لهم ولنا فيضيف:

– "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ."

لا، يا سيد. لا يوجد حب أعظم من هذا، ولا يوجد من أحبّ حبًّا بهذه الروعة إلاك يا رب! ولو تابعنا حياة الرب يسوع وأعماله لوجدناها تجسيدًا حيًّا لتلك الدرجة من الحب.

∗   ∗   ∗   ∗   ∗   

كل قصة حب نقرأها في الكتاب المقدس نجد فيها مقايضة ومبادلة. كتب لوقا عن يسوع وهو في بيت سمعان الفريسي الذي دعاه للعشاء: ودخلت امرأة خاطئة البيت وبيدها قارورة طيب. ركعت عند قدمي يسوع تبكي وتبللهما بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب. يسوع وهو يسمح لها بلمس قدميه، أخذ عنها خطيئتها ووهبها غفرانًا لخطاياها. استبدل خزيها وعارها وأعطاها غفرانه وتبريره.
وحين دخل بيت زكا العشار الخاطئ، حمل عنه خطاياه، وازدراء الجموع به، ومنحه مقابل ذلك خلاصًا وإعلانًا بأنه ابن إبراهيم، "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك."
وفي مثل الابن الضال، رأى الأب ابنه عائدًا وإذ كان لم يزل بعيدًا، أسرع وركض نحوه ووقع على عنقه وقبّله. هرولة الأب، وركضه نحو ابنه لم يكن شيئًا هينًا حينئذ، فالكبير له هيبته وكرامته ومكانته. لكن محبة الأب لابنه وفرحته برجوعه بعد غيبة طويلة، جعلته ينسى هيبته ويتحنن عليه ويندفع نحوه معانقًا مقبّلاً، ويأمر عبيده بتكريم ابنه والاحتفاء والاحتفال به. هكذا الحب... خلع الأب عن ابنه ملابسه الرثة الممزقة التي تفوح منها رائحة الخنازير الكريهة ومهانة الضلال، وألبسه الحلة الأولى ووضع حذاء في رجليه وأقام له وليمة عظيمة!

∗   ∗   ∗   ∗   ∗   

على مدى ثلاث سنوات جال يسوع يبشر المساكين ويشفي المنكسري القلوب وينادي للمأسورين بالإطلاق... المأسورين بأمراض جسدية أو روحية. وعلى الرغم من العدد الكبير الذين شفاهم، فإن ذلك في نظره لم يكن كافيًا بل سعى لشفاء الجميع، وتحرير كل المأسورين. لذلك ذهب إلى الصليب. وحتى يفهم التلاميذ، قال لهم:

–  "تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلَّم ليُصلب."

كانوا يعلمون أنه بالاحتفال بالفصح، يذكرهم كيف كان دم الذبيحة نجاة لهم ولأبكارهم من الموت، لكنهم لا يعلمون ما الذي يربط الفصح بيسوع! وبينما هم متكئون معه للعشاء، أرادهم أن يدركوا ما سيحدث وهم يتناولون الكأس، قال:

–  "اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا."

رغم وضوح فكرة سفك الدم في الفصح لمغفرة الخطايا، لم يدركوا أنها كانت رمزًا إلى صلبه! الفصح عندهم وعند بني إسرائيل لأجيال وأجيال هو تقديم ذبيحة من الغنم ورش دمها على المذبح للحصول على غفران لخطاياهم. لكنهم لم يدركوا أن يسوع نفسه هو ذبيحة العهد الجديد وسيُسفك دمه عنهم. حين أخبرهم أنه هو الراعي الصالح وأنه "يضع نفسه عن الخراف،" لم يستوعبوا أن المسيا، وهم يظنونه كذلك، يموت لأجل أحد. بالعكس، كانوا ينتظرون انتصاره على أعدائهم وإنقاذهم من عبوديتهم. أما يسوع فكان قبل أن يشفي مريضًا من مرضه يغفر له خطاياه. فيتذمّر الفريسيون ويتعجبون قائلين: مَن هذا الذي يغفر الخطايا؟! هو الذبيح المجروح لأجل معاصينا والمسحوق لأجل آثامنا. يسوع الذي أحبنا إلى المنتهى، وضع نفسه لأجلنا وسال دمه على خشبة الصليب كما يسيل دم الحمل على المذبح ليغسل خطايا مقدمه. دم يسوع المسيح وحده هو الثمن المقبول المسفوك لمغفرة خطايا الإنسان.

∗   ∗   ∗   ∗   ∗   

حين الله خلق الإنسان خلقه على صورته كشبهه طاهرًا صالحًا بارًا بلا خطية، لكنه استسلم لخديعة الحية واقترف الخطية. وعصى الله وأصبح مستحقًا الموت جزاء ذلك العصيان. طُرد من جنة عدن، وعاش في الأرض حاملاً عار الخطية ولعنتها، وكان الله رغم محبته لا يتجاهل عدالته، ولتحقيق ذلك كان لا بد من دفع ثمن الخطية. ونفّذ الله عدالته في ابنه ليسكب محبته ورحمته على الإنسان فيحيا. ليس غير ابن الله يقدر أن يدفع الثمن بدمه، فجاء آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس وأطاع حتى الموت. حمل يسوع خطايا البشر واعتلى بها الصليب ليكون الذبيحة الوحيدة المقبولة عن خطايانا. أقسى الألم الذي عاناه يسوع لم يكن الضرب أو الجلد أو البصق أو الإهانة. ولم يكن بسبب خيانة تلميذ وإنكار آخر له. أقسى ما واجهه يسوع على الصليب هو تخلّي الآب وانفصاله عنه. هذا ما جعله حزينًا وهو في جثسيماني يجاهد في صلاته، وعرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. كان يعلم أنه وهو حامل خطايا الإنسان لا بد أن يتركه الآب. الصرخة الوحيدة التي أطلقها يسوع وهو على الصليب، كانت في الساعة التاسعة:

– إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟

من قبل أن يكون زمن... من الأزل لم يترك الآب الابن إلا وهو على الصليب. ذلك كان أقسى ألم تحمّله يسوع المسيح مقابل محبته وخلاصه لنا.
ما أعظم هذا الحب، وما أفدح هذا الثمن الذي دفعه الله! فيه بذل... بذل الابن! وما دفعه يسوع المسيح: تركُ الآب له وسفكُ دمه على الصليب.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2018